أقلام فكرية

الدين في حدود العالم الافتراضي (3)

سامي عبد العالليس العالم الافتراضي وسيطاً سلبياً ولا عاكساً للواقع، لكنه إنتاج معنى وفكرة. لأنه يضيف من محمولاته المعرفية والتقنية شيئاً كثيراً على الموضوعات المطروحة. أي أنَّه (يعجن ويعيد تكوين) مكوناتها وفقاً لما يقوم به، فضلاً عن الأفكار الضمنية التي يحققها بالتوسط، مما يشكل الجانب العقلي من المتفاعلين. وانتاج المعنى يلتقي مع الحرية الكامنة في جوهر الأديان كإعتقادٍ وخلاصٍ وآفاق روحيةٍ. وهي الآفاق التي تتبلور في إنسانيتنا الكونية إذ تجمع القاصي والداني، القريب والبعيد، المتشابه والمختلف. أمَّا انتاج الفكرة، فهو كوننا قادرين على (سيولة التواصل) إلتقاءً حول قضايا مشتركة، وقادرين كذلك على اثراء الحوار والنقاش والتفكير معاً.

أليس لكلِّ فردٍ أنْ يمارس وجوده الروحي والعقلي داخل هذا الوسيط؟! إذن عليه أنْ يلتقي مع أقرانه في الوجود المُمتد عبر الحياة دون نهايةٍ، طالما يستطيع أنْ يشعر بإنسانية الآخر. إنَّه لا يجمعنا شيءٌ سوى هذه المعاني، وأنَّ الباقي دوماً أكثر من الزائل وأنَّ المحتمل أكثر من المستحيل. الباقي هو فاعلية الآثار التي يتركها(الوسيط الافتراضي) لتغيير الذهنيات وترميم العلاقات المباشرة الطافحة بالصراع والمواجهات بين الغرائز والقوى.

هذه الحقيقة البسيطة تعيد ترتيب عمليات الفكر وتحيي لدى الإنسان قيماً أخرى للخطاب. إذ أنَّ لغة ومعالم المذاهب والعقائد والأيديولوجات التي ابتلعت الأديان ظلت ملوثةً بهذا الصراع. وسواء أكان التلوثُ واضحاً أم غير واضحٍ، فهي لغة تشبعت بالغرائز والكراهية وأعادت إفرازها في صور عنفٍ لا تخطئها العقول. وبالعكس من ذلك، فإنَّ الوسائط الافتراضية وعملياتها تعطي المتفاعل فضاءات من الزمن والتحرر والإختلاف والتنوع. وهذا أمر لا يدهشنا الآن فقط مثلما قد أحدث صدمة للبعض من وقت لآخر، بل يلقي بظلاله القاتمة على ما لدينا من موروثات خطابية حول الأديان. ولا سيما أنَّ الدين خطاب روحي وخطاب معنى في المقام الأول.

تثوير الخطاب الديني

في ضوء ذلك التنوع الخلاق للافتراضي، سيتم تثويرrevolutionize  الخطاب الديني عبر أعماقه البعيدة. لأنه خطاب ظل حبيس التواصل المباشر بحضور النفس والجسد (المتلقي). ولذلك كان خطاباً قائما على المراقبة وإصدار الفتاوي دون روحانيات ثرية في الغالب وكان يتحدث على أساس امتلاك كيان المتدينين لا مجرد إرادات حرة تقبل وترفض.

أحد أبرز التحولات في الفضاء الافتراضي هو اختفاء مواقع رجال الدين. فإذا كانت هناك قائمة من رجال الدين بين البشر وبين المقدسات (شامانات- حاخامات - دهاقنة عقائد – قساوسة – كهان- فقهاء– دعاة – وعاظ – شيوخ - رجال إفتاء)، فهم حافظو اسرارها وراسمو مستقبلها بالوقت ذاته كما يدّعون. وحتى بالنسبة للإسلام الذي لا توجد به مرتبة رجال الدين كأبسط ديانة يتلقاها الناس العاديون، سيكون رجال الدين أصحاب سلطة إنْ لم يكونوا قد اغتصبوا مكانة المقدس ذاته!!

