أقلام فكرية

الانسان مقياس كل شيء.. بروتاغوراس

علي محمد اليوسفتمهيد: اختياري لمقولة بروتاغوراس 481 – 418 ق. م عنوانا لهذه المقال يعود لاكثر من سبب اجده صحيحا بالنسبة لي على الاقل منها ان حقيقة مركزية الذات الانسانية في المسار الانثربولوجي للتاريخ كان صحيحا سواء خدم الانسان بالتقدم الى امام ام لم يخدمه بالتراجع والانحراف بمسار تقدم التاريخ والحياة الى المراوحة بمكانه الذي احتاج مراجعة تصحيحية من الانسان ذاته..

وهذه المركزية للذات ستلازم الوجود الانساني مدى الحياة. إذ ليس من السهل إلغاءها من كل مرفق تعيشه البشرية والذات تحتل عمود فقري فيها. فمتى ما ازيلت الطبيعة من المعطى الازلي لوجودها ازيل معها الانسان الذي هو مخلوق جزء من الطبيعة متمايز عنها بالعقل واللغة والشعور بالزمن والوعي الذكي.

ثانيا ان جميع الثنائيات المتقاطعة المتعادية المتضادة في وجوب تحقيق معادلة غالب ومغلوب على مسار التقدم التاريخي الانثروبولوجي للانسان حان وقت اندثارها وتجاوزها رغم انها كانت في مسارها الانساني الطويل تسبق فيه كل ثنائية متضادة ايجابية تعمل على تقدم الانسان بالحياة، كما وتسبق كل ثنائية متضادة سلبيا كل تراجع انتكاسي في المسار الانثروبولوجي. الثنائيات المتضادة في الشيء ونقيضه هي تكامل معرفي وليست علاقة جدلية. الثنائيات المتضادة في كل حالات التقاطع هي بالمحصلة النهائية عامل تكامل معرفي في تقدم التاريخ الانساني.

الشيء الثالث الذي وجدته في مقولة بروتاغوراس انه بات من واجب شعوب الارض قاطبة وبلا استثناء تحويل مسارات الثنائيات المتعادية المتقاطعة بالتضاد الاحترابي غير المسالم وغير المتعايش الى مسارات من التوازي التكاملي في اغناء الحياة بعيدا عن غمط حقوق الانسان وحقه بالحرية والحياة الافضل والعيش بسلام. بعد ثبوت ان الايديولوجيا السياسية الحاكمة عبر التاريخ والعصور كانت على الدوام عامل تردي مسيرة الحياة في الحروب وانتشار الاوبئة وتنامي الفقر بالعالم وغير ذلك من كوارث يختلقها التصنيع الاختلافي الايديولوجي.

من هو بروتاغوراس؟

الفيلسوف السوفسطائي بروتا غوراس 481 – 418 ق. م عاش ومات في القرن الخامس قبل الميلاد وكان ابرز الفلاسفة السوفسطائيين الذين اعتنقوا افكاره وهو صاحب المقولة الفلسفية التي اجدها خالدة الى اليوم (الانسان مقياس كل شيء) أي ان الخير والشر، الصح والخطا كونها ثنائيات متضادة غير جدلية ولا ثنائيات متضادة معرفيا غير متكاملة يجب ان تتحدد بحسب تلبية حاجات الكائن البشري. "ويكيبيديا الموسوعة بتصرف".

كان بروتاغوراس فيلسوفا عمليا براجماتي النزعة الانسانية يؤمن بالافكار الفلسفية القابلة للتطبيق وتحقيق اللذة على العكس من الفهم المغلوط عن فلسفة السفسطائيين انهم بائعي كلام لمن يدفع لهم المال، وكان هو اول من أدان التفاوت الطبقي بين الاغنياء والفقراء بمعنى اعتماده النزعة الانسانية بالحياة. كما انه كان قريبا من الالحاد الميتافيزيقي اللاادري متجنبا بحذر الاجهار بموقفه من الدين كما فعل من بعده سقراط دليل ذلك ماجاء بكتاب برتوغوراس (في الالهة) قوله :اما عن الالهة فلست اراني على يقين من وجودهم او عدم وجودهم. ولا من شكلهم كيف يكون، ذلك لان ثمة اشياء كثيرة تعوق المعرفة اليقينية وفي غموض الموضوع وقصر الحياة البشرية.

