أقلام فكرية

مأزق التحول اللغوي ونظرية المعنى

علي محمد اليوسفالتيه العدمي الذي وضع نيتشة الانسان فيه منذ نهايات القرن التاسع عشرفي مقولته الاستفزازية الملغمّة موت الاله أستقبلته البنيوية في أعتمادها مرتكزين الاول أن الانسان كوجود مأزوم قلق ليس من المتاح أنقاذه في المدى المنظور بل ولا أهمية تسترعي الاهتمام به كبؤرة مركزية تدور في فلكها الفلسفة والعلم والمعرفة واللغة والحياة، والمرتكز الثاني هو علم اللغة كمفهوم مستحدث خارج منظومة الحياة مستقل لا علاقة تربطه بما أصطلح تسميته السرديات التاريخية الكبرى من ضمنها سردية الدين... كلاهما الانسان كوجود ومنظومة اللغة في إنفصالها عن الانسان والواقع جرى أقصائهما العمد على لسان دي سوسير مخترع لعبة اللغة القائمة على إزدواجية المفهوم وليس أزدواجية المعنى التي كانت مفتتح تجربة جديدة في إستقبال الايديولوجيا الفلسفية المستمدة من نيتشة في توظيف اللغة كأداة هدم وتقويض زادت عليه البنيوية تطرفا أسلوب (القوة الناعمة) بالفلسفة اللغوية والتاويل وهو مصطلح نحته لأول مرة بضوء هذا الترسيم الفلسفي الذي أرادته البنيوية عسى أن يحظى بمطابقة الإحالة الصحيحة في التقويض البنيوي- التفكيكي لعالم الانسان من دون الانسان كجوهر في الطبيعة والحياة.

وبهذا الترسيم العدمي البعيد جدا عن إعتماد إيديولوجيا السياسة التي إستهلكت نفسها على هامش نقد الفلسفة الفضفاض إذ لم تعد أيديولوجيا السرديات الكبرى وسيلة هدم وبناء كما هو المرجو منها فأستأثرت الفلسفتان البنيوية - التفكيكية تحديدا ملء فراغ الهدم والتقويض اللغوي دونما البناء في إعتمادهما أسلوب قوة اللغة الناعمة في تنفيذها المطلوب، وسرعان ما تبنّى أقطاب البنيوية كلا من بارت وفوكو ولاكان والى حد ما على صعيد ما نقصده منطلقات فلسفة اللغة الناعمة في المراجعة والتقويض إنضمام كلا من شتراوس في الانثروبوجيا (اثنولوجيا الاقوام البدائية) تاريخا وكلاما على اعتبار اللغة الصوتية الابجدية ولا مدوناتها الاشارية مخترعة بذلك الوقت، والتوسير في إستهدافه السردية الماركسية الكبرى الشاخصة في كتاب رأس المال.. وبارت على صعيد الادب في موت المؤلف، ولاكان في نقده علم النفس الفرويدي، وفوكو في أستهدافه كل شيء يطاله بدءا من إلغائه الانسان والعقل وليس انتهاءا بالجنسانية والجنون وسلطة القمع والمنع والسجون..

إذا ما سمحنا لأنفسنا تجاوز المسار الفلسفي المعقد المتشعب لأقطاب البنيوية سنجد أنفسنا نتوقف أمام تداخلاتهم مع أبرز إمتداد فلسفي لتطويرمفهوم علم اللغة واللسانيات في مشروع بول ريكور فلسفة التاويل الذي يقوم بالاساس الاشتغال على تطوير منحى التاويل البنيوي الذي جاء تتويجه حين وجد ريكور مشروعه التاويلي اللغوي يستثمر أتجاهات الفلسفات الغربية الحديثة جميعا، البنيوية، الوجودية، التاويلية، الماركسية، العدمية، ونظرية الثقافة، والتفكيك، والتحليل اللغوي ونظريات علم اللغة، وأخيرا انثروبولوجيا الدين . وقد أفاد ريكور في منهجه البنيوي التأويلي أيضا من ميراث فلاسفة التاويل غادمير، وشلاير ماخر، وأخيرا دلتاي..