وسبب الثورة المفترضة أنَّ الفضاء الإلكتروني يضع الأفكار موضوعياً بين الناس كبطل للمَشاهد. كما أن الثورة مرتبطة بمرحلة جديدة من العقلانية المختلفة القائمة على أسس نوعية كحال أسس التنوير مع اختلاف السياقات بطبيعة الحال[1]. وهو ما يمكن للمجال الديني أن يستوعبه، حيث كان التدين التقليدي يقتضي تشرُب العقائد من " فَم المرجعيات " على نحوٍ مباشر. وفي التراث الاسلامي لدى السلفية أنَّ الايمان لا يكون صحيحاً دون شيخٍ شارح للمؤمن صحة الاعتقاد من عدمه. وكأنَّه يتدخل فيما يؤمن به ويعتقد وفيما يترك من أفعالٍّ. وهذا يظل مرهُوناً بتقاليد ومقدسات تختلط بالأصول الدينية رغم أنَّ السلفيين يتحرّون تلك المسألة.

إنَّ رؤى العالم world views المفتوح هي مناط التحول، لأنَّ الخطاب الافتراضي يختلف عما سواه من خطابات. فلئن كان الخطاب الديني يرجع بمعانيه وحِجاجه وصورة الاستعارية إلى سياق تاريخي عادةً، فالجانب الافتراضي يشترط الوفاء بالمعالم الإنسانية ليس أقل، وذلك بحكم التكوين والثقافة معاً. غدت الثقافة التقنية ومعالمها مضروبةً حسابياً في الاعتقاد. وقد هدم الجانب الافتراضي جملة مواقع تاريخية في تكوين الخطاب الديني، وكشف عن مواقع غيرها. والأقرب للاحتمال أنَّ بلورة هذه المواقع ومعرفة كيفية تفكيكها يمثلان أسلوباً ثورياً. وليس الأمر مجرد خلخلة أو اعادة نظر كما يُقال، لأنَّ المواقع التالية تغيرت في جوهرها بالفعل، وهي التي كانت تحافظ على سيادة الفكر الديني الغالب والتقاليد المشوهة.

أولاً: موقع الفقيه-السلطان:

خلخلت الوسائط الالكترونية " موقع الفقيه "، وبخاصة أنَّها وسائط لا تشترط فقيهاً بمعناه المعروف، كما أنَّها تتيح كافة البدائل المعرفية والفكرية والروحية أمام الناس. على الطريقة ذاتها هدمت عملياتُ الفهم المفتوح والحُر منطق الوصاية والحظر والتبعية، وبخاصة أنه منطق ثنائي تكفيري قائم على (الصح والخطأ – الأمر والطاعة- الهيمنة والخضوع- الثواب والعقاب)، ولا يفترض فهماً ورؤية مغايرةً. والأخطر أن البدائل والحرية أتاحتا كشف أن الفقه كان مرتبطاً في جميع تفاصيله بالحكام في تاريخ المجتمعات الاسلامية لدرجة أنَّ من لا يقبل السلطان بوصفه إماماً سياسياً ودينياً، ستلاحقه اللعنات في الدنيا والآخرة (التكفير السياسي).

هكذا لم تكن وظيفة الفقهاء خارج دوائر السلطة من قريبٍ أو بعيدٍ، حيث أنَّ الأنظمة السياسية كانت تعيّن الفقهاء في محرابها وتحدد ماذا يقولون وماذا يطرحون من مسائل ضرورية وأخرى هامشية. في المقابل قدَّم الفقهاء خدمات لأصحاب الصولجان طوال تاريخ الاسلام بالضط كما كان رجال الدين السابقون في مجتمعاتهم. عندئذ لم يكن هناك فضاءٌ آخر غير علاقة السياسي بالواقع مكيفاً جُلّ الإمكانات لصالحه، بما في ذلك الدين نفسه. وغياب هذا الدور في الفضاء الافتراضي تمَّ لصالح الفهم والمعرفة والانفتاح على الحقائق وانعدام عنف المرجعية الواحدة.

ثانياً: موقع الفقيه - الصراع:

ينزع الفضاء الافتراضي أسباب الصراع حول الأديان، بل يفشل صراع المذاهب والجماعات داخل الدين الواحد. واتضح من النقطة الأولى سحب السلطة الممنوحة مجاناً للفقهاء، لكن سيكون الفقه بحثاً عن المعرفة في إطار مناهج العلوم الإنسانية وتطورات خطاباتها الفكرية والمنهجية.