وهذه المعايير الميتافيزيقية التي جاء بها بروتا غوراس هي ذاتها الاساليب الدينية على امتداد تاريخي طويل يصل الى عصرنا اليوم. نوضح لاحقا الجدل القائم بين الحداثة وما بعد الحداثة في تنظير فلسفي تحت شعار بروتا غوراس غير المعلن الانسان مقياس كل شيء. والانسان في حقيقته ذات مفكرة وليس كينونة طارئة يمكن الاستغناء عنها.

تورين ونقده الحداثة

يذهب ألان تورين 1925 في كتابه (نقد الحداثة ) قائلا : الحداثة هي العبور من المقدس الى الدنيوي، من الدين الى العلم، وفوق كل هذا اردت – الان تورين – ان اضع بدلا من الايديولوجيا الحديثة التي تطابق بين الحداثة والعقلنة رؤية نقدية ذات مغزى ونتائج مختلفة.1

نجد هنا مهما حضور التذكير باهم مرتكزات الحداثة التي تتمثل في مركزية الذات بعد ان داستها بالاقدام الخرافات الدينية وهيمنة سلطة كنيسة القرون الوسطى الاوربية، كما تبنت الحداثة اعلاء قيمة العقل ومنجزات العلم، والتمرد على التدين الوضعي الزائف الذي يخدم مصالح رجال الدين، والهجوم الكاسح على جميع مرجعيات ما سمي ميتافيزيقا العقل والحياة. مركزين الاهتمام على حياة الانسان كيف تنال الافضل بالعيش بسلام.

بالمقابل لم يدخر فلاسفة ما بعد الحداثة جهودهم في الهجوم المتطرف على ما اسموه نقدهم لميتافيزيقا السرديات التضليلية الكبرى للعقل حاضنة الحداثة بخاصة كتاب راس المال لماركس. ما جعل رد فعل ما بعد الحداثة في هجومها الشديد على مرتكزات الحداثة الاساسية مقبولا فلسفيا تنظيريا لكنه ثبت عمليا انه فارغ من محتواه التقدمي البديل لما جاءت به الحداثة من قيم لا زالت تعيش الى يومنا ليس على الصعيد الاوربي القاري فقط بل على صعيد عصرنا الحاضر كشعوب تتعايش على كوكب الارض ولا زلنا نستهلك منجزات الحداثة في العلوم ومختلف ضروب الحياة نحن وشعوب وامم عديدة في عالمنا الحاضر.

لذا يكون تماهينا الزائف مع طروحات ما بعد الحداثة على صعيد العلوم الانسانية تتقدمها الاجناس الادبية المختلفة. قائما ليس بتاثير فلسفي من هابرماس ومفكرين وعلماء اجتماع ادانوا طروحات ما بعد الحداثة الفارغة لكنما تماهينا المذهول بطروحات ما بعد الحداثة مصدرها واقعنا الذي يزدرد دونما المضغ والهضم لمنجزات الحداثة اوربيا وعالميا. اننا نقر ان مناقشة التضاد الفلسفي بين الحداثة وما بعد الحداثة بعيد جدا عن مقاربة الاهتمام بوضع تخلفنا الكارثي مقارنة بالحداثة العالمية. .

 ويكمل الان تورين الحداثة هي الانفصال المتعاظم تدريجيا بين عالم الطبيعة الذي تتحكم فيه القوانين الذي يكتشفها ويستخدمها الفكر العقلاني وبين عالم الذات التي يختفي منها كل مبدأ متعال لتحديد الخير الذي احل محله الدفاع عن الحق لكل انسان في الحرية والمسؤولية.2 هنا يغفل تورين انه لم يمر على الانسان عصر من عصور التاريخ لم يكن فيه الانسان وجودا اجتماعيا بدلالة انفرادية في السعي تنمية الذات في وسط مجتمعي متداخل تذوب فيه مصلحة الفرد بمصلحة المجموع.

ورثت البنيوية الفلسفية رائدة ما بعد الحداثة الاوربية كل المماحكات التنظيرية الفلسفية التي قادتها وكانت ساحة معاركها هي بين البنيوية والوجودية والماركسية والظاهراتية والخروج التام على هيمنة افكار سقراط التي دامت مدة الفي عام كانت اراؤه فيها انجيل ثان لا تمسه الافكار الدينية الكنسية لانها تمثل مصالحها الدنيوية بل وتحريم العلم الاقتراب من تفنيد اراء ارسطو باعتباره العلم حاضنته الفلسفة. الارض ثابتة وهي مركز الكون وقانون الحركة والجاذبية وهكذا. رغم عبقرية ارسطو في وضع لبنات لقضايا فلسفية لا زالت الى اليوم لم يفقدها العلم بريقها المعرفي الحضوري منها تفنيده لاراء افلاطون عن الزمن. الا انه وقف بالضد من حركة الارض ومركزيتها الكوكبية في مجموعتنا الشمسية.

