أقلام فكرية

الدين في حدود العلم الافتراضي (4)

سامي عبد العالشكَّل الواقع الإفتراضي عالّماً قائماً بذاته على نطاق واسع. وقد أبرز جميع مظاهر الأديان ودلالتها مرتهناً بالخيال والتمثيل والاجراءات المصاحبة والعمليات النفسية والعقلية المتزامنة. وذلك بقدرته على توفير اشباعات الإنسان المتدين من جهة إثارة الفضول والبحث الدؤوب عن الحقيقة والتواصل مع الآخرين. ثم أطلقَ العنان لعملية التحرر الذاتي وكَسَر قيود البيئات المتسلّطة وأسهم في الانعتاق من شروط التدين التقليدي.

ولاسيما مع وجود أحداث جسام أو أوبئة تحُوْل دون ممارسة الدين والتزاماته المباشرة. وغدا الدين وشعائرة (خلال هذه الظروف) ظاهرة افتراضيةً، أي يمكن للناس ممارسة خلاصهم الروحي عبر الوسائط الديجيتال بصورة مغايرةٍ وجد مدهشة. وبامكانهم الاتصال بالمعاني والتأويلات التي يعيشون فيها على شاكلة مختلفة مع الكون كله. ومن المتوقع في المستقبل أنْ تأخذ تلك الفكرة مساحةً أرحب من التراكم الخيالي والتقني في اتجاه خلق أجواء روحية ذات صبغة إنسانيةٍ لا تخطئها الملاحظة.

الدين الافتراضي

بالفعل تؤثر التقنيات الافتراضية على مجمل جوانب الأديان، وتعيد انتاج دلالتها من خلال معالم الأفعال العامة ومظاهر التدين والنصوص والعلامات والرموز الخاصة بها. وطبعاً كل هذه الأشياء لا تنفصل عندئذ عن الممارسة التقنية. ذلك أنَّ الافتراض يعطي المتلقي قدرة ذاتية على الامتلاء بالمعاني بجانب كافة جوانب الدين (الإيمان والأداء والطقوس معاً) وبصورة ثلاثية الأبعاد three-dimensional في بيئة خيالية وقد يجد نفسه في معبد أو مسجد أو كنيسة أو زاوية أو فضاء مفتوح[1]. وقد رأينا أنَّ الدين الافتراضي قد استحوذ على كامل كيان المتلقي (المتدين) عندما كانت جائحة كورونا في أوجها، وكأنَّ هذا المناخ الوبائي كان يضع الناس افتراضياً في جميع أجواء التدين الخاص، لقد أختفى التواصل المادي وجاء التباعُد الاجتماعي مع كلِّ العبادات والعلاقات الدينية المباشرة.

الإيمان افتراضياً

كل إيمان لا يخلو من آفاق افتراضية حتى بجوهر تعريفه الإنساني. فالغيب والماوراء والمعتقدات والثقة والغفران والأمل في حياة أخرى هي معطيات مفترضة لدرجة اليقين، غير أنَّ الفضاءات الإلكترونية أسست لوناً من الإيمان المختلف. فليس هو الإيمان دون فهمٍ ولا انفتاح ولا ممارسة التخييل، لكن نتيجة الفعل التواصلي والانخراط في الإنسانيات وثقافة الاختلاف امتزج الإيمان بما يُسمى بالأداء العقلاني. وبالطبع لا يبتعد ذلك عن وجود نوع من ممارسة الروحانيات السيبرانية cyber spiritualities وإتاحة الاختيارات الحرة لما يعتقد المدينون دون انغلاق[2].

إنَّه إيمان أدائي تقني technical-performative يجسد كافة معالم الإنسان كإنسانٍ بالدرجة الأولى من جهةٍ، ويجسد معالم التدين الحر غير الطقوسي بفحواه التقليدي من جهةٍ أخرى. ولعلَّ (التسليم واليقين المباشرين) ليسا بالضرورة من أسس الإيمان، أو بالأحرى سيأتيان في مرتبة أقل افتراضياً وسيخضعان لعمليات متتابعة من الفهم والتأويل. ومن هنا، فإنَّ إيمان "المتدين الافتراضي" مختلف إلى درجة بعيدة عن إيمان "المتدين التقليدي". فالأخير سيكون إيمانه الدجمائي dogmatic faith قريباً من الحضور الشكلي لمعنى الصنم (صناعة الصمنية  Idolatryفي الحياة المعاصرة كأحد مظاهر الهروب من الحرية ولن يختلف في ذلك عن نزعات الفاشية والنازية بلغة إريك فروم[3]). حيث يسُود نمط من العلاقات والطقوس التي تحدد جوهر الروح فيما تتقولب التصورات بحسب ثوابت التقاليد. إنَّ ذلك الوضع من أكبر سلبياتطقوس الدين المباشر الحضوري present، لأنه يقع أسيراً لقوة الصور الغالبة وتشكيلها في الثقافة. ولن يؤدي الخيال ولا المعنى دوراً كبيرة في زحزحة هذا النمط إلاَّ بالاشتباك مع آفاق الفكر، فقضية الحرية تبقى قضية مهمة مع تطورات هذه الثقافة ونموها[4].