وتلك الخطوة ستكشف الجانب الصراعي(اجتماعياً وسياسياً) من الفقه، لأنَّه كان في التراث جزءاً لا يتجزأ من استعمال القوى البيئية الناعمة في المجتمعات، وأداة سيطرة ثقافية سياسية في أوقات كثيرة. إن هناك عصوراً في تاريخ الدولة العربية الإسلامية كانت تعتمد على المذهب الديني للهيمنة وإدارة السلطة وتشغيل ماكينة السمع والطاعة لدى الشعوب دون حراك. ورأينا أن نجم الفقهاء كان يصعد بمقدار استعمال مواقفهم ونصوصهم في هذا الغرض السياسي. بينما لا يوجد هناك صراع حتمي في الفضاء الافتراضي (فلا توجد بيئة وموضوع للتسلط)، بل يوجد تواز وتعايش وتنوع بالدرجة الأولى طالما أن مواقع الفقهاء ليست عنصراً حركياً في المسألة.

ثالثاً: موقع الفقيه – الدعوة:

 في الوسائط الافتراضية، ستختفي آلية الدعوة والخطابة بمعناها التقليدي في الموروثات الدينية. كل دعوة لا تخلو من(نَفسْ سياسي) بشكل أو بآخر. كما أنَّ خطاب الدعوة يقع في أربع سلبيات:

1- تحوله إلى خطاب دعائي ترويجي وهذا الجانب لا ينطوي على بعد عقلاني ولا وسائل إقناع مناسبة ولا روحانيات ثرية ولا انفتاح إنساني مطلوب.

2- تحوله إلى خطاب ايديولوجي عنيف يؤجج النزاعات ويقوم على الكراهية.

3- تحوله إلى خطاب عقائدي يقوم على الاستبعاد وتناحر الأديان.

4- ويمكن إضافة نقطة رابعة بكونه خطاباً يجرد وجود الله من كل أبعاده الإنسانية والروحية مختزلاً إياه في الأوامر والنواهي ليس أكثر.

رابعاً: موقع الجماعات الدينية – التنظيمات الحركية:

رغم أنَّ الجماعات الدينية انخرطوا في (الجهاد الإلكتروني) ووضعوا أدبيات كثيرة في هذا الجانب وأطلقوا منصات للفتاوى وجندوا كثيرين إلاَّ أن الفضاء الافتراضي(عكس ما يظنون) قد كشف عنف قضاياهم وتوجهاتهم. وبخاصة أنهم بثوا ممارساتهم الدموية والجهادية عبر المواقع والصفحات التواصلية. لقد جعلتهم الوسائط عرضة للتعري والافتضاح وكشفت كم هي جماعات تستعمل الدين لأغراض سياسية قميئة. في المقابل يؤكد الوسيط الافتراضي بناء فكرياً غير تنظيمي بمعناه المؤدلَّج، لأن التقنيات تساعد على التحرر الفردي التداولي ولا تغرس مستعمليها في جماعة أو تنظيم أو عقيدة مغلقة. وهو ما قد يعبر عنه بمصطلح الدين مابعد العقائدي[2]post-dogmatic religion.

خامساً: موقع رجال الافتاء - الدولة:

سحب الفضاء الافتراضي قوة (ما هو ديني) من الدولة، لأنَّ الدولة ستكون غير مبررة بصدد المجال العام لو استعملت الدين لخدمة نظامها السياسي. وكشف الفضاء السابق أن الافتاء نفسه غير ممكن سياسياً ولا يوجد بهذا المعنى في مفاهيم الدولة الحديثة. ونظراً لكون الدولة تحتكره عن طريق ولاء مؤسسة الإفتاء لنظامها السياسي، فالفضاء الإلكتروني ينقب في الوجوه الأخرى للمسألة. ويجعل الافتاء نوعاً من ممارسة السياسة بطرق دينية ملتوية، وبخاصة أن الفتاوى المعاصرة مع (جائحة الثورات الربيعية) كانت تقف في وجه المد الشعبي وتطلعاته وحقوقه، وهو ما يعكس التراث السياسي لتوظيف الإفتاء كأحد أدوات الإدارة للاعتقاد والطقوس والمحظور والممنوع سياسياً.

