أقلام فكرية

في السجال الاخلاقي.. أين تكمن المشكلة اليوم؟

حاتم حميد محسنمن الواضح ان هناك عجزا أخلاقيا يسود عالم اليوم. فلو كانت الأخلاق هي الحافز الأكبر لسلوك الانسان وتحظى بأهمية كبيرة في التفكير، لكان العالم أفضل حالا. في الحقيقة ان أعظم تحدّي أخلاقي حاليا هو التصوّر المعيب للأخلاق ذاتها. ان الطريقة التي نميل للتفكير والحديث بها عن الأخلاق تكبح قدرتنا على الانخراط برؤى غير تلك التي نتمسك بها، انها تجعل ادارة التنوع والإختلاف اكثر صعوبة، وهي تميل لحشرنا في أشكال من التفكير تنتج المزيد من حالات المعاناة والاضطراب بدلا من ان ايجاد الحلول .

بين الصحيح والخطأ، الأبيض والأسود

بالطبع، القتل عمل خاطئ، هذه ليست فقط مسألة تفضيل ذاتي، وانما هي حقيقة موضوعية. ذلك يعني اذا كانت هذه الحالة صحيحة بالنسبة لي، فهي صحيحة لك و لكل شخص آخر. واذا ادّعى شخص ما ان الجريمة جيدة عندئذ هو خاطئ. هذه هي الطريقة التي يميل العديد منا للتفكير والتحدّث بها. العديد من القضايا الأخلاقية لاتنحصر فقط في الجريمة، و نشير لها بالحقائق الأخلاقية. نحن نسعى لإثبات صحة موقفنا الأخلاقي باللجوء لتلك الحقائق. البعض منا يبرر هذه الحقائق عبر الاستعانة بالوصايا التي وردتنا من مصادر دينية. آخرون يبررونها عبر اللجوء للحقوق الطبيعية، او الحقائق الأساسية للطبيعة الانسانية، مثال على ذلك ان الظلم هو سيئ من حيث الجوهر لذا يجب علينا منعه حسب الإمكان. العديد من الناس يرون الأخلاق مثل العلوم، حيث نستطيع ان نتعلم حقائق أخلاقية جديدة عن العالم، كما هو الحال عندما اكتشف الناس ان العبودية ظلم او ان المرأة يجب ان تنال حقوقها كاملة، وهم يقومون بتحديث مواقفهم الأخلاقية طبقا لذلك.

ثلاث مشاكل

هناك ثلاث مشاكل رئيسية في هذه الرؤية الشائعة للأخلاق:

1- انها خاطئة. لا توجد قناعة تامة ان هناك مصدر موضوعي للأخلاق. لقد أنفق البعض وقتا طويلا في البحث عن أي مصدر من ذلك النوع و لم يعثروا على أي مصدر يمكن الاقتناع به وبعمق . حتى عندما نعتقد ان هناك مصدرا أخلاقيا الهيا يمكن ان يقرر الصحيح من الخطأ، فلا نزال نُترك مع مجرد اناس يجتهدون في التفسير الصحيح لرغبة ذلك المصدر الديني (1). والتاريخ كشف لنا ان الخلافات ضد التفسيرات المنافسة للخير الديني يمكن ان تسبب معاناة لا توصف، ولاتزال تلك المعاناة مستمرة عندما يحاول الدوغمائيون فرض رؤيتهم في الأخلاق على غير الراغبين بها.

2- فكرة ان هناك أخلاق واحدة صحيحة هي بالأساس في تضاد مع العدد الهائل من التنوع الاخلاقي الذي نراه حولنا في العالم. فمثلا، هناك اختلافات واسعة النطاق حول ما اذا كان يتوجب على الدولة إعدام المجرمين، او ما اذا كان للناس ذوي الأمراض المزمنة الحق في الموت الرحيم. اذا كنا نعتقد ان الاخلاق هي مسألة حقيقة موضوعية، عندئذ فان هذا التنوع الهائل يعني ان معظم (ان لم يكن جميع) الناس في العالم هم على خطأ واضح حول ما يؤمنون به من معتقدات أخلاقية.

3- ان هذه الرؤية تقودنا نحو التفكير بعبارات من الأبيض والأسود. انها توجّه الحديث الاخلاقي نحو إثبات ان الآخرين مخطئون، او إرغامهم بقبول رؤيتنا الاخلاقية. انه يصبح من الصعب ان لم يكن مستحيلا للناس ان يأخذوا برؤى الآخرين الاخلاقية بجد والانخراط في مفاوضات أخلاقية او تسويات. هذه احدى الأسباب الرئيسية التي تجعل خطاب وسائل التواصل الاجتماعي او أحاديث الطاولة هي في مثل هذه الحالة المزرية حتى الآن. اولئك الذين في جانب واحد هم ببساطة يلغون خصومهم باعتبارهم منحرفين أخلاقيا والذي من شأنه ان يغلق أي إمكانية للمشاركة الايجابية او التعاون بين الأطراف.

