أقلام فكرية

شقاء الروح.. التاريخ الموجز للضجر

حاتم حميد محسنمن المفارقة اننا رغم كوننا نعيش في عصر توفرت فيه فرص غير مسبوقة لإشباع حاجاتنا، لكن الضجر لازال يؤثر علينا بشكل متزايد ويسبب الكثير من الاختلالات الوظيفية والمشاكل الصحية. البحوث حول الموضوع قليلة ولا يوجد هناك تعريف متفق عليه عالميا للضجر لكن أغلب الباحثين يتفقون انه ليس مرادفا للكآبة. في عام 2012 نشر الدكتور جون ايستوود، عالم النفس السريري في جامعة يورك البريطانية ورفاقه ورقتهم البحثية بعنوان (العقل غير المتفاعل) Unengaged Mind، في محاولة منهم لإستكشاف طبيعة الضجر. الورقة تجادل بان الضجر هو حالة يعاني فيها الفرد من الملل ويريد ان يكون منخرطا في بعض أنواع الفعاليات ذات القيمة لكنه لايستطيع ذلك.

يميز العلماء الآن بين الضجر البسيط او العادي والضجر الوجودي. الضجر البسيط يصف حالة ذهنية معينة يجدها الفرد شديدة الازعاج. انها تستلزم نقصا في التحفيز وهو ما يجعل الفرد يتوق جدا الى راحة فورية. هذا النوع من الضجر عادة يترافق مع نتائج سلوكية واجتماعية وطبية. اما الضجر الوجودي فهو اكثر تعقيدا. طبقا للسوسيولوجي الألماني مارتن دوهلمان Martin Doehlemann الذي صاغ مصطلح "الضجر الوجودي"، هو شعور بالضيق يؤثر على وجود الفرد وهو ربما يوصف كمرض فلسفي. رغم ان الضجر اصبح محط الاهتمام في وقت متأخر، لكن البحوث تؤكد، انه ليس شيئا جديدا. طوال التاريخ، درس العديد من الفلاسفة مشكلة الضجر. جميعنا نستجيب للضجر بطرق مختلفة. البعض قد يجد له هواية جديدة او اهتماما جديدا، آخرون ربما يفتحون كيسا من رقائق البطاطا المقلية بينما يستمتعون بمشاهدة احدى الحفلات الجديدة على نيتفلكس. الضجر قد يبدو لنا تجربة يومية وربما تافهة.

التطور التاريخي

 من اللافت ان الضجر شهد تحولات في القرنين الآخيرين. اولى الاستعمالات المبكرة لكلمة ضجر boredom وردت في قصيدة لاتينية للشاعر لوكريتوس Lucretius (99-55 ق.م)، الذي كتب عن الحياة المملّة لرجل روماني ثري هرب الى منزله الريفي فقط ليجد نفسه مرة اخرى نهبا للضجر.

اما في اللغة الانجليزية فان أول استخدام لكلمة ضجر كانت في صحيفة بريطانية The Albion (بريطانيا العظمى) عام 1820، في جملة تفتقر للوضوح : "سوف لن اتّبع اسلوبا سابقا آخرا للضجر، وأنغمس في مديح الأقدار المسؤولة عن أفعالي".

لكن المفردة لقيت شعبية بعد ان استعملها الكاتب تشارلس دكنز في رواية (بيت كئيب) Bleak House عام 1853 حين كانت السيدة الارستقراطية ليدي ديدلوك تقول "أوشكت ان أموت من الضجر" عبر محاولات تغيير الطقس و الترفيه المسرحي والموسيقي غير الملحوظ، وبالمشاهد المألوفة. في الحقيقة، اصبح الضجر موضوعا شائعا في الكتابات الانجليزية الفكتورية، وخاصة في وصف حياة الطبقة العليا التي تعكس في ضجرها المكانة الاجتماعية المتميزة. في مسرحية دكنز (الأوقات الصعبة، 1854)،يبدو الشاب الثري والضجر جيمس هارثوس ، كأنه يعتز بالضجر الدائم كمؤشر على تربيته العالية، لم يصرح بأي شيء سوى الضجر أثناء حياته كقائد عسكري او في سفراته المتعددة.

في القرن السابع عشر،درس الفيلسوف باسكال (1623-1662) الضجر بملاحظة الناس في حياتهم اليومية. في كتابه (pensees (او الافكار أوضح باسكال الضجر بمزيد من الاهتمام. هو يرى ان الانسان دائما يبحث عن مخارج او حلول للخروج من حياته الفارغة والتي هي السبب الرئيسي للشعور بعدم القناعة والضجر. هذه المخارج لا تعمل ابدا في المدى البعيد، وسيعود الانسان مجددا الى المربع الاول وحيث حياة الضجر. يعتقد باسكال ان حياة الانسان بشكل عام هي فارغة، وهذا هو سبب الإحساس بالضجر. ورغم ان باسكال رسم صورة سلبية لحياة الانسان،لكن رسالته النهائية ليست سلبية بالكامل. هو أعلن ان الشخص الضجر هو شخص بلا اله. لكي نتخلص من الضجر سنحتاج لتأسيس علاقة وثيقة مع الله الذي يجعل حياتنا الفارغة ممتلئة مرة اخرى وبذلك نزيل القلق من حياتنا.

