أقلام فكرية

ذكورية الموت.. من القاتل؟ (1)

سامي عبد العاليبدو أنَّ الموت قد يأتي تلقائياً بلا عنوانٍ إذا كان مجهول (السبب) مباشرةً. فالناس تقول عادةً ماتَ فلانٌ مترحمةً عليه دون تفكير بحكم التعاطف والمشاركة الإنسانية، وأنَّ هؤلاء الناس يعرفون أسرارَ الموت بغتةً كما يعرفون ظروف الحياة فجأةً بالمثل. ولكن ربما تُحلِّق فوق الموت كلُّ (العناوين الممكنة) كالنسور الجارحة إذا كان موتاً نتيجة (القتل).

وبخاصة كذلك إذا كانت المرأة أو الأنثى عنصراً في الجريمة ولو كانت ضحيةً، لأنها تشكل مواقع الرغبات (الحسية والرمزية والخيالية) بمجمل البدائل المطروحة لها. فمن المعروف في هذه الحالة أنَّ هناك جريمةً بجميع حيثياتها وأصدائها، وأنَّ صور القاتل والمقتول لن تدخل (دائرة التفسير) بوضوح ما لم تدخل أولاً خطاب المجتمع وتصبح جزءاً من نسيجه التخييلي والبلاغي. مما يثير شهيةَ فاعلي اللغة والكلام الرائج لرسم حدود الجريمة ووصفها وأهم الأسباب المعروفة وغير المعروفة.

فكرة واضحة

هذه الفكرة جاءت واضحةً - كما سنعرض- بصدد  جريمة  قتل الطالبة الجامعية المصرية (نيرة أشرف) من قِبل زميلها (محمد عادل)، والتي تداولتها وسائل الإعلام والمنصات الإفتراضية. الجريمة التي هزت الرأي العام المصري وأثارت أصداءً كبيرة حول الشباب والتربية والتعليم والعلاقات الإنسانية بين الجنسين والحب والكراهية ونظرة الناس إلى الحياة. وأتصور أنها جريمة خطيرة لن تمر مرور الكرام، ستجد من يحاول دراستها دراسة متأنية وتقديم إجابات شافية عن الدوافع الكامنة فيها ولماذا حدثت.

والأهم بجانب كل ذلك أنَّها كانت مؤشراً على حياة تلك الشريحة العمرية (طلاب الجامعة) وماذا تفعل بهم الثقافة الجارية وكيف تترسب لديهم ظواهر المجتمع ومنعطفاته. كما أنها (مؤشر مستقبلي) لنا وسط انتشار مذهل لتأثير التقنيات الافتراضية وصفحات التواصل التي يغزوها الشباب ويمارسون حياتهم من خلالها.

وهذا هو المغزى من قراءة (الجريمة- المؤشر) كحادثة تطرح قضايا إنسانية مهمة. حيث شكلت واقعة خطابية عنونت الموت بعناوين ذكورية، وجاءت كمناسبة لرؤية موروثات ثقافتنا وتحولاتها وألقت بظلالها على الفاعل في الجريمة. بالأحرى  جاءت مناسبة لمعرفة كيف ألبست الثقافة (القاتل) رداء خاصاً كم سبب من مشكلات تاريخية وكم وطن من أمراض اجتماعية مزمنة تجاه المرأة. إذ أنه مع وسائط التواصل الاجتماعي ظهرت صور (القاتل والمقتولة والجريمة) في إطار مجتمع معقد قابل لأنْ يحكي ما حدث بشكل غير مُنصف وغير إنساني طوال الوقت، وأنْ تخرج الحادثة ضمن الكلام العام وفقاً للمحددات الذكورية التي تقبلها ثقافتُه الكلية.

ورغم أنَّ حالة القتل في هذا السياق (محددة الفاعل) فيما يبدو، وبخاصة إذا كانت جهات التحقيقات قد رصدت ذلك من خلال فحص الحادثة والقرائن الجنائية وسماع الشهود، وقبل ذلك كانت هناك لقطات مصورة تسجل وقوع الجريمة. بيد أن الفاعل ظل محل تأويل متواصل، بل إن الحادثة ذاتها قد وقعت رمزياً (عدة مراتٍ ومراتٍ) بواسطة هذا التأويل ذاته.