الإنفصامية المرضية فلسفيا التي وضعت الانسان كوجود مركزي طارد في مأزق الإحتضار السريري التي كانت البنيوية أضطلعت بالمهمّة الكبرى تنفيذه في حقنها ذلك المريض المحتضرالانسان كوجود مركزي بالحياة الذي خرج من محنة الحداثة وما بعدها في تقويضهما كل مكتسباته التي حققها له عصر النهضة والانوار والحداثة، نقول عمدت البنيوية تشييئها الانسان الإلغائي كوجود محوري تدور في فلكه كل ماسمّي بالمعارف والعلوم والسرديات الكبرى على ما شابها من قصور لم يكن الانسان مرتكز ذلك القصور كسبب ولكن كان المساهم الاكبر الوحيد الذي ناء بحمله عواقب ذلك القصور لزمن طويل الى اليوم في تحميلهم عبء العقل القاصر وخيانة المعنى اللغوي...

هذا الإنفصام المرضي الفلسفي الذي تبنته البنيوية بضراوة كان إعتمادها مفهوم الاكتفاء الذاتي في منظومة اللغة الانفصال التام عن الواقع الانساني بغية الوصول الى معرفة حقيقية للعالم على وفق قراءة لغوية بنيوية نسقية جديدة تنقذ اللغة من إحتكار علاقتها بالواقع وإستئثارها التعبير عنه وحدها.. ..ولم تعد اللغة مرتهنة وظيفيا وسيليا في تجسير فهم الواقع بتعبير اللغة السطحي المعتاد على حد سوق ذرائع البنيوية كفلسفة حضور لمفاهيم ما بعد الحداثة..وهذا الإنفصام جعل من الأنظمة اللغوية في البنيوية وتأويلية بول ريكور أنظمة مغلقة مكتفية ذاتيا تنطوي ضمنا على جميع العلاقات الممكنة بداخلها، وبالتالي لا يبقى من علاقة ضرورية تجمع اللغة بالعالم الخارجي في تمثّلات اللغة له.

واضح المقصود بالخارج اللغوي هو العالم الواقعي الخارجي للانسان بما هو الحياة في تمثّلات اللغة التعبيرية عنه تداوليا كلام تحاوري مجتمعي.. وليس بالمعنى الفلسفي الذي عّبر عنه دي سوسير أن اللغة تمتلك نظامها الداخلي الخاص بها ولا حاجة للواقع الخارجي التعريف بها، وكذا الحال معكوسا أن الواقع بكل منظوماته التكوينية له يحقق الكفاية الذاتية بمعزل عن أهمية اللغة الاسهام بهذا التوضيح لمعنى الحياة..

وعندما تبطل وسيلية توظيف اللغة ويجري إنسحابها من ميدانها ألمألوف في مهمة التمثلات الواقعية للعالم الخارجي فهي تكون أنساقا لغوية خاصة بما هي منظومة علائقية تجريدية قائمة داخليا بعالمها الخاص بها خارج مهمتها التعبير عن الواقع ما يرتّب ذلك أن الواقع الانساني الحيوي يكون التعبير عنه بالكلام الشفاهي وليس باللغة المكتوبة التي تكون لوحدها خطابا يبحث في العلاقات النسقية للاشياء بما هي صيرورات متداخلة متنوعة داخل بناها اللغوية وليس في عالمها الخارجي المرتبط بالانسان الذي أصبح لا يمتلك سوى اللغة في توكيد وجوده الانساني..