أمَّا الايمان في بُعده التقني المفتوح، فسيكون أقرب إلى " العقلانية الافتراضية الحرة  free virtual rationality"، ذلك من جنس ما تمارس الفضاءات وتتخيل وتؤدي وتشحن المساحة القابلة للتأثير في اللاوعي والطاقات النفسية الثرية. فالوسائط تُعطي فرصة إلى المباعدة، إلى نسج الخيال، إلى التأويل، إلى تحويل الحضور المباشر في صور بديلةٍ من عمليات الفهم والمراجعة والتأمل.

وأبرز دلالات الايمان الافتراضي كالتالي:

سيولة الرؤى الكونية، حين يشعر المتدين الجوّال بوجود المعتقدات بلا شروط without conditions. والنقطة المشار إليها هنا مهمة، لأنَّ هناك تحقُق لرغبة في تملك الذات مع هذا التجوال عبر عوالم الافتراض. حيث سيشعر أنَّ إيمانه قدرة ذاتية تواصلية حُرة بالوقت عينه. حرية من جنس ما يشعر به المتدين عندما يمتلئ بما يؤمن به ميتافيزيقيا. ومع شعوره بذلك الحال، سيكون الافتراض قد أشبّع إمكانية التملك الكلي لمعانٍ ما، فالإيمان هو تشوُّف لمعني الامتلاء العائد بالثقة والاخلاص على المتدين. وهو بُعد ميتافيزيقي قابل للتحول وموجود في جميع الأديان. فمع بيئاته الافتراضية وعوالم المحاكاة، يعد الفضاء الإلكتروني مختبرًا ميتافيزيقيًا، أداة حرة لفحص إحساسنا بالواقع والماوراء[5].

غياب المرجعية الواحدة (لا هذا التراث ولا تلك المجتمعات ولا هذه المعتقدات كما هي). فلئن كان كل إيمان يؤكد غياباً ما فيما وراء (أي جزء من الايمان هو الإيمان بالغيب والقدر خيره وشره)، فالعمليات الافتراضية تتم بضمان هذا الماوراء التقني technical meta. وعادة ما يكون الماوراء قيد الافتراض مؤكداً رغبة الإنسان في التطلع إلى أعلى. وهذا يفسر الرغبة العارمة في الاستغراق أثناء الفهم والتواصل والنقاش. فليست هناك حدود دُنيا يمكن التوقف عندها، إنما ثمة عوالم لا نهائية من الإدهاش والصيغ والإمكانيات القابلة للتشكُّل.

الاختلاف الثقافي الذي توفره الوسائط كأداء ورغبة تقنيةٍ فيما يمارس المتدين. أي أنَّ التقنيات توفرُ اختلافاً ثقافياً بوجود معارف ومهارات لا تنفصل عن الصور العامة للإيمان. وهذا الاختلاف سيحطّم جميع الأشكال الموروثة لمفردات الخطاب الديني التي تم انتزاعها تاريخياً من الماضي.

الخيال التقني (وجوه الوسائط الافتراضية وألعابها والفضاءات التي تحقق رغبات المتدين). والخيال هنا لا ينفصل عن الإيمان، لأنَّه قدرة على تكوين الصور واللعب بدلالتها. ولذلك سيكون الاعتقاد حراً من محددات المعاني المادية التي كانت تتحصن فيها مرجعية السلطة.

أفكار دون مقدساتٍ مؤدلجة، ستكون الأفكار طليقة العلاقة بالاعتقاد (الارتباط - التشكل – التداعي)، لكونها قد فقدت القاعدة التي كانت تجسدها. فالمتدين الجوّال سيطّلع على جميع الاتجاهات من أدناها إلى أقصاها، ولن تكون هناك سلطة واقع مهيمن على ما يعتقد ويتصور، ولاسيما مع وجود الخيال الخلاّق. وبإمكانه تكوين هذا الخيال في بيئة افتراضية بحسب ما يتطلع المؤمن الجوال.

