أقلام فكرية

واقعية العلوم ومشكلات الواقعية

حاتم حميد محسنلا يمكن للواقعية في العلوم ان تكون مستقلة عن التجربة الانسانية، والاً فانها ستنتهي الى معاناة كبيرة حين تواجه مفارقات غير واقعية.

الافكار الاساسية:

1- لدى العلم الكثير من القول حول طبيعة الواقع.

2- مشكلة الواقعية في العلوم هي انها تفضل التجريدات على التجربة اليومية.

3- العلم هو موضوعي لأنه يسمح لنا بخلق خرائط نستطيع اختبارها مجتمعة عبر مقارنتها مع نتائج التجارب.هذه هي الواقعية الحقيقية.

الواقعية كمفهوم

تخبرنا العلوم وخاصة الفيزياء عن طبيعة الواقع. هل ان العلم يعطينا مدخلا لحقيقة موضوعية تامة توجد في مكان ما وبشكل مستقل عنا؟ ام ان هناك شيء ما حول طبيعة الكائن البشري هي التي تلوّن كل شيء؟

الانقسام الكلاسيكي A classical divide

في الفلسفة، يشير مصطلح واقعية realism الى الموقف بان هناك عالم في الخارج مستقل عنا. العالم مصنوع من مواد لها خصائصها المتأصلة التي يمكن معرفتها بحد ذاتها. العلم يقدم الوسائل لتقرير تلك الصفات. مصطلح الواقعية عادة يتعارض مع المثالية،التي تؤكد بانه فقط بعض الأشكال من "الذهن" توجد حقا. الواقع الحقيقي، طبقا للمثالية، يتطابق مع التجريدات المثالية الخالصة. مثال على ذلك هو فكرة افلاطون بانه فقط الشكل الرياضي للدائرة موجود حقا، وليست الأشكال الرديئة للدوائر التي نفهمها من خلال حواسنا الضعيفة. هذه المعركة بين الواقعية والمثالية كانت مستمرة منذ وقت طويل.(افلاطون أضفى عليها الطابع الرسمي في الفلسفة الغربية).هذا يخلق نوعا من الثنائية حيث اذا كنت مثاليا،فانت ايضا ضد الواقعية.

ولكن الآن، هناك منْ هو عالم وبنفس الوقت ليس مثاليا، لذا هو لن يقبل تسمية ضد الواقعية.

ان الطريقة التي تجادل بها الواقعية في النقاشات الحديثة حول حدود العلم هي كسولة وغير مثيرة للاهتمام. فهي بطيئة وتفشل في انتهاز الفرص وايجاد الحلول. هناك طرق اخرى لمواجهة الواقعية غير طريقة الانقسام المألوف بين واقعي/مثالي.

تجريدات الواقعية Realism’s abstractions

ان مشكلة الواقعية حتى الآن هي انها تأخذ التجريدات التي يستعملها العلم لوصف التجربة وتحوّلها الى مواد خام للواقع، حتى عندما يثير ذلك الموقف مشاكل كبيرة. وظيفة الموجة في ميكانيكا الكوانتم هي مثال أصلي على هذا. وظيفة الموجة هذه هي الشيء الرياضي الذي يستعمله الفيزيائيون لوصف  ظاهرة كبيرة مثل الذرات والتنبؤ بسلوكها . انها ايضا مصدر الكثير من الغرابة في فيزياء الكوانتم، مثل وجود الجسيمات في مكانين في وقت واحد.

لكن هذا النوع من الغرابة يظهر فقط عندما  يكون أحدنا واقعيا حول وظيفة الموجة. اذا انت تفهمها كشيء خارجي واقعي مثل الطاولة او الكرسي عندئذ، نعم، الالكترون يمكن ان يكون في مكانين في وقت واحد. في تلك الحالة يتوجب عليك القيام  بسلسلة من اليوغا الميتافيزيقية لتفصل نفسك عن مفارقة ذلك الموقف. مثال آخر لمفارقة الواقعي يأتي من كتلة الكون، وهو المظهر المتعلق بنظرية النسبية العامة لاينشتاين. طبقا لهذه الرؤية، فان الطبيعة ذات الأبعاد الأربعة للزمكان تعني ان جميع الأحداث – الماضي والمستقبل – توجد سلفا ووُجدت دائما. هذا الشكل من القصة الواقعية ينتهي بإزالة الحاضر الحقيقي، والذي هو الشيء الوحيد الذي نتعامل معه حقا في حياتنا اليومية.

مغالطات الواقعية Realism’s Fallacies

الفيلسوف الكبير والرياضي الفريد نورث وايتهد سمى هذا النوع من التفكير بـ "مغالطة التجسيم او التشيؤ"(1). حيث ان الواقعي يفضل التجريدات التي يستعملها العلماء لوصف تجاربنا على الاشياء الملموسة. هذا يخطئ فهم خارطة لمنطقة معينة. الخارطة هي مانبنيه لمساعدتنا للاستفادة من التجربة العلمية (تجربة، ملاحظات، وما شابه)، لكنها لاتزال تعتمد على تجربة اكثر اساسية للحاضر. هذا الفهم  يفتح منظورا يمكنه نقلنا الى ما وراء الانقسام الواقعي العادي/المثالي. بناء مثل هذه الرؤية يفتح أمامنا فلسفة تأخذ اسماءً مثل فينومينولوجي او برجماتية، بالاضافة الى افكار من الفلاسفة البوذيين مثل ناجارينا.

بالتأكيد نحن نستطيع ان نرى ان هناك عالم بدوننا. لكن الأوصاف التي نخلقها بالعلم لا يمكن ان تكون ابدا مستقلة عن منظورنا. انها لا يمكن فصلها عن تجاربنا ككائنات انسانية متجسدة، كل واحد منا يستعمل لغات منقولة من جماعات انسانية. من هذه الرؤية، العلم ليس موضوعيا لأنه يشير الى بعض المُثل في عين الله. بينما في الحقيقة، العلم هو موضوعي لأنه يسمح لنا لخلق خارطة نستطيع اختبارها  بمقارنتها مع نتائج التجربة. هذه هي الواقعية الحقيقية. أي شيء أقل من هذا يتركنا مع تفكير مثالي مُحكم لواقع مستقل ليس له مكان في تجربة العيش والتنفس. انه ينتهي بشقاء وأوهام المفارقات غير الحقيقية.

***

حاتم حميد محسن

...............

الهوامش

(1) مغالطة التجسيم او التشيؤ Fallacy of misplaced concreteness هي حالة من الغموض، فيها يتم التعامل مع المجردات (عقيدة مجردة او بناء افتراضي) كما لو انه حدث واقعي او وجود فيزيقي ملموس. بكلمة اخرى، الخطأ هو في اعتبار شيء غير ملموس كالفكرة، شيئا ملموسا. المثال الشائع عن هذه المغالطة هي الخارطة "الخارطة ليست هي التضاريس على الارض". المغالطة عادة هي جزء من استعمال اللغة الطبيعية، تماما كما في الادب، لكن استعمال التجسيم او التشيؤ في التعليل المنطقي سيكون مضللا ومثيرا للاضطراب.

في المثقف اليوم