هذه الواقعة المعتمدة بنيويا بموجبها تعتبر نفسها فلسفة نمطية نسقية كليّة من التفكير الجوّاني الذي يعتمل ويتكوّن داخل السيرورة اللغوية بما هي نسق معرفي مستقل يهتم بعوالمه المخترعة لغويا ولا قيمة للواقع والانسان في علاقة الربط بينهما وبين اللغة...هذا النمط النسقي اللغوي (يكون تفكيرا يتخطى جميع الاشتراطات المنهجية، حينها لم تعد اللغة وسيطا بين العقول والاشياء) على حد تعبير ريكور. فقد تم إغتيال الواقع الحياتي ملاذ الانسان الاخيربأستعداء اللغة عليه وركنه جانبا خارج إهتمامات الفلسفة..بعيدا عن كل إشتراط منهجي عقلي مخالف لهذا التوجه المنحرف..

هناك حقيقة متداولة عمرها عشرات القرون هي أن اللغة تفكير العقل المدرك في معرفة الاشياء والتعريف بها، واللغة هي الوسيط التعريفي بين العقل والاشياء في تعالقهما معرفيا.. هذا الفهم إعتبرته البنيوية ومن بعدها التفكيكية في إعتمادهما منظومة علوم اللغة واللسانيات والتاويل والتحليل والإحالة والإرجاء مرتكزا فلسفيا في فهم العالم والانسان في عالمه الخارجي لم يعد له تلك القيمة المطلقة التسليم بصحتها وحقيقة الانسان خارج المنظومة اللغوية لاشيء كما هي اللغة من دون الانسان لا معنى لها لا معرفيا ولا فلسفيا.. هذا التوجه في أخراج الانسان من الحياة والتاريخ قاد مأزق الانسان الوجودي بالحياة الى أكبر منه، فاللغة هي تجريد علاماتي خطابي في فهم الانسان وعالمه الخارجي، فكيف باللغة عندما تكون في الفلسفة البنيوية والتفكيكية تجريدا مضافا لتفسير تجريد سابق عليه في الإنفصال التام التعبير عن الواقع الانساني والحياة؟ انفصال اللغة عن الحياة كما هو متداول اصبحت نسقا لغويا ادخلت تاريخ الفلسفة في نظرية فائض المعنى وقصور اللغة في متاهة البحث عن معنى كل شيء في وضعه امام علامة استفهام لا تجد اجابتها.

فنجشتين فيلسوف اللغة المعروف أراد إخراج اللغة من عنق الزجاجة كما يقال الذي هو النفق الذي أدخلته البنيوية ومن بعدها التفكيكية فيه حين أعتبرتا النظام اللغوي المكتفي بصنع عوالمه الذاتية المستقلة كنسق يسير في توازيه مع الواقع المعيش هو منظومة اللغة أو الخطاب الواجب الإهتمام به.. وليس من مهمة هذا الخطاب اللغوي المنعزل عن تفسير العالم الخارجي ومركزية الانسان فيه الذي بشّرت به الحداثة لأكثر من قرن.. ولا أهمية يمتلكها إنسان ما بعد الحداثة ليحتكر محورية التفكير بالحياة والوجود والتاريخ فلسفيا وعلميا وسياسيا ايضا....

أمام هذا الفهم الفلسفي البنيوي التهميشي الذي زرع بذرته الاولى فينجشتين في كتيبّه (رسالة منطقية فلسفية) عن قصور فهم وليس عن خطأ متعمّد مقصود حاول تصحيحه لاحقا لكن تلك الأخطاء التي تضمنتها المخطوطة مهدّت لبروز ظاهرة التطرف اللغوي في البنيوية والتفكيكية من بعده، وأستثمرته البنيوية والتفكيكية والعدمية بعد وفاة فينجشتين إستثمارا سلبيا بشعا حتى بعد طرح فينجشتين في كتيبه الاخير(تحقيقات فلسفية) الذي حاول فيه تصحيح أخطائه في رسالته المنطقية... ويبدو بفضل نقودات عديدة وجهت لمخطوطته الفلسفية الاولى في الرسالة المنطقية تراجع فينجشتين وأراد التصحيح في كتابه التالي تحقيقات فلسفية قائلا ما معناه أن تمثّلات اللغة للواقع هو تلك الحيوية الخلاقة التي تبعثها اللغة في جسد ذلك الواقع المعيش في الوقت نفسه التي تكتسب هي- اللغة - حيويتها الحضورية في تطوير نظامها اللغوي بتأثير من الواقع الذي تحكمه الصيرورة أيضا كما تحكم الواقع بذات الحين..