الشيء الذي يبدو متناقضا في افكار عالم الاجتماع تورين انه يدعو اقامة تجمعات ذات طابع وتشكيلة مجتمعية فقيرة طبقية متدنية تحاول الوصول الى اهداف عملية لا تقودها فيها ايديولوجيا سياسية ولا زعامات تمتلك كاريزما قيادة الخروج على افكار البرجوازية الناشئة اوربيا وحتى في سيطرتها الاستعمارية على بلدان العالم الثالث لعل فشل نابليون ونفيه خارج فرنسا خير دليل على المفارقة التاريخية هذه. مخالفا تورين اراء ماكس فيبر وماركوزة ودوركهايم وعلماء اجتماع اخرين قالوا ان مهمة علم الاجتماع تقتصر على تفسير كيفية فهم النظام الاجتماعي. في حين اراد تورين ان تكون حرية وحقوق الانسان افضل من مراجعة نظريات علم الاجتماع وتفسيره.

الان تورين عالم اجتماع ثوري بلا اجنحة تحليق تعبر به سيسيولوجيا افكاره الثورية التنظيرية الى واقع تطبيق العمل الثوري المنظم في نشدانه تحقيق الاهداف التي تسعى لها جماهير المحرومين من الحقوق الانسانية والحرية. رغم انه كان عالم اجتماع ثوري التنظير الا انه بقي طوباويا مثاليا بالنسبة لماركس وفيبر ودوركهايم وماركوزة وغيرهم. وفعلا هو كذلك.

في تماهي معلن مع ثوابت الحداثة اعلن الان تورين اهمية تثوير مرتكز وعي الذات الجمعي من اجل نيل الحقوق كاملة في مرتكز الحرية المسؤولة عن تداخل تحقيق مصالح الفرد مع المجموع.. لكن ليس باسلوب ومنهج الاصطدام الثوري المباشر بالسلطة الحاكمة او قوى التدين المتنفذة كما تفعل ممارسته الاحزاب السياسية المنظمة ايديولوجيا ضد المصالح الطبقية للفقراء والمحرومين.

كما افاد تورين من تجربة عمله في شيلي فأعلن ادانته لما اسماه البرجوازية الاجنبية التي تتحكم بشعوب العالم الثالث في امريكا اللاتينية ودعا الخلاص منها بوسائل لا عنفية لكنها لا تتنازل عن الاستقلال والحرية وحقوق الانسان..

ويعزو الان تورين المباديء التي منحتها الثورة الفرنسية للعالم، الحرية، الاخاء، والمساواة، انها لم تأت من فكرة العلمنة ولا من الفكر التجريبي المثالي في عدم المساواة من كل نوع، وانما اتت من موضوع الحق الطبيعي ذي السمة التاسيسية.3

والمقصود بالحق الطبيعي ذي السمة التاسيسية عند تورين ان الانسان مخلوق تحكمه الحرية المسؤولة التي هي بداية التاسيس لما يتفرع عنها من حقوق الانسان بالحياة. والحق الطبيعي بالحرية المسؤولة مقولة ترجع اصولها الفلسفية لسارتر في الوجودية اعتباره الانسان محكوما بالحرية المسؤولة لا يتحكم هو بها ولا يختارها بقدر اختيارها له عن وعي قصدي غائب..

تتعالق بعض الاسئلة بضوء عبارات الان تورين ليس في نقده الحداثة بل في ترسيخه المبدأ التاريخي السياسي للثورة الفرنسية 1789 كايديولوجيا فتحت ابواب النهضة الحداثية متجاهلا انها لم تحكمها ضوابط ميدانية مبدئية ولا قيادات احزاب تقلل من جموح الجماهير الفوضوي وتضبط ايقاع النتائج المتطرفة غير المتوقعة التي رافقتها بالفشل. الثورة الفرنسية لم تنجب الحداثة بل عصر النهضة والحداثة انجبت الثورة الفرنسية ومن قبلها الثورة الامريكية على الاستعمار الانكلزي والمتعدد الهويات..