طقوس تقنية لا عبادات مقررة. فمن المفارقات أنَّ التدين الافتراضي لن يكون خالصاً لدرجة الاكتمال، " لأنَّ الدين في ذاته ليس يتغير إلاَّ في ضوء إعادة المعالم الإنسانية التي فقدها بأشكال أخرى في غيره ". والسبب أنَّ قوة الاعتقاد تستند إلى بنية نفسية وروحية داخل الإنسان، ولذلك ستعود دلالة الدين مرة ثانية من أبواب الممارسة التقنية إلى الإنسان مرة ثانية. فقد تصبح هناك عادات وأنماط مصاحبة من الإجراءات والابتكارات التي تكتسب صفة الثبات غير أنها ستكون حرة.

الأداء والتفاعل

بجانب ما سبق هناك الأداء performance في مجال الإيمان الافتراضي، حيث توجد خطوات وصور افتراضية تمثل في جوهرها نوعاً من الأداء. فالوسائط قبل ذلك عبارة عن فضاء للأداء وهو صلب ما يتم تجريبه من أخيلة ومعتقدات ورموز. فلو كان ثمة تصفح وحوار حول أفكار معينةٍ، فهذه الأشياء تترجم إلى أداءٍ ورتم وإيقاع، وذلك نتيجة عمليات التمثل والتصور والتطلع إلى ما يحقق معاني الأبعاد الدينية ويجعلها موضوعاً للتواصل. لدرجة إنشاء بيئات افتراضية بمجملها لمناقشة وتمثيل قضايا جديدة قائمة على إثارة المنبهات النفسية الفكرية والخروج باستجابات مختلفة تفيد حتى في معالجة المشكلات[6].

كل أداء هو اشتراك من قبل الإنسان في حالة من الممارسة المؤدية إلى استغراق فيما يعتقد ويتصور مع الآخرين. والأداء بهذا الوضع هو جوهر الأديان لكونه يملأ الأزمنة المسماة بالحياة. فالدين يؤكد كون المفاهيم والتصورات والرغبات نوعاً من الأداءات النفسية والحياتية، فلو قلنا إن الإيمان بالله لا علاقة له بالأداء، فهذا غير صحيح، لأن الفكرة ذاتها تنطوي على تأدية دور المؤمن والتعبد والتنسك وإقامة العلاقة بين المقدس والحياة (هذا النظام الموحد بلغة إميل دور كايم)[7]. وبخاصة أنَّ الرسالات الدينية تفرض شعائر بعينها كنوع من الأداء الي يحدد مقاييس الاعتقاد ودرجاته. وحتى بالنسبة لهذه المعتقدات، فإنها تعد أداء تمثيلياً ذهنياً لما يدعو إليه المتدينون، وبخاصة أنَّ كل متدين يمارس تفكيراً تمثيلياً بالمقام الأول بفضل ما يمتلكه من مخزون ثقافي يضع شروطاً لحركة الخيال.

إنَّ الأداء أدخلَ سمات الوسيط الافتراضي في حاشية الاعتقاد أو يصح العكس، أي أدخل الاعتقاد في حاشية الافتراضي. فالاثنان يلتقيان عند مستوى من الأداء المغمور بالتمثيل النفسي – العقلي. والشأن الجديد أنَّ الوسائط تعالج الإيمان الديني باعتباره إيماناً إنسانيا له كامل التحقق البشري من الوجود والحركة والتجريب. حتى بالنسبة لتصورات اللاهوت ستكون حركة وإجراءً(تُلُقِي وتتلّقى) مزيداً من المعاني. وهذا سبب أنَّ المتدينين يقبلون على المواد الدينية الرائجة من خلال المواقع والمنصات والبرامج والتطبيقات كما في اللاهوت الافتراضي المسيحي على شبكة التواصل[8].

ولو أوغلنا قليلاً فيما هو متاح، لوجدنا الجماعات الإرهابية قد استغلت تلك الصفة لتجند أنصارها وعناصرها الحركيين. ذلك أنَّ الانجاز الذي ينتظره المؤدلج سيتم افتراضياً على نحو تمثيلي كأنه الحقيقة القصوى التي لم يحققها في الواقع. ولذلك كانت داعش والسلفية الجهادية يمارسون طقوس الاعتقاد بشكل أخروي غسقي. لأن الأداء يعطيهم مساحة التحقق شبه المكتمل(وصولاً إلى القيامة والثواب والعقاب والجنة والنار والتنكيل بالكفار). فيكون سهلاً على الأنصار التشبُع بالجوانب النفسية المتشددة والإيديولوجيا من باب الرغبات الحسية الأدائية لا من جهة النظر المجرد.