وفي حال العجز من تحقيق هذه المهمة فسوف لن يكون للغة معنى يمكن حضوره وعليه يكون صمت اللغة في العجز أجدى وأكثر حيوية من التعبير عن اللامعنى في التشبث بنحو وشكلانية اللغة من حيث هي لغة فقط على حساب إلغاء المضمون الفلسفي المرجو تحقيقه في حل إشكاليات مفاهيم الفلسفة العالقة بوسيلية تعبير اللغة الإلتباسي وليس حل مشاكل نحو اللغة بما هي تجنيس في الادب على حساب تنحية مفاهيم الفلسفة عن طريق ماسمّي التحول اللغوي كتجديد تاريخي .هذا التحذير الذي نادى فينجشتين به أن اللغة لا تستمد فعاليتها القصوى إلا في صيرورة الحياة وجريانها المتدفق والانسان جزء هام في هذه المنظومة التي هي مصنع الحيوية البشرية للحياة والوجود..

والذي تبنته الفلسفة التحليلية الانجليزية عّبررفضها والتقاطع مع رائد فلسفة التاويل اللغوي بول ريكورالذي هو أمتداد وتطوير منطلقات البنيوية في اللغة قوله ( لم تعد اللغة بوصفها صورة الحياة كما أراد لها فينجشتين، بل صارت نظاما مكتفيا بذاته يمتلك علاقاته الخاصة به) . وكان سبق لأقطاب البنيوية أن أخرجوا اللغة بوصفها خطابا لا تتحدد مقاصده في تعابير المفردات اللغوية المنفصلة التي لا ينتظمها سياق الجملة وموقعها في بنية النسق الخطابي داخليا..وعبّر عن هذا المعنى دي سوسير(أرجحية الكلام على اللغة بأعتبار الكلام فردي تعاقبي وعارض، واللغة أو اللسان هو الاجتماعي والتزامني والنسقي لذا يكون الخطاب بدلا من الكلام).

منطق دي سوسير هو تنحية الكلام عن مهمته واسطة التعامل المتحاور مع الواقع الحياتي، في أزاحته التنافسية عن طريق فهم اللغة أنها منظومة خطاب متكامل مكتف ذاتيا في تصنيعه عوالمه اللغوية، ويرى سوسيرالكلام فرديا تعاقبيا عارضا، أي أنه محاورة مجتمعية من الكلام الشفاهي، تسمه بصمة فردية المتكلم، والتعاقب الحواري في تنوع المصدر الفرد المتكلم وما يحمله من محمولات الحديث العابر، وهو أي الكلام أخيرا عارض مؤقت زائل لإنتهاء دوره الإستعمالي التوظيفي في التواصل الحواري التخاطبي التداولي مع إنتهاء وتفرّق المتحادثين المشاركين في إنتاجية وإستهلاك الكلام الجماعي في التحاور.فالكلام يختلف عن اللغة الصوتية أنه لا يصلح لتدوين مكتوب يلازمه ملازمة تدوين الكتابة اللغوية.

بينما تكون اللغة حسب فهمنا عن دي سوسير خطابا تدوينيا ثابتا مكتوبا في الغالب حين يكون نصّا.. يحكم ذلك الخطاب نسق من العلاقات الداخلية التي تجعل منه بؤرة مركزية ثابتة الفهم والقيمة على المدى البعيد على خلاف الكلام الذي يستهلك نفسه في الشفاهية التحاورية في وقتية زمنية زائلة يطالها التزامن العرضي..