هل من الصواب جعل الحداثة كمنجز علمي عقلي في كل مناحي الحياة الاوربية مختزلا في تضاد عدائي ثنائي متجذّر بين الدين والعلم وادانة كل ما هو دنيوي مقدس في إعلاء قيم العلم وتقدمه الحضاري المتسارع؟

طبعا المقصود بالمقدس الدنيوي هو الذي يهيمن على اقصاء الدين بكل تياراته واتجاهاته وصهرها جميعها في بوتقة ان لا يكون الدين الالهي هو الحق الوحيد كأحد مصادر سعادة الانسان الارضية وليس تحويله مصدرتجذير شقائه من خلال كتابات رجال الدين الدنيوية الزائفة في تعميمها التضليل والتجهيل...

دين رجال القرون الوسطى الاوربية الوضعي كغاية وليس وسيلة كان سببا مركزيا لانبثاق الحداثة الاوربية التي جعلت من العلم منقذا لانسانية الانسان وليس تضادا ايديولوجيا يحكم علاقة العلم بالدين على مر عصور التاريخ الحضاري للانسان. بدليل لا زال تعايش الاديان مع العلم قائما في اوربا ومعظم دول العالم بفاعلية غير متوقعة ولا محسوبة الى اليوم منذ اعلان فرنسا مانفيست (وثيقة) حقوق الانسان في مقدمتها العلمانية بالسياسة والدين والعلم والحياة منذ عام 1905. اكبر اخطاء ما بعد الحداثة انها تنكرت للعلم والعقل والذات لا بل تركت الانسان نفسه كينونة طارئة لا جدوى الاهتمام بها على حد تعبير فوكو.

الحداثة لم تكن ولم تتبلور لاحقا على انها ايديولوجيا سياسية التزمت العلم لتتحكم بمناحي التمرد وتثوير الواقع المتردي في مرتكز الانقلاب الابيض على التدين الزائف ودعم منجزات العلم والمناداة بحقوق الانسان والحرية كذات تعيش وسط مجموع يشاطرها هذا الطموح.

كما من السابق لاوانه الاقرار الجزمي القاطع لمقولة هابرماس الصائبة جدا أن الحداثة الاوربية لم تستنفد اغراضها لتصبح اهمية مجاوزتها في مرحلة لاحقة مابعد الحداثة ضرورة لا تقبل التاجيل.

الحداثة نقلت اوربا من عصر النهضة الى عصر الانوار ولاحقا البرجوازية الراسمالية.. والطعن بالحداثة الاوربية بتنظيرات ما بعد الحداثة على صعيد تاطير تنظير شكلي بلا محتوى يحاول معاداة الحداثة لكنه يستمد وجوده الحقيقي الواقعي من منطلقاتها ولم يستطع تقديم البديل العملاني عن الحداثي الذي انتهت صلاحيته بتقديرهم وهو يحكم الحياة بوفرة الاستهلاك القائمة الحضور في عالمنا اليوم..

 طعن ما بعد الحداثة في تزييفه الحاضر ويمارس فرض ضبابية المستقبل في التيه الفوضوي الذي بلغ اوج تراجعه في إحياء اوربا لنزعة التدين المتعايش مع العلم في القرن 21 وكل ما يسعد الانسان بالحياة والتاكيد على الذات مقياس كل شيء في الالفية الثالثة. ما جعل حضور قيم الحداثة بالحياة اليوم لم ينته حتى على مستوى دول اوربا وامريكا في مرتكز طروحات ضرورة تعايش الدين والعلم في بناء مؤسسات ديمقراطية تحترم راي الاخر بالحرية وحقوق الانسان..لا يبقى لدينا وجود يلغي حضور الذات الانسانية ويطالبها التنحي امام القراءات المابعد حداثية الجديدة. وحفريات اركيولوجيا التاريخ والحضارة والعلم والعقل والمعرفة عموما بما يخلط الصحيح بالخطأ.. النقد المعرفي والفلسفي والعلمي الهادف هو تصحيح اخطاء وليس تبريرمشروعية الطعن بها.