الإصلاح الأخلاقي

اذاً لكي نستجيب للتحدي الأخلاقي الكبير الحالي، نحتاج لإعادة التفكير بالأخلاق ذاتها. أحسن طريقة للتفكير بالأخلاق هي كوسيلة أخلاقية اخترعها الناس لمساعدتهم في العيش والعمل مجتمعين في مختلف المواقف الاجتماعية. بالنهاية، كل واحد منا له اهتماماته التي يريد متابعتها، وهي تختلف من شخص الى آخر، ولكن عموما هي تتضمن اشياءً مثل القدرة على ان نوفر ما نرغب به لأنفسنا ولمحبينا، ونتجنب المعاناة والصعوبات والسعي نحو التجارب الممتعة والناجحة. ان أحسن طريقة لإشباع تلك الاهتمامات هي العيش اجتماعيا والتفاعل والتعاون مع الآخرين. لكن في الأغلب نجد اهتماماتنا، او وسائل اشباعها تتصادم مع الآخرين، ذلك الصراع يمكن ان ينتهي بإلحاق الضرر في جميع الافراد . لذا، فان الأخلاق هي مجموعة القواعد التي نعيش بها والتي تسعى لتقليل الأذى والتمكين من العيش المشترك بفاعلية. تلك القواعد يجب ان نكتشفها لأنفسنا وبأنفسنا.

بالطبع، الناس لم يفكروا دائما حول الأخلاق بهذه العبارات، بل يبرّرونها بعدد من الطرق، احيانا عبر اللجوء للدين او التقاليد. هم لم يقوموا بتحديث تفكيرهم حول الاخلاق لتطهيرها مما علق بها من طقوس او من إمتثال ثقافي صارم للماضي. الآن نحن ندرك ان هناك عدة طرق لمتابعة السير نحو حياة ناجحة، وان القواعد التي تعزز رؤية واحدة ربما تتصادم مع طرق الآخرين. لذا فان القواعد الاخلاقية التي تشجع الروابط الاجتماعية القوية، مثلا، ربما تتصادم مع القواعد التي تمكّن الناس من اختيار مسيرة حياتهم الخاصة بهم.

ايضا، المشاكل التي تحاول الاخلاق حلّها تختلف من مكان الى آخر. الناس الذين يعيشون في جماعات صغيرة ضمن مناطق محدودة الموارد مثل مناطق التندرا لهم مشاكل مختلفة قياسا بالناس الذين يعيشون في مدن حديثة وكبيرة مثل سدني ولندن . لو طبّقنا أخلاق المجموعة الاولى من الناس على البيئة الأخيرة، سوف نفاقم الصراع بدلا من حله. كل هذا يعني ان الاخلاق يجب ان تركز على التسامح والتفاوض بدلا من التركيز على إثبات صوابية الرؤية. الناس بحاجة لفهم ان مختلف الناس والجماعات والثقافات لهم تصورات مختلفة عن الحياة الجيدة. نحتاج لفهم ان مشاكل العيش الاجتماعي وحلولها لاتنطبق بالتساوي على كل جماعة. ذلك يعني اننا يجب ان نتعلم لنصبح أقل دوغمائية أخلاقية وأكثر تكيفا أخلاقيا . وفوق كل ذلك، نحتاج الى التخلي عن فكرة ان الاخلاق هي حول الحقائق الموضوعية التي تنطبق على كل الناس في كل الأوقات. هذا لا يعني ان تصبح الأخلاق كشكل من مفهوم نسبي "كل شيء مقبول". هناك طرق للحكم على الفائدة من عقيدة أخلاقية معينة، أي: هل هي حقا تساعد في حل مشاكل الحياة الاجتماعية للناس الذين يستعملونها؟ الكثير منها كلا، لذا يجب التفكير بإصلاحها او تحدّيها. في عالم شديد التنوع والترابط والتعدد الثقافي، من المهم جدا ان نصلح طريقتنا في التفكير والحديث عن الأخلاق ذاتها. اذا لم نقم بذلك، ومهما كان شكل التحدي الاخلاقي الآخر الذي نواجهه، سوف يصبح من الصعب جدا الوصول الى حل له.

***

حاتم حميد محسن

.....................

الهوامش

(1) في مأزق ايوثوفرا الذي ورد في حوارات افلاطون، سقراط يسأل ايوثوفرا "هل التقوى اوالعمل الصالح أمر الله به لأنه عمل خيّر بذاته، ام انه كان عملا خيّرا لأن الله أراد ذلك؟ اذا كان الشيء جيدا لأن الله أمر به فهو في هذه الحالة يُعد امرا اعتباطيا لايتوفر فيه سبب جيد، لأن الله يمكن ان يأمر بأي شيء في هذه الحالة، اما اذا كان الله أمر بفعل الخير لأسباب تتعلق بخيرية الشيء ذاته معنى ذلك ان رغبة الله هي ايضا تتبع مصدرا خارجيا آخرا وليست هي السلطة الاخلاقية الأصلية. منذ نقاش افلاطون الأصلي، بقي هذا السؤال يشكل مشكلة للدينيين ولايزال موضوعا في النقاشات الثيولوجية والفلسفية.

في المثقف اليوم