أقلام فكرية

الحقيقة الأخلاقية والبُعد القيمي للوجود

حاتم حميد محسنفي إنجيل يوحنا يخاطب يسوع بونتيوس: "انا وُلدت وجئت الى هذا العالم لكي أشهد على الحقيقة، كل منْ هو في جانب الحقيقة سيستمع لي". بونتيوس يجيب "ما هي الحقيقة؟". هذا السؤال لطالما تردد عبر العصور لأن سؤال بونتيوس يشير الى ان مختلف الأديان والثقافات عرضت علينا مختلف الصيغ لما يسمى "الحقيقة" truth. المسلمون واليهود والبروتستانت والكاثوليك والشيوعيين والفاشيين وغيرهم خاضوا معارك عنيفة لنشر نسختهم الخاصة في الحقيقة ودافعوا عنها بضراوة. المعارك الدموية على "الحقيقة" في اوربا بين البروتستانت والكاثوليك لعبت دورا هاما في تحفيز الثورة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. كان أمل العلماء المبكرين هو إيجاد طريقة موثوقة يمكن التحقق منها لتمييز الحقيقة عن الزيف بالارتكاز على دليل عام لحقائق ذات صلاحية عالمية، حقائق يتفق عليها جميع الناس العقلانيين والأذكياء وذوي الإطلاع.

العلوم حققت نجاحا هائلا في محاولاتها تلك. القدرة على التنبؤ والسيطرة على الأحداث في بيئتنا المادية تقدمت بشكل غير مسبوق نتيجة لإستخدام الطرق العلمية. ليس هناك أي شك في ذلك. السؤال هو ما اذا كان نوع الحقائق التي يقدمها العلم هي الحقائق التي نبحث عنها اساسا. ارسطو كتب في كتابه (الميتافيزيقا): "العلم الذي يعرف الغاية من كل شيء والتي يجب تحقيقها هو اكثر العلوم موثوقية، واكثر موثوقية من أي من العلوم المساعدة، هذه الغاية هي الخير في ذلك الشيء، وبشكل عام الخير الأسمى في كل الطبيعة". وعندما يتحدث يسوع لبونتيوس عن "الحقيقة" هو بالطبع لا يتحدث عن ما نعتقده كحقيقة علمية. كما بالنسبة لأرسطو، يسوع يتحدث عن الحقيقة المتعلقة بالخير الأسمى. في الحقيقة، ربما يُقال ان نجاح العلوم الطبيعية قاد الى فهم غامض لما نسعى اليه عندما نبحث عن الحقيقة. سنبيّن هنا اننا نحتاج الى تحوّل جذري في تصورنا للحقيقة يعيدنا للرؤية الفلسفية بأن أرقى الحقائق هي تلك المتعلقة بـ "الخير". لنسمي هذه الحقيقة بـ "الحقيقة الاخلاقية" وهي (فرع من الحقيقة الفلسفية). السعي نحو الحقيقة الأخلاقية يستخدم  طرقا واجراءات تختلف عن تلك التي تستخدمها العلوم. انها طرق واجراءات يجب ان تكون بحكم طبيعة عملها، أقل صرامة وموثوقية من تلك التي في العلوم الصرفة، لأن البيانات حول الاخلاق لايمكن جمعها واستخدامها بنفس الطريقة الدقيقة المتّبعة في بيانات العلوم الطبيعية. من المهم والملح الاعتراف  بأهمية السعي نحو هذه الحقيقة الاخلاقية. يقول اوسكار وايلد نحن باستمرار لدينا ثقافة ،تعرف ثمن كل شيء ولا تعرف قيمة أي شيء. نحن نعرف ما لم نعرفه من قبل في التاريخ الانساني، في كيفية عمل ما نريد،. لكن مشكلتنا هي اننا لا نعرف ماذا نريد. لذا كيف نبدأ بالتفكير بشكل هادف حول الحقائق المتعلقة بـ "الخير"؟ اولاً نحن يجب ان نحاول تحديد مجال او عالم القيمة لما هو خير ضمن تجاربنا، لننظر الآن في إعتبارات عالم القيمة.