يُفلتّر الفضاء الافتراضي هذه الفكرة على نحو خصيبٍ، وقد أعطاها قوة الأداء لصالح التحرر الذاتي. فالتمثيل والتخييل يضيفان إلى الذات رحابة التعقل. والأداء يحقق الايمان الإنساني على الأصالة، فالتدين هو إدماج ما هو ميتافيزيقي وروحي داخل الجوانب الإنسانية الحرة. وهذا ما يفعله  الأداء الديجيتال بالتحديد، ولا سيما في فضاء افتراضي لا نهائي التجريب والمحاولة وإعادة التفكير. ويظهر ذلك تحدياً بنائياً للسلطة التقليدية (دينياً وسياساً) من جهة التهجين والموالفة bricolage والسيولة fluidity[9].

وبطبيعة الحال، فإنَّ الوسائط لا تنغلق على ذاتها لكنها تمثل الوجود معاً، مع كل المتفاعلين جميعاً، لا أحد مستبعد مهما يكُّن. إنه الآخر الذي سيكون محتملاً على الدوام. وهو يجعل الأداء صوراً وتجارب من التأويل المفرط over interpretation بلغة أمبرتو إيكو[10]، لأنَّ الأداء هو العمل المجازي - الرمزي (المليء بالأخيلة والتمثيلات)  الذي يوسع وينوع قاعدة الرغبة الإنسانية في الاعتقاد. والأهم أنَّ الأداء لا يعطي فرصة للمتفاعلين لكي يتقمصوا دور الأوصياء على الآخرين، بل هو وظيفة للتفاعل ولرسم صورة ثريةٍ للإيمان باختلاف المنظورات.

الطقوس الافتراضية

مع حلول جائحة كورونا، تمَّ تعليق إقامة جميع الشعائر والطقوس والمناسبات الدينية. وهنا حدثت ثلاثة أشياء، الأول: أنَّ السلطة الزمنية (بلغة المسيحية) توقفت عن متابعة الجانب الروحي للأفراد، أي تلاشت سلطة القائم بالطقوس(رجال الدين) والمؤسسات وانقطع السبيل بالمتدين سوي من ممارسة الشعائر افتراضياً، وغدت متابعة الإيمان الافتراضي الحر بالعيش في أجواء الدين عبر الوسيط والتفاعل، واتسعت مفاهيم الدين إلى المجتمع الانساني الأكبر[11]. والثاني: ليس ثمة معانٍ (موزعة) على جوانب أخرى سوى العلاقة الرأسية الخالصة بين (المقدس والمؤمن)، بحكم أنَّه المتفاعل النشط عبر البيئة الافتراضية وهو الذي يصنع التخيلات الذاتية ويتلقى تأثيراتها.

وهذا جعل من الافتراض عملاً وجودياً عميقاً على الأصالة، لأنَّه تحوَّل من علاقة خارجية مع آخرين إلى حفر في الذات وتأمل  داخلي - غيري وإعادة بناء حياة مع الآخر. أمَّا الثالث: فهو تحول الطقس إلى تجريب وانتظار حالة مختلفة عما كانت معهودة سلفاً. ففي المسيحية، كانت ثمة مبادرات لجعل الكنيسة قائمة عن بُعد. وبالفعل جرت بعض الطقوس الدينية والقُدّاسّات عبر الواقع الافتراضي، وظهر مصطلح (الكنيسة الافتراضية virtual church) وهو المعنى الذي يجعل العلاقة مع المقدس عبر وسيط يتابع الحياة الروحية للمؤمنين وإقامة الطقوس ونيل البركاتافتراضياً وكذلك توفير مواد وفيديوهات وصور لشعائر تؤثر على مفردات الإيمان وعلاقته بالله[12].