نعود الآن الى مبتدءات فهمنا معنى الكلمة أو المفردة هو أنها لفظ صوتي مسموع دال وصوري مكتوب خال من المعنى ما لم يكن متضمّنا دلالته المحمولة بمعناه القصدي سلفا، وفي هذا تجد البنيوية تبسيطا مخّلا عندما لا يكون معنى المفردة مستمدا من سياقها المنتظم في جملة نسقية تشي عن عبارة تحمل معنى متكاملا ونجد تعبير ريكور بهذا المعنى (الجملة وحدة الخطاب الاساسية التي تشمل وحدات أكثر تعقيدا، وتعاقب الكلمات بالجملة لا معنى ينتظمها ما لم تكن ضمن وحدة نسقية تحمل الدلالة بلا قطوعات معاني المفردات المنفردة التي هي الجملة).

هذه المفارقة التي حاولت البنيوية تكريسها إنما وجدت ضالتها في التماهي الهيدجري معها الذي أيّد منطلق أن تكون اللغة أصبحت فلسفيا حقيقتها مكفولة في إنفصالها عن الواقع وتمّثلاته ويؤثر هيدجر ويفضّل (الشاعر – ويقصد به شاعره الاثير هولدرين الذي يمتلك نفس الحفاوة لدى فوكو – كونه يقول الوجود بلغة الوجود الاصيلة). لنا شرح مفصل في مبحث منفصل لوحده من هذاالخطاب.

هنا الوجود الاصيل الذي يقصده هيدجر هو الذي ينفرد التعبير عنه بمكنة خاصيّة لغة الشاعر التعبير عن (اللاوجود)، أي بمعنى الوجود القائم على تصورات التهويم الخيالي في تفكيك نسق اللغة التداولي الذي يقصي سلطة العقل على المعنى تماما في رقابة اللغة الشاعرية، فيكون بهذا تعبيرالشاعر الشعري عن الوجود الاصيل إنما هو تداعيات الخيال في اللاشعور الذي تتفكك اللغة فيه وتخرج عن نظامها الدلالي المألوف الى حد طغيان اللاشعورفي محاولة الوصول تخوم العبث اللغوي في التعبير..

هذا يشبه تماما إحياء نسخة سريالية مستهلكة كان أندريه بريتون رائدها الاول في قول الشعر معتبرا القصيدة الشعرية هي حطام العقل الذي مصدره غياب الشعوروالكتابة الشعرية بنمط من تفكيك اللغة المطلق في تداعيات لاشعورية تماما وابعادها عن رقابة العقل وأستلهم بيان بريتون سلفادور دالي وأقطاب السريالية وما تبقى من أقطاب الدادائية والبرناسية في الشعر وفي التشكيل الفني الجمالي ورسم اللوحة التي كانت بحق تحطيما للعقل وقول القصيدة في سيولة لغوية لاشعورية إلغاءا له.

هذه الميزة المتفردة التي خلعها هيدجر على الشاعر هولدرين نموذجا أنه الوحيد القادر ومعه المجنون لدى فوكو التعبير عن الوجود الاصيل الذي هو اللاوجود في حقيقته جعلت حمّى وطيس التجاوب لدى فوكو الإستجابة المتماهية مع هيدجر في أعلى مستوياتها، وذهب أبعد منه في أهمية إنفصال اللغة تمّثلاتها الواقع العياني فوجد هو الآخر في لغة الشاعر التهويمية المفككة المتقافزة في وصاية تداعيات اللاشعور عليها.. معتبرا هيدجر وفوكو لغة الشاعر هي اقرب بنية لغوية من الفلسفة بخاصة حين يكون مصدر تلك الشعرية هو مجنون.

وإضافة فوكو المتطرفة الجديدة أنما جاءت على صعيد وشم الثقافة الغربية المعاصرة في لقاء (الشعر والجنون) والجنون هنا لا يأتي (بمعنى المرض العقلي وأنما هو تجربة جديدة في إدراك اللغة والاشياء). ويؤكد فوكو تطرفه في إعتباره (الانسان ليس أكثر من تمزّق في نظام الاشياء وتشكيلا مستحدثا رسمه الوضع الجديد في الثقافة الغربية).