من غير المقبول ان نفهم تعايش الدين مع العلم والعقل في تضاد عدائي هو في الواقع الحقيقي علاقة تكامل معرفي يجمعهما تداخليا تكوينيا علائقيا الدين بالعلم بنوع من التضاد المتخارج معرفيا تكامليا ضمن الحفاظ على الضوابط الخصوصية المنفردة لكل منهما كما هو السائد اليوم. فلا يتاح لنا ادماج صفات ورغائب الدين بخصوصيات العلم. فلكل منهما خصائصه المنفردة المستقلة التي من المفروض عدم تشكيلهما ثنائية تقاطع متعادي يريد اخذ كل شيء من الاخر ولا يعطيه اي شيء. اما اذا اعتبرنا صحة مقولة كانت الفلسفة عبر العصور حاضنة العلم وارجوحة حركته التطورية فهذه الفرضية الكاذبة لا تلغي خصائص العلم التجريبي مقارنة بخاصية الفلسفة التجريدية.

بل يمكن القبول تمرير تكامل التوازي غير المتقاطع بينهما في جعل مادية العلم الصارمة لا تعادي الدين بنزعته المثالية الاخلاقية التعبدية بل يسير الاثنان بالتوازي في السعي لتحقيق حياة تجعل من الدين محايث روحي يغني نزعة العلم الانسانية. بعد ان اوصل العلم المجتمعات المتقدمة عالميا حد التخمة بوفرة سعادة هيمنة الاستهلاك لمنجزات العلم وتقدم التكنولوجيا التي وجدت تلك المجتمعات نفسها بها فاقدة لقيم لا ينفع معها الاستهلاك المتغاضي عن خواء الانسان الروحي وفقدان كل قيمة اخلاقية تمنع تفكك الاسرة والاباحية الجنسية وانتشار تعاطي المخدرات باسم الحفاظ الكاذب على حقوق الانسان التي استماتت ما بعد الحداثة توفيرها كرد فعل تعويضي يناسب عصر النهضة التجديدي.

تضاد الدين مع العلم ثنائية ليست جدلية تكاملية معرفية بل كانت مداخلة ترسيخ العداوة والبغضاء بينهما على صعيد فلسفة التجريد التنظيري الفكري فقط.العلم لم يتقدم بالخروج من المقدس غير الالهي ممثلا في كهنوت رجال الدين الى الدنيوي العقلاني من اجل تحسين حياة الانسان الافضل..

رغم وضوح التناقض المصيري الذي يفصلهما جدليا ويوحدهما معرفيا احدهما بدلالة الاخر في استقلالية نوعية. الا ان منجزات العلم فرضت على التدين الوضعي الزائف والمتطرف لرجال الدين وجوب مراجعة نفسه مراجعة تاريخية نقدية في التنحي جانبا وعدم تعطيل او حرف مسار النهضة العلمية المعرفية والتكنولوجية في كل امور الحياة والتخلي عن وصاية استعباد الانسان بالحياة بوعود ثواب الاخرة على النمط والاسلوب الاستلابي لحرية الانسان وحقوقه ان يعيش الحياة بما يراه مناسبا لحياة ضمن مجتمع يتكامل معه بكل الحقوق.. وفي هذا لا تدان الحداثة على انها قامت بتوثيق ذاتية الانسان كمرتكز بؤري باسم تنحية خرافات الدين وتفشي نزعة التطرف العلمي الاستهلاكية في بعض منجزاته على انها جعلت من اعلائها قيمة الذات مثلبا تدينه طروحات ما بعد الحداثة..

توكيد حضور الذات الانسانية في تنمية مستدامة يعني وجود او عدم وجود حياة. كانت الطبيعة قبل وجود الانسان جزءا منها طبيعة سلبية لا تعي ولم تزل لا تدرك اهمية بعث الانسان الحياة فيها. كان من الممكن ان تبقى الطبيعة تعيش العصور الحجرية بلا انسان خلع عليها تفكير عقله وقادها الى امام في ثنائية متعايشة معا.

من العبث غير المجدي محاولة اليوم اشعال نيران بقايا عظام بروتاغوراس صاحب مقولة الانسان مقياس كل شيء. فلا زال الى يومنا هذا كل ما يتعلق بالانسان والحياة من تقدم حضاري هادف او متراجع يدور في مركزية كل شيء يصدر عن مبدئية حياة الانسان يكون مقياس حضوره خدمة الانسان ليس بالمعنى المعرفي التطابقي المباشر في سد حاجاته البيولوجية بل بالمعنى التاريخي الذي يجعل من اعلاء شان الذات في موازاتها العلم هو الدافع الحقيقي وراء التقدم في مسار الحياة والتاريخ نحو الافضل..

