أقلام فكرية

نظرية المعرفة عند ريتشارد رورتي الفلسفية

علي رسول الربيعيحافظ ريتشارد رورتي على اهتمامه بالفلسفة البرغماتية الأمريكية من خلال  العودة الى أعمال جون ديوي منذ  كتاباته الأولى.[1] وقد ورث من ديوي حجة براغماتية هي: لا حاجة إلى أسس آمنة للمعرفة. ويعتمد رورتي أيضًا على حجة  أخرى لديوي تتعلق بلا ضرورة تلبرير الديمقراطية الليبرالية باستعمال المعايير الإبستيمولوجية الأسسية، فليس هناك فائدة  من استعمال هذه الأسس من وجهة نظر برغماتية. يعرّف رورتي البراغماتية على أنها ضد ألاسسية الماهوية " المطبقة على مفاهيم مثل" الحقيقة "... والأشياء الشبيهة الأخرى في النظريات الفلسفية. ويجادل بأن "نمط الاستقصاء أو التحقيق- العلمي وكذلك الأخلاقي بالنسبة للبراغماتيين هو المداولة/ المحادثة بشأن عوامل الجذب النسبية لمختلف البدائل الملموسة". وهذا يعارض التبرير الموجه من قبل الفكرة القائلة: أن ما نراه يتوافق مع الحقيقة أو الواقع، أو ما استهان به ديوي باعتباره "نظرية المتفرج للمعرفة".[2] إن هذا الادعاء حول العلاقة بين التمثيل والواقع أمر أساس لنظرية رورتي للمعرفة. فما هو ضد التمثيل، بالنسبة له، هو الشخص الذي يمكنه أن يتجاهل السؤال "هل نحن نتمثل الواقع بدقة؟" ويركز بدلاً من ذلك على طرح السؤال "هل هناك أدوات مفاهيمية أكثر فائدة تحت تصرفنا؟".[3] يشير، في هذه الحالة، الى المصطلح "مفيد" بوصفه الأساس العملي البرغماتي للتبرير، لكنه لا يخوض في التفاصيل حول المقصود بكلمة "مفيد". يبدو أنه، في مكان آخر، يعادل "فائدة" المعرفة بالكفاءة. فيقترح أنه بدلاً من الاستفسار عما إذا كانت معتقداتنا متناقضة، يجب أن نشغل أنفسنا بمسألة ما إذا كان "استخدامنا [للأدوات اللغوية]  فعال أم لا".[4]علاوة على ذلك، يجادل روتي بخصوص عواقب أو نتائج البراغماتية بأن تبني مقاربة براغماتية للمعرفة يعني عرض فروع مختلفة من البحث، مثل العلم والفن، كطرق مختلفة لطرح "أسئلة حول ما سيساعدنا في الحصول على ما نريد (أو حول ما يجب أن نريد).[5] وهكذا، فإن كلمة "مفيدة" يمكن أن تدل على أن المحادثة  تتسم بالكفاءة، فضلاً عن دورها الفعال. وما هو غير مهم أو غير ضروري هو ما إذا كان يمكن القول أن المعرفة تتوافق مع "حقيقة" موضوعية أو لا يمكن ذلك.

لا تعادل معادة التمثيلية هذه وفقًا لرورتي الأرتيابية الإبستيمولوجية أو الشكية المعرفية الكاملة. فيدعي أننا يجب أن نميًز "بين الادعاء بأن العالم موجود هناك والادعاء بأن الحقيقة موجودة".[6]  هذا غير الادعاء بأن الفكر يحدد الواقع. إنه يعمل، بدلاً من ذلك، على إنكار أهمية مصطلحات مثل "الواقع" و"الحقيقة" واستبدالها بفكرة، إذا كانت مفرداتنا تبدو متماسكة وملائمة لظروفنا الخاصة، فيجب أن نكون راضين بأستعمالها الى أن نقتنع بخلاف ذلك.[7] يشكل هذا التزامًا عمليًا بفائدة المعرفة وفحص نتائجها، بدلاً من الأحكام المستندة إلى القيمة الحقيقة المفترضة لأي طريقة من طرق التحدث عن شيء ما. لا يدعي رورتي بعزل معتقداته الخاصة من عدم اليقين المعرفي الأساس هذا؛ وينعكس هذا في تأكيده على مفهوم الأحتمالية. يجادل بأن علينا أن نتقبل، أن معتقداتنا عن أنفسنا ومجتمعاتنا خاضعة للمراجعة في أي وقت في حال تغيرت ظروفنا أو مفرداتنا.[8] فيعني مصطلح " الأحتمالية " أن نُبقي أي من معتقداتنا أو ممارساتنا العزيزة علينا موضع تساؤل دائمًا، أو تخضعها لما يدعوه إعادة الوصف.