الضجر الوجودي

في الشطر الثاني من القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين، نال الضجر شهرة بين الكتاب الوجوديين. كانت رؤيتهم عن الضجر باعتباره امرا سيئا، واجه كل الانسانية، وليس فقط الطبقة العليا و وجودها الفارغ . الفيلسوف الوجودي الدانماركي سورن كيركيجارد مثلا، كتب : "الآلهة كانت ضجرة، ولذلك هم خلقوا الكائنات البشرية" . آدم كان ضجرا لأنه كان وحده ولذلك خُلقت حواء .. هو رأى ان الضجر جعل كل شيء فارغا وخال من المعنى. هو اعتقد ان الضجر بدلا من ان يكون مزعزعا للاستقرار لكنه في الحقيقة يحفز الناس للفعل بطرق ابتكارية لإخراج انفسهم من الحالة السيئة.

ومن غير المدهش، ان كيركيجارد أعلن ان الضجر هو أصل جميع الشرور، والعديد من الوجوديين الآخرين يشاركونه هذه الرؤية . الفيلسوف جين بول سارتر أطلق على الضجر "جذام الروح"، اما نيتشة يتفق مع كيركيجارد مذكّرا بأن : "ضجر الاله في اليوم السابع من الخلق سيكون موضوعا لشاعر كبير".

الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (1788-1870) جعل الضجر محورا لفلسفته. هو اعتقد ان هناك قطبين في حياة الانسان الاول هو الضجر والثاني هو حاجات الانسان ونقائصه ورغباته. نحن دائما في سعي محموم محاولين تحقيق ما نرغب او نحتاج او ما نفتقر اليه، وحالما ننجح في تحقيق أهدافنا سندرك انها لا تمنحنا القناعة او السعادة التي كنا نتوقعها. وبدلا من التخلص من الضجر سنجد انفسنا مرة اخرى في متابعة شيء آخر ربما يجعلنا سعداء لنجد انفسنا في ضجر جديد، وحتى لو أشبع الانسان حاجاته فان كل ما يحصل عليه هو حالة من عدم الألم. هو يقول ان الضجر هو الشعور الذي ينتابنا عندما نمارس اللاقيمة في وجودنا. وهكذا فان حياة الانسان بالضرورة هي بلا أي معنى هام. الانسان وحده الكائن الذكي والمعقد الذي يعيش الضجر واللامعنى.

علم الضجر The science of boredom

شهد القرن العشرون ظهور علم النفس كحقل علمي. وبينما ازداد ولو بشكل بطيء فهمنا للعديد من المشاعر، لكن من المدهش ان الضجر تُرك لوحده. ما كان موجودا من علم نفس قليل حول الضجر كان تأمليا، وعادة لم يتضمن بيانات ميدانية. تلك التفسيرات لم ترسم صورة ايجابية عن الضجر قياسا بالوجوديين. في عام 1972، وصف المحلل النفساني اريك فروم بشكل واضح الضجر باعتباره" المصدر الاكثر أهمية للقمع والتدمير اليوم". خلال العقود القليلة الماضية، تغيرت صورة الضجر مرة اخرى . تطوير وسائل قياس أفضل سمح للسايكولوجيين بفحص الضجر بدقة كبيرة، وأتاحت الطرق التجريبية للباحثين بفهم الضجر وفحص نتائجه السلوكية الحقيقية وليست الافتراضية. هذا العمل يكشف بان الضجر يمكنه حقا ان يكون إشكالية. اولئك الذين يضجرون بسهولة هم اكثر عرضة للكآبة والقلق، لديهم ميول ليكونوا عدوانيين، ويتصورون الحياة بأقل معنى. مع ذلك، كشف علم النفس ايضا جانبا للضجر أكثر اشراقا. الباحثون وجدوا ان الضجر يشجع البحث عن معنى في الحياة، يدفع للاستكشاف ويحفز على البحث الجديد. بعمل كهذا، يبدو ان الضجر يساعد في تنظيم سلوكنا ويمنعنا من الوقوع في ورطة المواقف غير النافعة لفترة طويلة. وبدلا من مجرد مرض بين الطبقات العليا او خطر وجودي، يبدو ان الضجر يشكل جزءاً هاما من الذخيرة السايكولوجية المتوفرة للناس في متابعة حياة هادفة.

في وقتنا المعاصر، جادل الفلاسفة ان الضجر في تصاعد مستمر بسبب الإفراط في التحفيز بدلا من رتابة الحياة التي كانت سائدة في الماضي. هم اعتبروا الضجر شيئا حتميا في عالم التفاهات. في كتابها (فلسفة الضجر) كتبت لارس سفيندسين Lars Svendsen ان الضجر في تزايد، وللأسف لا علاج له. العديد من الفلاسفة يبررون هذا الى الزيادة السريعة في تكنلوجيا المعلومات.

***

حاتم حميد محسن 

في المثقف اليوم