حتى الطبيعة التي انجبت الانسان اصبحت اليوم معيارية فاعليتها ان يتعالق الانسان بها بحميمية تكاملية لا يمكن معرفة احدهما الا بدلالة الاخر. من المعلوم دينيا وانثروبولوجيا ان الطبيعة وجود سابق على وجود الانسان الذي هو بدوره سابق على ظهور الاديان..ما يجعل الاعتزاز بالذات هدفا مطلوبا ومن الخطأ الذي سقطت به الفلسفات الفرنسية انه لا مجتمع انساني تلازمه نزعة اعلاء شأن الذات بعد ان استنفدت كامل حقوقها بالحداثة. في فهم ما بعد الحداثة الغاء فاعلية الذات السيسيولوجية هوليس بمثابة تضييع حقوق المجتمع كافراد في حين اعتمدت الحداثة وفلسفاتها اللاحقة عدم تغييب الذات محورا ارتكازيا بديلا عنه هو الضياع نفسه ..

انساقت الفلسفة البنيوية الفرنسية في هوس غير محسوب وراء تبني طروحات ما بعد الحداثة انه لم يعد هناك ما يسمى مرجعيات العقل والعلم والذات والدين والسرديات التاريخية والفلسفية ولم تبق(ي) في اجتهاداتها الفلسفية شيئا يشير الى اعتبار تلك الانساق المبدئية للحداثة لا تندثر بالتقادم الزمني. حتى العلم لا يبدأ من الصفر حسب تعبير جاستون باشلار.

فكم كان ماركس متنبئا انسانيا حين نجد عالمنا نفسه اليوم تتهدده المجاعة وقلة الغذاء والمياه العذبة وكوارث الطبيعة وانتشار الاوبئة والحروب والتفاوت الطبقي وغير ذلك. طروحات الراسمالية المحتضرة اليوم هي طروحات ما بعد الحداثة التي تصورت واقع الشعوب تقاد بتعميم نظريات يوتوبيا مستقبلية فارغة من كل محتوى ما عدا تدوير التلويح بالحروب وفناء الناس التي ادينت بها الحداثة زورا. عقلية صرف الانظار عن بؤس الشعوب والفناء الذي يتهددها.

مارست الفلسفات البنيوية النقد الصارم للحداثة من منطلق التماهي في ادانة ما بعد الحداثة كل شيء حققه فلاسفة وعلماء الحداثة لكنها بقيت في ميدان البقاء العاجز من إعطاء البديل خاصة على صعيد الفلسفة بما يرضيها لا بما يرضي اشباع حاجات الانسان المحروم منها يتقدمها الفقر، التكاثر السكاني، قلق عدم الامان، التغيرات المناخية والتصحر في اعدام فرص العيش .

تفشي الاوبئة والامراض وتراجع المناعة الطبيعية للطبيعة ذاتها قبل تراجع مناعة الانسان والكائنات الارضية. تهديدات شن الحروب العبثية سعيا وراء تحقيق اغراض لا قيمة حقيقية لها امام تدمير حياة الانسان والسكن ومعالم التمدن ونشر الترويع والخوف بين شعوب الدول.

من المعيب توازي هذه الكوارث تقدم الحياة في بعض المجتمعات التي تجد في الحروب جنونا لا رابح فيه لكنها لا تستطيع ايقاف جموح الهوس السياسي الايديولوجي بشن الحروب. هنا لو كان يتمثل بذهن الساسة والمفكرين عالميا مبدأ سعادة الانسان مقياس كل شيء في تقدم وبناء الحياة لا تدميرها لتوقفت همجية اغتيال سعادة الانسان بالسلام في اشعال الحروب العبثية.