البعد القيمي للوجود The Axiological Dimension of Being

لو تصورنا السيناريو التالي: رجل وامرأة يجلسان حول الطاولة في أحد المطاعم . هما متزوجان منذ عدة سنوات وحاليا يفكران في الطلاق. هما منشغلان في حديث مكثف. لنفرض ان مهمتنا هي ملاحظة ما يحدث بينهما والتعبير قدر الإمكان عن حقيقة ما يجري بينهما. نحن نقصر فهمنا وتفسيرنا على ما يُلاحظ ميدانيا، أي على التفاعلات المادية المُشاهدة. يمكننا ان نصف ما يحدث كالتالي: الذراع الأيمن للمرأة يتحرك عدة سنتمترات الى أعلى الطاولة بينما أصابعها تتمدد. حواجب الرجل تميل نزولا نحو أنفه ورأسه يدور حول رقبته من اليسار الى اليمين. اليد اليسرى للمرأة المستقرة على الطاولة تبدأ بالإرتعاش .. ولكي نستمر في الوصف: الحجاب الحاجز للرجل يتقلص مسببا طرد الهواء من رئتيه، مارا خلال حنجرته ثم ليخرج من فمه. هذا يخلق موجات من الهواء تنتشر من فمه الى الخارج. بعض هذه الموجات تصطدم بطبلة اذن المرأة مسببة اهتزازها. هذا الاهتزاز بدوره يخلق نبضات عصبية تسري في دماغها. النبضات تنتقل الى حبلها الشوكي وتسبب انقباضا في ذراعها الأيمن الذي يندفع للحركة نحو صدرها. نبضات اخرى تقود الى انقباض حجابها الحاجز وإطلاق الهواء من رئتيها بما يسبب ظهور موجات جديدة للهواء تهز طبلة اذن الرجل وهكذا. هل مثل هذا الوصف المادي الصارم يكشف الحقيقة الهامة حول ما يحدث حقا بين الرجل والمرأة؟ نعتقد انه ليس كذلك.

لا يهم كم يبدو الوصف دقيقا ومفصلا، نحن سوف لن نكون قادرين ابدا على كشف معنى التفاعل بينهما. اذاً ما هو الشيء المفقود؟ هذا المثال يجعل من الواضح ان هناك بعدا آخر للحقيقة الى جانب البعد المادي يتوجب علينا الوصول اليه لكي نكشف معنى ما يحدث. اذاً ما هو هذا البعد الآخر وكيف نكتشف حقيقته؟

لسوء الحظ  اننا منغمسون في ذلك البعد  لدرجة اننا لا نمتلك اسما جيدا له . نحن ندرك ان شيئا ما مفقود، لكننا  نستطيع الحصول على فكرة عما هو مفقود من دراسة الوصف المادي. أحد الأشياء التي يفشل هذا الوصف بتوفيرها هو فهم الطريقة التي يهتم بها الرجل والمرأة لما يحدث بينهما ، أي، كيف هما يهتمان بما يحدث. النقاش بينهما له معنى كشيء يهتمان به، والكلمات التي يتحدثان بها تشير الى هذه القضايا من الإهتمام. هذا الاهتمام هو ليس حقيقة مادية، هو شيء غير متاح للحواس الخمس: نحن لا نستطيع ان نرى او  نتذوق او نشم او  نسمع او نلمس اهتمامهما. لانزال، لن نفهم ابدا ما يحدث بينهما حتى نحصل على فهم لطبيعة هذا الإهتمام.

