أقلام فكرية

المثقف والسياسي علاقة جدلية

قاسم خضير عباسأشار المفكر (جاك لوكوف) في كتابه (المثقفون في العصر الوسيط) إلى ملامح المثقف المبدع، الذي يحاول أن يمعن عقله في إيجاد الحلول الاستراتيجية لمجتمعه؛ فالمثقف الملتزم هو الذي يشتغل بالثقافة ليوظفها في خدمة القضايا العامة والمصيرية.

إنَّ دور المثقف مهم وحيوي لتقديم الأفكار الرصينة والتوصل إلى الحلول المختلفة لكل الأزمات، من أجل تقدم المجتمع وصيانة حرياته واحترام استقلاله. كما أنَّ الحضارة لا تقوم على أنصاف المتعلمين، إنما على المبدعين من المثقفين، وذلك بنقل تجاربهم الناجحة للناس ودفعهم الى العمل بها خدمة للصالح العام.

لقد توسع المفكر (لوكوف) في تصنيف المثقفين وجعلهم ضمن: (نواة تتكون من المبدعين والمنتجين من علماء وفنانين وفلاسفة وكتاب وبعض الصحفيين، يحيط بها أولئك الذين يقومون بنشر ما ينتجه هؤلاء المبدعون مثل الممارسين لمختلف الفنون ومعظم المعلمين والأساتذة والصحفيين، يليهم ويحيط بهم جماعة تعمل على تطبيق الثقافة من خلال المهنة التي يمارسونها مثل الأطباء والمحامين).

وهذا التوسع في مفهوم الثقافة يستوعب كل مجالات الحياة العملية، وقد خالفه المفكر الماركسي الإيطالي (أنطونيو غرامشي)، حيث وضع مفهوماً جديداً للمثقف أسماه بالمثقف العضوي. وهو مثقف نخبوي يبحث عن مفاهيم لها طاقة نظرية تجريدية، تستوعب كل مفاصل المجتمع ضمن الواقع ومتغيراته.

إنَّ المثقف العضوي عند (غرامشي) يختزله بالمثقف المرتبط بالجماهير، الراغب في التغيير الماركسي والذي يعمل أو عليه أن يعمل من أجله. ولذا فالمثقف العضوي هو صاحب مشروع ثقافي، يتمثل في الإصلاح الثقافي والأخلاقي على وفق النظرية الماركسية. بمعنى أنَّ (غرامشي) قد نَظَّرَ للمثقف السياسي، المرتبط بأيديولوجية حزبية يقدسها ويجعلها في أول مهام مشروعه الثقافي؛ وهو مثقف أيديولوجي ينطق بمصالح العمال استناداً لأفكار ماركسية.

وأتصور من المفهوم الغرامشي أصبح مصطلح (المثقف السياسي) مشروعاً ومتداولاً في الأنظمة الدكتاتورية والرجعية، الحاكمة في الدول العربية ودول الشرق الأوسط قاطبة، حيث أصبح المثقف تابعاً للسياسي ينفذ له مخططاته؛ فإذا عارض ذلك همش وزج به في السجون.

إنَّ مصطلح (المثقف السياسي) المشتق بغباء من المفهوم الغرامشي قد عارضه الفيلسوف الفرنسي (ميشال فوكو)، عندما وصف المثقف الملتزم بأنه: يمارس عملاً تخصصياً عقلانياً؛ بعيداً عن التنظيرات الايديولوجية الحزبية، سواء كانت ماركسية أم رأسمالية.

ومن المفيد ذكره في هذا الصدد أنَّ معظم مفاهيم المثقف في العالم تسير في اتجاه العمل بمجال الثقافة فكراً وإنتاجاً أو ترويجاً ونشراً أو استهلاكاً وقراءة، وهو اتجاه تطور تاريخياً ليسمح بمساحة كبيرة من الحرية في الغرب، لكنه في الشرق أصبح حبيساً لسياسات الأنظمة القمعية، التي أنتجت (المثقف السياسي) أو المثقف المحصور في إيديولوجية سياسية لا يمكن له أن يغادرها.

ولذا نجد الكثير من الإشكاليات لمفهوم المثقف في العالم العربي والإسلامي، حيث تحول المثقف إلى ما يمكن تسميته بالمثقف المبرمج سياسياً. ومازال مفهوم المثقف عند المفكرين والكتاب العرب يثير الحوارات والأبحاث الفلسفية والسجالات الفكرية العميقة؛ خصوصاً بين المثقفين الذين لم ينصاعوا لأوامر السلطة السياسية الحاكمة.

وأتذكر في هذا المجال أنَّ (علي شريعتي) انتقد مصطلح (المثقف السياسي)، لأنه لا يستطيع أن يشخص السلبيات والأزمات والمشاكل بحرية كاملة، وليس له القدرة على تشخيص أمراض المجتمع ومحاولة حلها، إنما هو وسيلة من وسائل الإقناع السياسي لصالح مصالح السياسيين.

 كما أنَّ هذه الإشكالية المعرفية بدمج السياسي مع الثقافي جعلت عالم الاجتماع العراقي الدكتور (علي الوردي) يميّز بين (المتعلم والمثقف)، فالمتعلم هو السياسي الذي تعلم أموراً لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري والسياسي، الذي اعتاد عليه منذ الصغر. (فهو لم يزد من العلم إلا ما زاد في تعصبه وضيّق من مجال نظره. هو قد آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فاخد يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه وتحرضه على الكفاح في سبيله. اما المثقف فهو يمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقي كل فكرة جديدة وللتأمل فيها ولتملي وجه الصواب فيها).