على سبيل المثال بالنسبة لبعض المسيحيين في ظل كورونا، " جرت شعيرة التناول المقدس يوم الجمعة العظيمة عن طريق تطبيق تقنية زومZoom  على النت. ونظراً لوجود الموقف الحالي من التباعد، فلم يحصل كلُّ المسيحيين بناء على هذا التطبيق الافتراضي على الخبز الذي يستخدم في الكنائس عادة. ولذلك لجأوا إلى مادةٍ أخرى تمثل الخبر لإتمام الشعيرة ". وفي هذا الإطار أخذ المسيحيون قطعةً من الخبز العادي وكمية من عصير العنب وشرعوا في الصلاة على هذه المواد المختارة وتلّوُا دعاء التناول معاً عبر الشاشات اللامعة إلكترونياً"[13].

وبصرف النظر عن نجاح هذا العمل الديني من عدمه، إلاَّ أنه تجربة مهمة في إثارة المعاني والدلالات. فلقد كان المقدس حاضراً وغائباً وبينياً وموضوعاً للتفاعل والاستحضار. والمفارقة أنَّ التجربة وسيط(أي الطقس) داخل وسيط (هو المواقع والمنصات) عبر وسيط(هي صور واجراءات) وصولاً إلى وسيط آخر (استحضار الصور والعيش في حالة نوعية) كنوع من التأويلات والمعاني المتتالية (الممارسة الفردية – الجمعية).

وبصدد الدين الإسلامي لم يحاول الفقهاء طرح الطقوس الافتراضية على محمل الجد، وإنْ كان الوباء قد أجبر المسلمين على ترك الحضور المباشر نهائياً في المساجد وأماكن إقامة الشعائر والدروس الدينية والخطب المتواترة من الجمعة إلى الجمعة. والتجربة استدعتها ظروف وباء كورونا عندما أغلقت أماكن العبادة. وقد اقترح بعض المجتهدين إقامة المسجد الافتراضي virtual mosque، لكنه لم يتم افساح المجال لتأكيد الفكرة إلاَّ من جهة إلقاء الدروس والخطب والندوات ومناقشة المسائل الطارئة. وبات المعنى الواضح: كأن المسجد منصة معرفية ودينية. وقد كانت الفكرة ملحة في البيئات الغربية التي توجد فيها أقليات مسلمة، حيث حرص المسلمون على التواصل وتجديد الاطلاع على المواد الدينية والعلاقات بين بعضهم البعض واتخاذ مواقف وتقديم يد المساعدة للمحتاجين والمعوزين.

وعبر تجربة المسجد الافتراضي، تصبح الموارد المتوفرة على شبكة الإنترنت أكثر أهمية من أي وقت مضى في ظروف الجوائح وتباعد المسافات وتسارع رتم الحياة وتوزع المسلمين هنا وهناك، إذ يتوجه الكثير من المسلمين (كما في الولايات المتحدة مثلاً و أوروبا وكندا) إلى أحد المواقع على شبكة الإنترنت ليساعدهم على التواصل مع دينهم ويحاول الآخرون التوفيق بين الدراسة والحياة العائلية والانشغالات المهنية. وهم عندما يرتادون موقع المسجد الافتراضي، يجدون مقالات وخطبًا ومقاطع صوتيه ترشدهم إلى الحياة الدينية وقضاياها. وبجانب ذلك هناك بعض المواد الثقافية الأخرى، فقد تتخلل الخطب والنصوص إشارات إلى الثقافة الشعبية والترفيهية التي لا تتعارض مع مبادئ الدين، وبخاصة أن تلك الثقافة الشعبية مثل الأغاني واسعة الانتشار ضمن أوساط الفئات العمرية المختلفة في الغرب[14]. وفي هذا الإطار كانت ثمة إقامة طقوس دينية عبر الوسائط الإلكترونية مثل إقامة "إفطار افتراضي"عن بعد بواسطة الزووم، حيث كان يتم اعداد الافطار داخل المنازل ويتم بث تلاوة القرآن ورفع الآذان وإظهار تناول الطعام وإجراء حوارات خلاله بين المتفاعلين[15].

وعلى وجه العموم، أنشأ المسلمون " المسجد الافتراضي " دعماً لتغيير نمط العلاقات بين أتباع الدين وكيف يجدون آفقاً رحباً لما يؤمنون به. ويمكن أن يتداخل في السياق عناصر الخطاب الديني (مثل المرجعية والفقهاء أو الدعاة والتلقي) للتفاعل التواصلي. ورغم كون العالم الافتراضي لم يأخذ مساحته من التأثير في تلك النقطة، إلاَّ أنه حرَّك الصورة التي تجمد المعتقدات عند أعتاب الواقع بمعناه المادي. فقد كان على فقهاء الاسلام البحث عن تخريج فقهي لهذه الحالة ولم يفعلوا، وكان عليهم بذل الجهد لطرح بدائل في ظل التباعد الاجتماعي وعدم التكدس والاختلاط ولم يجتهدوا في ذلك.