ماذا نسمي هذا "البُعد من الاهتمام"؟ نحن نهتم بالأشياء من حيث علاقتها بالقيمة او الفائدة التي توفرها لنا. الشيء الذي ليس له قيمة لنا لا نهتم به ابدا. الكلمة اليونانية اكسوس axios تعني "القيمة". لذا ، لنعطي اسما لبُعد الاهتمام هذا ، لنسميه البعد القيمي. عندما يقول يسوع انه جاء ليشهد على "الحقيقة"، انها الحقيقة المتعلقة بالقيمة . وعندما يكتب ارسطو ان معظم العلم الموثوق هو ذلك الذي يسعى لفهم "الخير الأسمى"، فهو يشير للبُعد القيمي . ما هي طبيعة البُعد القيمي او عالم القيم؟ ما هو أصله او مصدره؟ هذه هي الإشكالية المحيرة. طبيب الأعصاب قد يقترح ان الاهتمام او القيمة يبرز عندما ترتّب المادة نفسها الى نماذج ديناميكية زمكانية معينة ، لكننا ليس لدينا تصوّر عن كيفية حدوث ذلك. كيف يتسنى للمادة الخاملة، من خلال إعادة الترتيب لشكلها تبدأ فجأة  بالاهتمام؟ لا يبدو هناك  شيء حول المادة- كما نحن نفهما الآن – يقود الى تقييم أي شيء. هذا هو سبب اننا يجب ان نتحدث عن الاهتمام كمتعلق ببُعد آخر للوجود غير البُعد المادي . رغم ان هناك عدد لا يحصى من الترتيبات وإعادة الترتيبات للأشكال الزمكانية، لكن لا شيء من هذه الترتيبات يرقى بحد ذاته الى مستوى الاهتمام . الاهتمام لايمكن اختزاله الى حالة  مادية. انه شيء آخر،حالة من الذهن. عندئذ نحن يجب ان نستنتج ان الاهتمام او البُعد الذي تنبثق منه القيمة، هو بطريقة ما أساسي للوجود ذاته، طالما لا شيء مادي يشبه تجربة الاهتمام.

ان البُعد القيمي له خصائص تميّزه بقوة عن الأبعاد المادية المتاحة للبحث الميداني. نحن يجب ان نستنتج او نخمن طبيعة اهتمام الآخرين من الطرق التي يتصرفون بها، وباستمرار نحن نفهم الآخرين ليس من حيث كيف يهتمون وانما من حيث كيف هم يؤثرون على اهتمامنا. والى المدى الذي نقوم به بهذا، نحن ربما نسيء فهمهم. ما وراء هذا،وحيث تبدو الأحداث المادية تعمل وفق مبادئ ميكانيكية،مثل ان كل حدث يحدث استجابة لأحداث سابقة، فان الاهتمام يبدو انه يعمل اساسا طبقا لمبادئ غائية: نحن نقيّم شيئا ما بسبب الطريقة التي يؤثر بها على هدف ما نسعى اليه او ما يسمى باليونانية (تيلوس) . وهكذا، عندما نسأل لماذا تبكي المرأة فسوف لا ننظر فقط بوصف فسيولوجي لكيفية خروج الدموع من عينيها كجواب كافي. نحن بدلا من ذلك نحتاج معرفة الكيفية التي تجعلها الأحداث تشعر بفقدان شيء ما هي تهتم به، شيء ما تريده او تقيّمه. القيم السياسية الأخلاقية و الروحية لها أساسها في البعد القيمي للوجود. هذا يفسر لماذا اقتصار العلوم الطبيعية على التحقيق في الأشياء المادية، لا يخبرنا أي شيء حول القيم، ولماذا العلوم الطبيعية يمكنها وصف بالتفصيل ما يحدث في جسمي الرجل والمرأة على الطاولة، ولكن لا تستطيع ان تخبرنا عن معنى تفاعلهما. ان البعد القيمي للوجود غير متاح للملاحظة التجريبية، انه متاح فقط للانعكاس الداخلي. في عصرنا العلمي،هذا قاد البعض الى نبذ البعد القيمي كما لو انه غير حقيقي. لكن هذا النبذ كان خطأ فادحا.

الحقيقة الأخلاقية

تاريخيا، جرى من خلال الفلسفة اختبار البعد القيمي عقلانيا. كلمة "فلسفة" ذاتها تعني حب الحكمة. ولكن ماذا نعني بـ "الحكمة"؟ بعد سقراط نستطيع القول ان الفرد الحكيم او الفيلسوف الحقيقي هو الذي يفهم خير الحياة وكيف ينجزه. او بعبارة اخرى، الشخص الحكيم هو الذي يفهم البعد القيمي للوجود ويعرف كيف يطبق حقائقه بأفضل صورة على تعاملنا مع شخص آخر ومع العالم المادي. هكذا يجب ان نفهم الحقيقة الاخلاقية. ارسطو كما بالنسبة لسقراط وافلاطون اعترف ان الحصول على مثل هذه الحكمة هو الهدف النهائي للانسان العاقل. ومن هذا المنظور ربما يقال ان "الحقيقة الاخلاقية" التي تعطي الحكمة في كيفية العيش هي تجسيد لكمال الحقيقة .