وأضاف (الوردي): (مما يؤسف له أنَّ المثقفين بيننا قليلون والمتعلمين كثيرون. ومتعلمونا قد بلغ غرورهم بما تعلموه مبلغاً لا يحسدون عليه. وهذا هو السبب الذي جعل أحدهم لا يتحمل رأياً مخالفاً لرأيه. يقال إنَّ مقياس الذي نقيس به ثقافة شخص ما هو مبلغ ما يتحمل هذا الشخص من آراء غيره المخالفة لرأيه، فالمثقف الحقيقي يكاد لا يطمئن إلى صحة رأيه، ذلك لانَّ المعيار الذي يزن به صحة الآراء غير ثابت لديه، فهو يتغير من وقت لآخر. وكثيراً ما وجد نفسه مقتنعاً برأي معين في يوم من الأيام ثم لا يكاد يمضي عليه الزمن حتى تضعف قناعته بذلك الرأي).

وهكذا فإنَّ الحقيقة الفكرية التي يدافع عنها المثقف الملتزم بالأسس المنطقية الواقعية تختلف عن تلك التي يدافع عنها المتعلم السياسي، فبينما تقتصر وظيفة المثقف على التصويب واقتراح الحلول العقلية المبدعة، فالمتعلم السياسي وظيفته الوصول إلى أكبر قدر من المصلحة الحزبية، حتى ولو كانت على حساب الشعب، واقتراح الحلول التي لا تخرج عن هذه المصلحة الضيقة.

وهنا تتلخص الأزمة الفكرية في الدول العربية والإسلامية بالتصاق المثقف المتعلم بالسياسي، لبقاء المجتمع في جهله الفكري والقانوني لكي يسهل السيطرة عليه. أما المثقف الملتزم فيبقى مخلصاً لمبادئه حريصاً على تطبيقها في المجتمع بعيداً عن المصالح الحزبية الضيقة؛ ولذا كانت الثقافة دوماً في مواجهة السياسة مع وجود بعض المثقفين المتعلمين الملتصقين بالأنظمة الحاكمة الذين يسعون لنيل المكاسب الشخصية الرخيصة.

إنَّ سيطرة السياسي على الثقافي تكمن في خوف بعض الأنظمة الدكتاتورية المتسلطة من المثقفين الملتزمين، الذين سلبت حرياتهم بقوانين ظالمة شرعت من أجل إخضاع رأيهم لرأي السلطة الحاكمة، إضافةً إلى تهميش أدوارهم في المجتمع.

وهنا نؤكد على أنَّ جدلية المثقف والسياسي قائمة وأزلية، لأنَّ المثقف الملتزم ناقد بعقله المنطقي لكل سلبيات السياسة، ولا يجوز له على وفق ذلك أن يقف على الحياد أو أن يكون موالياً لأية سلطة سياسية؛ إضافة إلى أنَّ فكره وثقافته المنطقية من المفترض أن تكون إطاراً مرجعياً لعمل السياسي.               

ولذا أرى أن يتخلى المثقف عن تبعيته للسياسي في منطقتنا العربية والإسلامية، فهذا هو الطريق الصحيح لكي يقوم بعمله بحرية كاملة بنقد الظواهر السلبية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بعيداً عن مناورات السياسيين وخططهم، التي تريد تحقيق المكاسب السياسية الضيقة على حساب حقوق الشعب والمجتمع.                                                          

وهذه العلاقة الجدلية المتأزمة بين وظيفة المثقف ووظيفة السياسي قد تناولها المفكر (محمد عابد الجابري) في كتابه (المثقفون في الحضارة العربية)، حيث تناول بالدراسة مفهوم المثقف ووجد أنه لا وجود لمرجعية لهذا المفهوم في الثقافة العربية. ولذا حاول بناء تلك المرجعية عن طريق التأصيل الثقافي للمفاهيم الغربية الحديثة، ودور المثقف في القرون الوسطى الأوروبية.

إلا أني أخالف (الجابري) فيما ذهب إليه لأنَّ مرجعية مفهوم المثقف موجودة في الثقافة العربية والإسلامية، وهي تستند إلى الحرية التي بدونها تنتهي كل مسؤولية عن التصرفات والسلوك سواء كانت من المثقف أم غيره، لكنها غيبت بسبب ظهور الحكم المستبد البعيد عن رحمة الإسلام أثناء الدولة الأموية والعباسية، اللتان جندتا مثقفين متعلمين من وعاظ السلاطين لمصلحتها.

كما أنَّ التجارب الأوروبية لتعريف مفهوم المثقف كانت دالة على استقلالية دور المثقف، إزاء الدولة والسلطة والمجتمع. ولكن نجد بعض المراحل في أوروبا قد همش بها دور المثقف بصورة واضحة لحساب الأدوار السياسية، مع وجود التوترات إزاء قضايا ذات طابع فكري، وذلك بسبب السياسة الغربية التي جندت مراكز دراسات استراتيجية ومثقفين متعلمين، من أجل إقناع العقل الجمعي الغربي بمحتوى السياسة الغربية ومصادرة الرأي الآخر. ولذا فإنَّ (الجابري) على الرغم من إدراكه ذلك إلا أنه ظل كعادته مولعاً بالمنهج الغربي، وبالتعميم في بحوثه وهذا خطأ فكري كبير يقع به أكثر مفكرينا ومثقفينا.... أليس كذلك؟

***

د. قاسم خضير عباس

في المثقف اليوم