لا جدوى التعليق أن اللغة كنظام تعبير دلالي معرفي في تفسير وفهم الواقع يمكنه الخروج على هذه المواضعات التي تكون اللغة فيه نظاما توليديا متطورا في مواكبته الحياة الانسانية في جريانها..ولا غرابة اذا ما وجدنا أن لغة الشعر التي تلتقي بهذاءات الجنون في تفكيك تماسك معنى الدلالة اللغوية حسب رغبة فوكوفي التعبير عن حقيقة الوجود الاصيل تخرج عن تلك المواضعات تماما..بأعتباره لغة الشاعر وهذاءات المجنون رغم التباين والاختلاف الشاسع (لغتان) من نوع خاص يتحكم بهما اللاشعور في تغييب رقابة العقل الذي تتصف اللغة عندهما بميزات التداعي والتفكك والسيولة اللاشعورية وعدم الإنتظام وإبهام المعنى وغيرها.. والجملة بالمنظور البنيوي هي خروج على المألوف وسمة التجديد فيها أنها تلغي دلالة المفردة من المعنى من جهة وخروج الجملة أو العبارة المألوفة قدرتها التعبير عن الواقع والحياة بل في وجوب الإنفصال عنهما..

أما أن يكون التفكيك والتحليل والتقويض هو إستجابة محاكية للتماثل مع تمزّقات الانسان كونه شيئا طارئا في وجوده بين نظام الاشياء في الوجود الاصيل الذي ينشده ويبتغيه هيدجر خارج وجود الانسان الزائف الذي يعيشه، وأن لغة التعبير الحقيقية عن الوجود الاصيل معقودة على الشاعر وهذاءات الجنون فهي تفلسف يحمل أكثر من علامة إستفهام عديدة متروكة النهايات بلا إجابات مقنعة إلا بمنطق العبث والعدمية في التفلسف البنيوي – التفكيكي المزدوج..

أختم بملاحظة أن كلامي في أدانتي لغة الشاعرالسريالية في تفكيك النسق اللغوي التي لا تعبر عن حقيقة الواقع في تفكيك النسق اللغوي المألوف، إنما ناقشت أدانته بهذه المقالة من منطلق بنيوي فلسفي تفكيكي تحليلي، وهذا يختلف عن تناول خروج لغة الشاعر عن المألوف لغويا في قول الشعر والنقد الادبي الذي يدرس تفكيك خطاب اللغة الشعرية (جماليا) وليس تعبيرا (فلسفيا)..مما يبيح للشاعر الخروج عن النظام النسقي المالوف للغة في كتابة الشعر كتعبير أدبي وليس كتعبير فلسفي.. حجّتهم المقنعة لهم أن حقيقة الشعر المميزة هي بمقدار مغادرته لغة المباشرة الواقعية الدارجة في قول الشعر.

بعد هذا التمهيد لمأزق فلسفة اللغة والتحول اللغوي أكون وضعت أو فرشت الارضية التي تقف مواضيع هذا المبحث الفلسفي مع المنظور المستحدث في تعالق غالبية مباحث الفلسفة مع اشكاليات اللغة في الفلسفة، بمعنى لم يعد اليوم متاحا الخوض في مباحث فلسفية أصبحت تاريخا تفقد قيمتها المعرفية بمرور الوقت.

كعادتي بهذا المبحث لا أتمركز في معالجة مبحث فلسفي محوري واحد يكون في الغالب الأعم شروحات هامشية فلسفية تدور حول فيلسوف معين بدءا من ميلاده الى نهاية قصة حياته دون غيره يمتلك بصمة تستضيء بمنجزات فلسفية تقوم على فلسفة اللغة والتحول النظري ونظرية ملاحقة فائض المعنى في النص.

***

علي محمد اليوسف /الموصل 

في المثقف اليوم