ان نوع الحقائق التي تعرضها العلوم الطبيعية – الحقائق المتعلقة بعمليات العالم المادي سيكون لها معنى فقط كحقائق مساعدة لأن الحقائق التي لها أهميتها الكاملة هي فقط المتعلقة بالحقيقة الأخلاقية. وهكذا،لكي نستعمل عبارة ارسطو، فان العلوم الحديثة هي "علوم مساعدة". قدرتنا على الاستعمال الحكيم للحقائق التي يوفرها العلم سوف تعتمد كليا على تقدمنا في تحقيق الحقيقة الاخلاقية.

هذا لا يعني بأي شكل من الاشكال الحط من قيمة العلوم الطبيعية. وانما هي فقط وضع قيمة تلك العلوم في سياقها الصحيح. معرفتنا بالعالم الطبيعي لها معنى وقيمة لنا فقط عندما تتعلق بالقيمة، و بإهتمامنا وقيمنا. فقدان الرؤية بهذا هو فقدان الرؤية بالهدف. مرة اخرى،هذه المركزية في الأخلاق هي رؤية قديمة، نرى آثارها في حقيقة اننا لانزال نسمي من حاز على أعلى مستوى في أي حقل اكاديمي بـ "دكتوراه فلسفة". دلالات هذه العبارة هي ان أعلى اكتساب في أي حقل هو ليس فقط اكتساب معرفة وانما اكتساب حكمة في ذلك الحقل بالذات. لسوء الحظ هذا الفهم لمعنى PhD ضاع منذ وقت طويل، مثلما جرى تهميش الفلسفة ذاتها في الأكاديمية. اذا كنا نستطلع بذكاء البعد القيمي للوجود، القيم والمعاني التي نعيش بها، يجب علينا استعادة احترامنا لمكان ودور الفلسفة في مساعينا الفكرية.

مركزية الفلسفة

في الحقيقة، يجرى الاعتقاد الآن ان الفلسفة  كأنها فرع صغير من الدراسة لاولئك الذين لديهم وقت اضافي يرغبون إمتاع انفسهم فيه عبر اللهو بالأفكار. هذا بالطبع سوء فهم خطير لأهمية الفلسفة. خطير لأنه من خلال الفلسفة وبالذات الأخلاق، نحن نفهم عقلانيا ونفحص نقديا اسس القيم التي نعيش بواسطتها. لنأخذ مثال على ذلك إعلان الاستقلال في الولايات المتحدة لتوماس جيفرسون الذي كتب، "نحن نؤمن بهذه القيم لتكون بديهية، ان كل الناس خُلقوا متساوين، انهم وُهبوا من خالقهم حقوق معينة لا يمكن التصرف بها، وان من بين تلك الحقوق، الحياة والحرية ومتابعة السعادة". أول شيء للملاحظة هو ان هذا هو بيان أخلاقي. الحقائق التي يشير اليها جيفرسون ترتبط بالبعد القيمي، والمكانة الاخلاقية لبيانه يمكن تقييمها فقط فلسفيا. لا يوجد إختبار علمي نستطيع بواسطته تقرير ما اذا كانت "الحقوق الغير قابلة للتصرف" موجودة. لذلك، اذا قيّدنا  فهمنا للحقيقة بالعلمي فقط، نحن يجب علينا إهمال هذا البيان باعتباره لا معنى له طالما هو لا يؤكد شيئا يمكن فحصه باسلوب علمي. لكن هذا البيان بعيد عن اللا معنى. وانما هو إعلان عن واحدة من الحقائق الأساسية التي تأسست الولايات المتحدة عليها. فقط الاختبار الفلسفي هو الذي يسمح لنا بفهم وتقييم مثل هذه الادّعاءات. وعندما تصبح ثقافتنا امّية فلسفيا،  سنفقد قدرتنا على الانخراط في مثل هكذا اختبار. نحن لهذا نفقد تدريجيا الفهم الفكري للقيم التي نعيش بواسطتها. بالطبع، ان طبيعة التحقيق الفلسفي هو اننا لا نأمل بإنجاز نفس الدرجة من التأكيد التي توفرها العلوم الصرفة بشان الادّعاءات الفلسفية. لكن ذلك ليس سببا لإهمال التحقيق الفلسفي. على العكس من ذلك، محدوديات الإدعاءات الفلسفية، وتأثيرات هذه المحدودية، هي ذاتها قضايا فلسفية هامة للمعالجة.ان التحقيق الفلسفي هو ضروري لفهمنا الذاتي سواء كأفراد او كمجتمع. وبهذا،هو ضروري لصحة الحضارة.