الانسان قيمة عليا بالحياة ومباديء السياسة التي تشن الحروب التدميرية لا تتتماشى مع قيم الانسان الحضارية بالحرية وحقوق الانسان والتعايش السلمي بين الشعوب.جميع الفلسفات الاوربية والاميريكية في مقدمتها الفرنسية التي اعقبت الخروج من سجن عصور التخلف والاستلاب الانساني بدءا من الوجودية والبنيوية والتاويلية والظاهراتية والتفكيكية والعدمية والعبثية وفلسفات العقل ونظريات فائض المعنى سقطت جميعها في وحول الانسداد التجديدي على صعيد تصحيح تاريخ الفلسفة باستخدام اصلاح ازدواجية اللغة في خيانة المعنى من غير الاصطدام والوقوف امام جدار حقيقة الانسان انه ليس لغة اثبات تمايز الوجود بل الذات الانسانية بعد التحول اللغوي بالفلسفة اصبح وجودا لا تحل مشاكله الخارجية بمعزل عن حل مشاكله الداخلية المستعصية على الحل بدايتها الاقرار الفلسفي ان الانسان لم يعد وجودا متمثلا في بعد واحد هو اللغة على حد تعبيرهربرت ماركوزة ولم يعد يجوز عدم اعتبارذات الانسان هي مصنع الحيوية البشرية بكل شيء ومحور ارتكاز انه مقياس كل شيء بالحياة بدءا من الشخصنة الانفرادية له الى المجتمعية الجامعة في تقدم مختلف ضروب الحياة.

حينما صادرت العلوم الطبيعية والانسانية مباحث الفلسفة التي تعتبر اليوم تقليدية في مضيعة الوقت التي اعتاشت عليها قرونا طويلة ابتدعت الفلسفة مقولة ان الوجود لغة والانسان لغة والعقل لغة والحياة بمجملها لغة ولا شيء لا تقاس اهميته خارج تصحيح اخطاء اللغة في تضليلها العقل من ضمنها نقد تاريخ الفلسفة الوهمي في معظمه.

كل هذه التعبيرات صحيحة ولا خلاف عليها فهي تعبير موحد عن صفات انثروبولوجيا الانسان لا يمكن الانتقاص من فاعليتها التاريخية والحضارية . تاريخ الانسان الانثروبولوجي هو تصحيح اخطائه، كذلك تصحيح تاريخ الفلسفة لا يتم فقط بتصحيح اخطاء اللغة على حساب تهمة خيانتها التعبير الصحيح للفكر وبهذا يكون العيب القاصر ليس باللغة والاهتمام الفلسفي على انها الفلسفة الاولى منذ النصف الثاني من القرن العشرين.. لكن بقي الانسان كمعيار يتقدم اللغة ويعلو عليها في تغليب صفاته على جوهره الوجودي الهادف.. بمعنى البحث عن تبرير يشطب الانسان من مركزية مقياس كل شيء بالحياة بقيت حية ولم تمت بالتقادم الزمني وستبقى هذه المقولة الدفينة في اعماق الانسان كجوهر مركزي لا يخذله العقل ولا يتمرد عليه. وسيبقى مقياس كل شيء بالحياة هو الانسان كوجود تاريخي انثروبولوجي عقلي متطورلا تحده حدودا وكأنه اللامتناهي في الوجود.

المشكلة المتطرفة غير المحسومة انه بات عالمنا اليوم لا يحسب للحداثة منجزها الاثير انها باسم العلم وتحت رايته قامت بتنحية الدين المحتمي بتخدير متراكم الاساطير الخرافية التداولي في عبورها قرون التخلف والاستلاب في العصور الوسطى. وخطأ الحداثة انها روّجت لمنهج عقلي علمي في معاداة الدين ليس من منطلق الالغاء التام من الحياة التي تجد بالدين معيقا فاعلا في احياء وتوفير كل اسباب الكوارث الانسانية التي مرت بالانسان عبر عصوره الطويلة. لا تقاس المشكلة هنا بردة فعل رجعية تقوم على احياء نزعة التطرف والتزمت الهمجي في مختلف الاديان ومذاهبها العنصرية كما عشناه ونعيشه بعالمنا اليوم.

اليوم تحت الشعار غير المعلن الانسان مقياس كل شيء بالحياة يجري الترويج المتسارع نحو اشاعة التاخي بين الاديان ونزع الخلافات داخل مذاهب الدين الواحد ولا حاجة اصبحت ضرورية قيادة العلم للدين ولا تقدم يقوم على تداخل الدين في مسار العلم. كل ثنائيات التضاد التي لا تخدم الانسان اصبح امر تجاوزها اكثر من ضرورة.

منذ بزوغ فجر التدين التمديني المسالم لم تكن ثنائية العلمانية المجتمعية والسياسية بمواجهة الدين قائمة وليست ذات اهمية اليوم خاصة في انتهاج الديمقراطية وقبول الاخر في التسامح والتعايش المجدي النافع من اجل اجيال قادمة...ثبت اليوم باليقين القطعي والتجربة الميدانية الانسانية المؤلمة ان جميع ثنائيات الحياة والتاريخ في المعاداة التضاددية لم تكن صائبة ولم تكن يحتملها العقل الانساني التي اثخنته تلك الثنائيات المتعادية المتصارعة عبر عصور تاريخ البشرية بالكوارث المستدامة.