يستعمل رورتي مصطلح "إعادة الوصف" لشرح ما يعتقد أنه منهج أو "طريقة" جديدة للفلسفة، تختلف عن تقليد التنوير الأسسي الرئيس. تشير "إعادة الوصف" إلى ممارسة تثبيت مفردات جديدة لتحل محل المفردات القديمة. ويعرفها  بأنها العملية التي تنتقل بها مفرداتنا القديمة إلى مفردات جديدة. لا يحدث الانتقال من مفردات إلى أخرى (كما قد يكون من الناحية التأسيسية) لأن المفردات الأخيرة تم اختبارها بعناية ووجدت أن لها علاقة أوثق بالحقيقة في النهاية. ولكن كما، يعتقد بأن هذا التحول "يعمل بشكل كلي وبراغماتي"، حيث يرى الناس، في المفردات الجديدة، أشياء أكثر فائدة وتماسكًا من تلك القديمة.[9]

غالبًا ما يتم انتقاد هذا النوع من المعاداة للأسسية بوصفها الخطوة الأولى نحو النسبية الأخلاقية غير القادرة على إدانة الشرور الكبرى مثل قوة الشر الأمريكية. يتم رفع هذا الشبح ضد  فكرة أن معايير السلوك والمعنى والمعرفة المجتمعية مشروطة وأحتمالية وعرضية من خلال تحديدها على أساس التوافق المجتمعي، أو التضامن.  ينكر رورتي أنه نسبي بهذا المعنى. وحجته هي أنه لا توجد طريقة لمعرفة ما إذا كانت معتقداتنا تتوافق مع الواقع أم لا، وليس جميع المعتقدات لها القدر نفسه من الإدعاء بأنها صحيحة أو خاطئة. أن هذا تمييز جيد، ومهم في سياق معاملته للديمقراطية. فالموقف النسبي، إلى جانب كونه يدحض نفسه، لا يسمح للنسبيين بانتقاد المعتقدات الأخرى. إن أسلوب ومقاربة رورتي يمكّنه من أن يكون أو يعبر  بوعي عن مركزية (نظرة تقييم الشعوب والثقافات الأخرى وفقًا لمعايير ثقافة المرء)، ليجادل بأن معايير الديمقراطية الليبرالية الغربية هي الأفضل، في الوقت الحاضر، لتلك المجتمعات. يطبق رورتي الموقف ضد الأسسية على نظريته عن الطبيعة البشرية، والتي تعد محورية أيضًا في نقده للمنظرين الديمقراطيين مثل فالزر وتايلور. تنبثق نظرية الطبيعة البشرية هذه عن نظريته للمعرفة، وعلى وجه الخصوص حجته حول الاحتمالية اللغوية والمعرفية والذاتية (الفردية). ويجادل بأنه "لا يوجد شيء عميق داخل كل واحد منا، ولا توجد طبيعة إنسانية مشتركة، ولا تضامن بشري ثابت من داخل الطبيعة البشرية، لاستخدامه كنقطة مرجعية أخلاقية."[10] وبناءً على ذلك، يعتقد أن المنظرين الذين يبنون نماذج للديمقراطية على أساس مفهوم الذات المشتركة التي تمتد إلى ما وراء حدود المجتمع المحلي يشاركون في نوع من التفكير الخاطئ. ويرشح نظريته عن الذات على أنها  "شبكة لا مركزية من المعتقدات والرغبات المشروطة تاريخياً".[11] ومع ذلك، فهو يكتفي بالاعتراف بأن نموذج الذات هذا لن يكفي لأي شخص لديه قناعات ميتافيزيقية تختلف عن قناعاته الخاصة. تتمثل النقطة التي يريد أن يصل اليها رورتي هي أنه مثلما لا تمنع المعتقدات الدينية الناس، في معظم الحالات، من أن يكونوا مواطنين صالحين ومفيدين في الديمقراطيات الليبرالية، كذلك قد يتم اعتبار معتقداتهم الفلسفية بالمعنى نفسه في الديمقراطية الليبرالية.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

....................

[1] يعترض بيرنشتاين قراءة رورتي لديوي، بحجة أنه يسيء تفسيره على نقاط مهمة. هذا أمر مهم، لكن ليس، كما أعتقد، أساسي لتحديد كيف سيبدو نموذج رورتي الديمقراطي. قد تكون إحدى الطرق لتوفير بديل أفضل لرورتي، لكن هذا مشروع مختلف.

R. J. Bernstein, 'One step forward, two steps backward: Richard Rorty on liberal democracy and philosophy', Political Theory, 15:4 (1987), p. 541­

[2] Rorty, Consequences of Pragmatism, p. 164.

[3] R. Rorty, 'We anti-representation lists: A review of Terry Eagleton's Ideology: An Introductive', Radical Philosophy, 60 (1992), 40-2, esp. p. 40.

[4] Rorty, Contingency, irony and Solidarity, p. 12.

[5] Rorty, Consequences of Pragmatism, p. xliii.

[6] Rorty, Contingency, Irony and Solidarity, pp. 4-5.

[7] Rorty, Contingency, Irony and Solidarity, pp. 178-9.

[8] Rorty, Contingency, Irony and Solidarity, p. 9.

[9] Rorty, Contingency, Irony and Solidarity, p. 9

يشبه رورتي "إعادة الوصف" بفكرة توماس كون عن تحول النموذج بطريقة ثورية في المعرفة العلمية. أنظر: بُنيَة الثورات العلمية، ترجمة د. حيدر حاج اسماعليل،  المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007.

[10] Rorty, Contingency, Irony and Solidarity, p. 177.

[11] Rorty, Objectivity, Relativism, and Trnth, p. 192.

في المثقف اليوم