النموذج القديم الجديد A new old paradigm

الشيء المطلوب بشكل عاجل هو العودة الى الفهم القديم لماهية "الحقيقة". بالذات نحن نحتاج الى تمجيد متجدد للبعد القيمي للوجود، او بُعد القيمة. هذا التمجيد يتضمن الاعتراف بان القيمة هي خاصية او سمة للحقيقة ذاتها. الكون كما يقترح التصور المادي هو قطعة كبيرة من أشياء عديمة الحياة توجد هنا وهناك. وفق هذه الرؤية الوجود هو أشياء ميتة ثانوية وغير ضرورية وعرضية. من أين يأتي الاهتمام في كل هذا؟ من أين تأتي القيم الأخلاقية؟ المادية لاتفشل بالجواب على السؤال بقدر ما تفشل في السؤال ذاته – كما لو ان السؤال ذاته لا يحدث للماديين. فمثلا، عالم الفيزياء ستيفن هاوكنك أمضى عمله المهني اللامع في ما أسماه "نظرية في كل شيء". "كل شيء" الذي كتب عنه هاوكنك لا يتضمن هاوكنك ذاته. ولكن في الحقيقة، لا توجد هناك نظرية شاملة لكل شيء لا تأخذ بالإعتبار البعد القيمي للوجود. اذا كنا لا نفهم المظهر القيمي للواقع فسوف لن نفهم الواقع ذاته.

هل نحن مع ذلك يمكننا استكشاف البعد القيمي علميا؟ سام هاري وآخرون اقترحوا اننا نستطيع – انظر مثلا كتاب البروفيسور سام هاري (المشهد الاخلاقي: كيف يستطيع العلم تقرير القيم الانسانية،2011)(1). ولكن الكثير هنا يعتمد على ما نعنيه بكلمة "علم". بالطبع، هناك علوم اجتماعية وانثروبولوجية وسياسية وسايكولوجية يمكن القول انها تستطلع البعد القيمي بمختلف الطرق ولمدى محدود. ولكن يجب ملاحظة انه اذا كان فهمنا المباشر لقيمنا وبماذا نهتم وما نحس به من معنى هو من خلال الانعكاس الداخلي، فان فهمنا للقيم لا يمكن ان يكون صارما وتجريبيا – اذا كنا نعني بالتجريبي ما هو مُلاحظ من خلال الحواس. في الحقيقة، ان  "العلوم الانسانية"هي تقع في الحدود بين التجريبي الصارم والفلسفي، ونحن قادرون على فهم استنتاجاتها فقط عبر الاحالة الى الفهم القبلي "غير العلمي" للإهتمام الانساني الذي نحصل عليه من تجاربنا الذاتية. هذا يعني اننا لا نستطيع بفاعلية استكشاف البعد القيمي "الخالص علميا" بدون عودة راديكالية لما نعنيه بالعلم. وبدلا من القيام بذلك، نحن سنقوم بعمل أفضل اذا عدنا الى النموذج القديم الذي يرى العلم فقط كفرع واحد من الفلسفة. في الحقيقة، المفردة الأصلية لما نسميه الآن "علم" كانت "الفلسفة الطبيعية"،اعترافا بحقيقة ان العلوم الطبيعية بطرقها الخاصة ايضا تعكس قيم الانسان بقدر ما هي تنشأ لغرض ان نفهم ونعيش  جيدا ضمن العالم المادي. ما مطلوب اذاً هو ليس اختزال الأخلاقي الى العلمي (كما يقترح هاريس خطأ)، وانما لنجلب العلمي مجددا ضمن الفلسفي عبر الإعتراف بالعلوم كطريقة واحدة فقط  من التحقيق الفلسفي. نحتاج إستعادة رؤية ارسطو بان الدراسة الاساسية والنهائية هي تلك التي تسعى نحو "الخير". كل دراسة اخرى تكتسب  قيمتها فقط كشيء مساعد .

***

حاتم حميد محسن

.........................

(1) كتاب سام هاري بعنوان (The moral landscape: How science can determine Human values  صدر عن free press في سبتمبر 2011 في 320 صفحة.

في المثقف اليوم