سادساً: موقع المؤسسة الدينية – السلطة – المجال العام:

تساعد الوسائط الافتراضية على التحرر من الهيمنة والأيديولوجيات الغالبة. وإذا كانت السلطة السائدة تمثل وسيطاً لتوظيف المؤسسات الدينية خلال المجال العام، فلا تقبل التقنية هذا الوضع. إنَّها تُسقِط من اعتبارها حتى مفاهيم السلطة التقليدية كأداةٍ. فكل التقنيات تؤدي دورها التحرُري عكس مصادر وآليات السلطة. فلئن كانت السلطة مركزيةً، فالتقنيات الالكترونية غير مركزية. ولئن كانت السلطة عنيفة عنفاً (خشناً وناعماً)، فالوسائط جذابه وتنطوي على إغواء الممارسة وروحانية الأداء. وهذا يجعل المعتقدات أكثر مرونةً وممكنة التشكل وفقا للسياقات الإنسانية، وإذا كانت قابلة للتداول، فلأنها قابلة للنقد والانفتاح بناء على الشفافية وتبادل الحوارات.

سابعاً: موقع المتجول – المتدين الافتراضي:

أبرز تغير حدثَ وسيحدث هو تحول موقع المتلقي (المتدين) إلى لاعب جوال (متدين افتراضي بملء الكلمة)، من حيث اطلاعه على تنوع التراثات والمعتقدات. ونظراً لكونه ليس الوجه السلبي للهيمنة، فكل هيمنة تخلق متدينيهاbelievers  على الوجه الذي تريد. وعندما تزول الهيمنة والمراقبة والمتابعة والهوس بالتلصص الديني وإدارة الاعتقاد كما تفعل السلطة الدينية عادةً، سيكون المتدين أشبه بالكائن الجوّال الذي يعرف ويرغب في الحوار والتواصل. ليس هو بائعاً أيديولوجياً، لكنه قارئ على غرار قراءة النصوص في الفكر الفلسفي والأدبي المعاصر(لذة النص عند رولان بارت) حيث متعة القراءة والتلقي[3]. أي لذة التجوال الافتراضي، إذ ينخلع المتفاعل من ربقة القيود، ويصبح العقل والحس والعاطفة والمغامرة أشياء من ممارسة الإيمان وتلقي المعرفة الدينية[4].

ثامناً: مواقع الخطاب الكوني الإنساني:

ستكون كل المواقع في الوسائط مواقع كونية إنسانيةً ليست أكثر. فلن يخرج من التراث والعقائد والأفكار الدينية سوى التعايش والوجه المتسامح وقبول الآخر إذا ما تم فهم المسألة بهذا الوضع التواصلي. لسبب بسيط أن المواقع الافتراضية لو أظهرت غير ذلك، سيكون (المؤمن الجوَّال) أول من يغادرها دون رجعةٍ.

والحقيقة أنَّ هذا الوجه الإنساني من صور الأديان كان غير معترف به بسبب جوانب الدين التقليدية ارتباطاً: إما بسلطة الثقافة السائدة في بيئة التدين والتي كبلت حركة الوعي وعطلت قدرات الإنسان: وإما ارتباطاً بأيديولوجيات محدودة التنظيم والمصالح ولا سيما حين تخدم مرجعية أو نظام حكم قابع فوق أنفاس المتدينين: وإما بفضل أن المؤمنين كانوا أسيري المعتقدات والتقاليد التي تتوارثها الأجيال ولا تقبل أيّ انفتاح ولا تطور. ولذلك فإنه نتيجة عمليات التواصل الحر، ستكون أية تعبئة أيديولوجية في غير مكانها على الإطلاق.

***

د. سامي عبد العال

.................

[1]- Jonathan Israel, A Revolution of the Mind: Radical Enlightenment and the Intellectual origins of Modern Democracy, Princeton University Press, Princeton and Oxford, 2010, PP 1- 35.

[2]- Adam Possamai, The i-zation of Society, Religion, and Neoliberal Post-Secularism, Palgrave Macmillan, 2018,P 96.

[3]- Roland Barthes, The Pleasure of the Text, Translated by Richard Miller With a Note on the Text by Richard Howard, Hilland Wang, New York ,1975, p37.

[4]- هناك بنية مشتركةco-related structure  بين اللعب الافتراضي والدين، فكلاهما يعتمد على وجود قواعد عامة للأفعال والتأثيرات وكلاهما قائم على الانهماك والاستغراق في الأنشطة والطرائق المأمولة وكلاهما يوفر نماذج من التجريب الذي يشكل رؤى الحياة وتغيير الأفكار.

Rachel Wagner, The Importance of Playing in Earnest, In: Heidi A. Campbell and Gregory Price Grieve (Editors), Playing with Religion in Digital Games, Indiana University Press, Bloomington & Indianapolis,  2014, P 193.

في المثقف اليوم