خاتمة

من أجل إحداث ثورةٍ في " المجال الديني" يجب تجاوز الحدود بين الواقع والعالم الافتراضي، وهو تجاوز يقتضي إيجاد معايير جذرية مختلفة وبث قيم جديدة وإحياء جوانب إنسانية ثورية في فهم النصوص والتعامل مع التراث والرؤى التأويلية بما يزيد قدرة البشر على التطور والتحرر. من جانب آخر لا تحبذ آفاق الأديان بمجملها مفاهيم الثورة والتغيير، لكنها ستتطور إلى آفاق حرة شريطة أن يعيش الإنسان حياة مفتوحة بملء الكلمة.

الثورة في الفكر الديني هي الأقرب للبداية الفعلية، لأنها تمثل أسئلة تلح عليها الوسائط الديجيتال بكل ثرائها، ولاسيما كونها محملّة بأفكار الاختلاف والابتكار، وهي ما تلتقي مع أعماق الأديان بوصفها إيماناً حراً تقع مسؤوليته على الأفراد.

إنَّ الوسائط والبرامج والبيئات الافتراضية ستغير بالفعل طرائق الفهم وستخصب العقول بما يلائم انفتاحاً دينياً على كافة الأديان. وليس يمكن للإرهاب والانغلاق أن يسكنا الافتراض، لأن من طبيعته الوقوف ضد هذا التكوين اللاهوتي المغلق. وأكاد أجزم أن التواصل التقني(بكل هذه المحمولات) سينقي الثقافات الإنسانية على المدي البعيد من بذور التطرف.  ورغم أن الوسائط ذاتها تمثل مساحة لانتشار العنف، غير أنها (من جنس معالمها وحريتها) ستعرّيه وستقذفه على قارعة الاستنكار. وستتيح ظهور توجهات إنسانيه، لأن هشاشة السلطة الحاضرة لدرجة التلاشي، لن يؤدي إلاَّ إلى تلاشي الصور المماثلة للاعتقاد والفكر.

وعادة كان هذا رهان السلطات الدينية المتخفية في الخطاب الديني، حيث تحضر عن طريق مرجعية دائمة الإلحاح والتكرار، بينما تكون العبارات عبارات حسية مليئة بالوعيد وإتيان الأمور المهولة من الهيمنة والقبض والبسط والترهيب. ولكن ما فعله العالم الافتراضي أنه جعل الخطاب أدوات وإجراءات ولمسات ضوئية وخليطاً من الأفكار والاستراتيجيات الفاعلة فكرياً دون إهمال أية تعددية دينية. فقط يحتاج الفكر الدين تغييراً جذرياً لما يطرحه من مفاهيم ورؤى، وهي التي إن كان المتدينون قد أغفلوها، فقد يأتي الوضع الحرج الذي تفرض فيه فرضاً، وسيلقي العالم الافتراضي بظلاله على كل شيء.

***

د. سامي عبد العال

..........................

المراجع:

ابن تيميه، الخلافة والمُلك، من رسائل شيخ الإسلام(4)، تحقيق حماد سلامه ومراجعة محمد عويضه، مكتبة المنار، الزرقاء – الأردن، الطبعة الثانية 1994.

ابو عبد الله بن بطة العكبري الحنبلي، الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ومجانبة الفرق المذمومة (الجزء الأول)، تحقيق ودراسة رضا بن نعسان معطي، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض السعودية، الطبعة الأولى 1988.

أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، الجزء الرابع، دار السعادة – القاهرة 1974.

عبد الرحمن بن محمد بن قدامه، الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، الجزء الرابع، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان 1994.

سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، القاهرة، الطبعة السادسة 1979.

شهاب الدين أبو العباس القرافي، الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق، الجزء الثالث، دار المعرفة، بيروت - لبنان 1998.

صلاح الدين خلوق، الفقه الافتراضي وتطبيقاته على النوازل المعاصرة، مركزالتراث الثقافي المغربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى2015 .

فخر الدين الرازي، مفاتيحالغيب، التفسيرالكبير، الجزء السابع عشر، دار إحياء التراث العربي بيروت – لبنان، الطبعة الثالثة 1999.