ثنائية التقاطع بعقيدة ادامة واقع العداوة المستحكمة آن أوان مجاوزتها بثنائية التوازي في التعايش السلمي القائم على احكام قوانين افشاء روحية التسامح والتعايش رغم كل مسارات الانحراف المتطرف والعنصري التي تغذيه واقعية التفاوت التمدين الحضاري والتمسك بمنطق سيادة السيد المتحضر على العبد المتخلف الذي تجري بعروقه خروقات اعدام حياة الانسان المسالمة السعيدة.

التخلف ليس ميراث الشعوب المنكوبة به بل هو النتيجة الاستراتيجية الاستعلائية في الوصاية الراسمالية المتغولة على الشعوب الادنى باسم الحضارة وغياب الديمقراطية وحريات حقوق الانسان.

النقطة الواجب التوقف عندها ان الذات وفي تعبير فوكو الانسان التي تطالب ما بعد الحداثة الغائها وتجاوزها جعلت من الطبيعة العمياء الصماء تقود العقول ذوات الافلاس من قيم الحياة المتمدنة. ادانة ان لا تكون الذات مرتكزا يقود مسار التاريخ البشري كان مات سريريا قبل نعي ما بعد الحداثة موته.

لذا فثنائية التقاطع في الاستعلاء انتهت صلاحيتها الاستعمالية الاستعمارية في محاولة اعادة تجذير مرض الاستعداء بين ثنائية غالب ومغلوب. الذات التي تحاول ما بعد الحداثة الغاء مركزيتها في افشاء سيادة العقلية المتخلفة، جعلت ما بعد الحداثة منها شكلا فارغا خاوي المحتوى ممتلئا بالتنظير المبالغ في تعميق انفصامية الفكر عن الواقع. حتى اللغة انبثقت في متونها فلسفات فارغة جعلت من تراجع الفكر المعرفي سببه تضليل اللغة للعقل وهو غير صحيح. ما اضاع على الفكر المعرفي والفلسفي مسار التراكم الخبراتي المغتني بالتجديد على الدوام.

من جهة اخرى فصلت الحداثة (الطبيعة) باعتبارها قوانين ثابتة حجّمت الذات في مركزيتها. وفي هذا التنحي للذات كان هناك حضورا استكشافيا جعل من قوانين الطبيعة مزاجا تحكم تفسيرها الفلسفة والدين على حساب فرادة دور العلم وانثروبولوجيا تقدم الذات على مسارات الطبيعية الاعتباطية المنحرفة منها..

هل يحق لنا اليوم باسم ما بعد الحداثة اعتبار الغاء مركزية الذات الحداثية هو تحجيم لفوضى الافكار التي اهملت واقع الانسان وضرورات تنمية حياته؟عصور الحداثة والتنوير اتاحت فضاءا من الحرية المنفتحة لذات انسانية لم يكتمل وعيها الاستيعابي، لذا جاءت ادانة العقل الحداثي اكتسابه تنظيريا على الاقل مشروعية جاءت بها ما بعد الحداثة في وضعها الذات العقلية في بازار بورصة المزايدات التنظيرية الفلسفية التي جعلت الحداثة خرق باق غير معلن يعمل بكامل قواه في سوق مزادات الحياة بموازاة تنظيرات ما بعد الحداثة الفارغة ببديل التطبيق.

هذه الثيمة الجوهرية هي التي تبناها هابرماس في محاججته وتفنيده طروحات ما بعد الحداثة وهو الفيلسوف المخضرم الذي عاصر طروحات الفلسفة على مدى قرن ونصف اكتسب خلالها خبرة غنية في وضعه كل انحراف فلسفي تاريخي وعلمي في موضعه الحقيقي الصحيح. ولم تثنه طروحات ما بعد الحداثة عن ادانتها بكل شراسة واقصاء عقلي. لكن حتما يكون للتاريخ الفلسفي المستقبلي كلمته.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.........................

الهوامش :1،2، ص 89 / الان تورين نقد الحداثة ترجمة انور مغيث.

 

في المثقف اليوم