ليبوديسيكو، فيروس كورونا: كيف يمكن إحياء الشعائر الدينية في زمن الوباء. على الرابط التالي: https://www.bbc.com/arabic/world-52215440، تاريخ الاطلاع (18/ 4/ 2021)، الساعة الحادية عشر مساءً.

"مسجد افتراضي يساعد المسلمين في التعرّف على دينهم عبر الإنترنت"، على الرابط التالي:https://share.america.gov/ar/%D9%85%D8%B3%D8%AC%D8%AF- : تاريخ الاطلاع (9/ 5 / 2021) الساعة الرابعة عصراً.

Adam Possamai, The i-zation of Society, Religion, and Neoliberal Post-Secularism, Palgrave Macmillan, 2018.

Ahmed Al-Rawi, Islam on YouTube: Online Debates, Protests, and Extremism, Palgrave Macmillan, London, 2017.

Charles Taylor, Modern Social Imaginaries, Duke University Press, Durham, NC, 2004.

Christopher Helland,Popular Religion and the World Wide Web: A Match Made in (Cyber) Heaven, In: Lorne L. Dawson and Douglas E. Cowan(Editors), Religion online, Finding Faith on the Internet, Routledge, New York and London, 2004.

Émile Durkheim, The Elementary Forms of Religious Life, Translated from Formesélémentaires de la vie religieuse. Le systèmetotémique en Australie (1912) and With an Introduction by Karen E. Fields , Free Press, New York, 1998.

Erich Fromm, Escape From freedom, A Discus Book / Published by Avon Books, New York, 1969.

Erich Fromm, The Sane Society, With an Introduction by David Ingleby, by Routledge&Kegan Paul , London and New York,

Hannah Genheimer, Fear and Anxiety in Virtual Reality: Investigations of Cue and Context Conditioning in Virtual environment, Springer Fachmedien Wiesbaden 2015.

Immanuel Kant, Religion within the Boundaries of Mere Reason and Other Writings. Introduction by Robert Merrihew Adams, Translated and Edited by Allen Wood and George di Giovanni, Cambridge University Press, Cambridge, 1998.

Immanuel Kant, The Critique of Practical Reason, Translated by Werner S. Pluhar Introduction by Stephen Engstrom, Hackett Publishing Company, Inc, Indianapolis- Cambridge, 2002.

Immanuel Kant, The Critique of Pure Reason, Translated and Edited by Paul Guyer, Allen W Wood, Cambridge University Press I998.

Jonathan Israel, A Revolution of the Mind: Radical Enlightenment and the Intellectual origins of Modern Democracy, Princeton University Press, Princeton and Oxford, 2010.

Ken Wilber, The Religion of Tomorrow, A Vision For the future of the great Traditions, More Inclusive, More Comprehensive, More Complete, Shambhala, Boulder, 2017.

Kerstin Radde –Antweiler, “ Virtual Religion “: An Approach to A Religious and Ritual Topography of Second Life, Online – Heidelberg Journal of Religions on the Internet 3.1 (2008). https://www.researchgate.net/publication/33436020

Michael Heim, The metaphysics of virtual reality, Oxford University Press, New York - Oxford, 1993.

Michael J. Laney, Christian Web usage, Motives and desires, IN: Morten T. Højsgaard and Margit Warburg (Editors), Religion and Cyberspace, Routledge, London and New York, 2005.

NiklasHageback, The Virtual Mind: Designing the Logic to Approximate Human Thinking, CRC Press , Taylor & Francis Group , London – New York, 2017, P 112.

Patrice Flichy, The Social Imaginary of Virtual Worlds, In: Mark Grimshaw (Editor), The Oxford Handbook of Virtuality, Oxford University Press, Oxford New York, 2014.

Umberto Eco, Interpretation and Over-interpretation, With Richard Rorty, Jonathan Culler, Christine Brook-Rose, Edited by Stefan Collini, Cambridge University Press, 1992.

Umberto Eco, The Limits of Interpretation Advances in Semiotics, Indiana University Press, Bloomington and Indianapolis, 1994.

Rachel Wagner, The Importance of Playing in Earnest, In: Heidi A. Campbell and Gregory Price Grieve (Editors), Playing with Religion in Digital Games, Indiana University Press, Bloomington & Indianapolis, 2014.

Rachel Wagner, You are what you Install: Religious authenticity and Identity in Mobile Apps , In: Heidi A. Campbell(Editor), Digital Religion: Understanding Religious Practice in New Media Worlds, Routledge, London and New York, 2013.

Robert H. Woods Jr. and Paul D. Patton, Faithful Criticism of Popular Media Technologies, In: Robert B. Kruschwitz (Editor), Virtual Lives, Christian Reflection: A series in Faith and Ethics, The Center for Christian Ethics , Baylor University, 2011.

Roland Barthes, The Pleasure of the Text, Translated by Richard Miller With a Note on the Text by Richard Howard, Hilland Wang, New York ,1975.

Stephen Garner, Theology and the New Media, In: Heidi A. Campbell (Editor), Digital Religion: Understanding Religious Practice in New Media Worlds, Routledge, London and New York, 2013.

Vincent Mosco, Becoming Digital: Toward a Post-Internet Society, Emerald Publishing Limited, United Kingdom, North America, Japan, 2017.

[1]- Kerstin Radde –Antweiler, “ Virtual Religion “: An Approach to A Religious and Ritual Topography of Second Life, Online – Heidelberg Journal of Religions on the Internet 3.1 (2008), P 174.

https://www.researchgate.net/publication/33436020

[2]- Christopher Helland,Popular Religion and the World Wide Web: A Match Made in (Cyber) Heaven, In:Lorne L. Dawson and Douglas E. Cowan(Editors) ,Religion online, Finding Faith on the Internet, Routledge, New York and London, 2004,P 33.

[3]- Erich Fromm, The Sane Society,  With an Introduction by David Ingleby,by Routledge&Kegan Paul , London and New York, 1991, p230.

[4]- Erich Fromm, Escape From freedom, A Discus Book / Published by Avon Books, New York, 1969, p246.

[5]- Michael Heim, The metaphysics of virtual reality, Oxford University Press, New York - Oxford,1993, P 82.

[6]- Hannah Genheimer, Fear and Anxiety in Virtual Reality: Investigations of Cue and Context Conditioning in Virtual environment, Springer Fachmedien Wiesbaden 2015, P 55.

[7]- Émile Durkheim, The Elementary Forms of Religious Life, Translated from Formes élémentaires de la vie religieuse. Le systèmetotémique en Australie (1912) and With an Introduction by Karen E. Fields , Free Press, New York, 1998, PP44-46.

[8]- Michael J. Laney, Christian Web usage, Motives and desires, IN: Morten T. Højsgaard and Margit Warburg (Editors), Religion and Cyberspace, Routledge, London and New York, 2005, P166.

[9]- Rachel Wagner, You are what you Install: Religious authenticity and Identity in Mobile Apps, In: Heidi A. Campbell (Editor), Digital Religion: Understanding Religious Practice in New Media Worlds,  Routledge, London and New York, 2013, P 199.

[10]-Umberto Eco, Interpretation and Overinterpretation, With Richard Rorty, Jonathan Culler, Christine Brook-Rose, Edited by Stefan Collini, Cambridge University Press, 1992,PP45-66.

- Umberto Eco, The Limits of Interpretation Advances in Semiotics, Indiana University Press, Bloomington and Indianapolis, 1994, PP 8 - 43.

[11]-Stephen Garner, Theology and the New Media, In: Heidi A. Campbell(Editor), Digital Religion: Understanding Religious Practice inNew Media Worlds, Routledge, London and New York, 2013,P256.

[12]-Robert H. Woods Jr. and Paul D. Patton, Faithful Criticism of Popular Media Technologies, In: Robert B. Kruschwitz(Editor), Virtual Lives, Christian Reflection: A series in Faith and Ethics,  The Center for Christian Ethics , Baylor University, 2011, PP 29- 36.

[13] - ليبوديسيكو، فيروس كورونا: كيف يمكن إحياء الشعائر الدينية في زمن الوباء. على الرابط التالي:

https://www.bbc.com/arabic/world-52215440، تاريخ الاطلاع (18 /4/ 2021)، الساعة الحادية عشر مساءً.

[14]-"مسجد افتراضي يساعد المسلمين في التعرّف على دينهم عبر الإنترنت"، على الرابط التالي: https://share.america.gov/ar/%D9%85%D8%B3%D8%AC%D8%AF-

: تاريخ الاطلاع 9/5/ 2021 الساعة الرابعة عصراً.

[15]- ليبوديسيكو، " فيروس كورونا: كيف يمكن إحياء الشعائر الدينية في زمن الوباء". على الرابط التالي: https://www.bbc.com/arabic/world-52215440، تاريخ الاطلاع (18/ 4/ 2021)، الساعة الحادية عشر مساءٍ.

 

في المثقف اليوم