وهذا هو ما أظهر مواقف الناس من الجريمة، وكيف فسرونها، وكيف سيكون مصيرها على صعيد الدلالة في المستقبل. وهنا قد يتعرى المجتمع كله أزاء هذه الجريمة، لأن إخراج تأويلات القتل والآراء حولها حركت المسكوت عنه وأثارت القابع في الأعماق وقذفت بتفضيلات وانحيازات الناس وثغرات الرأي العام إلى العلن، وما إذا كانت هناك تبريرات وصور سلبية للقاتل والمقتول أم لا؟

ولذلك كان الأمر بصدد صور الجريمة مثيراً للاستعارات والقصص والقوى الغارقة بترقب تحت سطح النظام الاجتماعي، لأنّ تبلور أفكار غير حيادية عن الحادثة كما تم تداول أخبارها وتداعياتها كانت كاشفة للمواقف الاجتماعية والثقافية. وحتى عملية التداول كانت وفقاً لهذا الصراع الضمني الموجود في الحواشي والهوامش بين الفاعلين الاجتماعيين. وربما ظهر بجلاء ذلك من تعليقات وآراء المتابعين حول أطراف الحادثة وموضوعاتها مثل المرأة والرجل والحب والأب والأم والحقيقة والمجتمع والظروف الإنسانية السائدة. وكلُّ ذلك تمثل وتشخص على مسرح الأحداث وانعاكساتها لدى الخطاب اليومي الرائج.

جريمة حب وقتل

من زاوية قريبة جداً، رُسمت (عناوين الموت الذكورية) إزاء حادثة قتل (الطالبة الجامعية) المذكورة على يد زميلها المذكور في إحدي مدن دلتا مصر (المنصورة). إذ عُرفت خلفيات الجريمة بكون الطالب المذكور كان مرتبطاً بعلاقة عاطفية مع الضحية فترة ليست بالقليلة (لمدة سنتين فيما يُقال)، وأنها كانت تعمل كموديل نسائي لعروض الميكب makeup وأزياء العرائس مع أختها ونشرت صورها على وسائل التواصل بجانب دراستها في كلية الآداب، وأن الطالب في الكلية نفسها تقدم لخطبتها أكثر من مرة، ولكنها رفضت الارتباط به ورفض أهلها كذلك. وليس هذا فقط بل حرروا- فيما يقال-  محاضر رسمية بالشرطة لمنع تعرض الطالب لها مجدداً عندما وجدوا منه بعض المضايقات. حتى عرف أهل المنطقة التي يسكن فها الطالب والفتاة بهذا الأمر.

ويبدو أن الطالب ظل يتحين الفرصة لمقابلة الفتاة عندما تذهب إلى الجامعة. وصباح يوم الجريمة حاول الطالب الجلوس بجوارها في إحدى الحافلات التي تقل الطلاب إلى الجامعة وبحسب رواية الشهود أعلنت الفتاة أنها لا ترغب بمجالسة زميلها الطالب أثناء السفر، مما استدعى الأمر تدخل الركاب لفصل الطالب عن الفتاة، غير أنه كان مهيئا لحسم أمر العلاقة العاطفية والحياتية بزميلته عندما نزلا من الحافلة. حيث اعتبرها قد ضربت عواطفه وآماله في الصميم، فلاحقها مبدياً لها رغبته في الارتباط بها فجددت رفضها رفضاً قاطعاً. فما كان منه إلاَّ أنْ عاجلها بعدة طعناتٍ قاتلةٍ في الصدر والبطن، فسقطت على الأرض بجوار سور الجامعة، ولكن القاتل لم يكتف بهذا، بل قام بذبحها فور سقوطها مباشرةً كما جاء بالصور وفيديو الكاميرات. مما أثار هلع المارة وتدخلوا للامساك بالقاتل وتسليمة للشرطة. واعترف القاتل مبدئياً بالجريمة، وأنها كانت نتيجة "خلافات عاطفية"، وأن الفتاة حظرته مسبقاً من صفحاتها على وسائل التواصل الإجتماعي مما دفعه إلى ذلك.

هذه حادثة فعلية وقعت دون تدخل من أحد، وواضح أن هناك خلفيات  تتعلق بالعواطف وردود الأفعال على صعيد الفتاة والطالب والعائلة. وقد حدثت نتيجة ظروف عديدة أدت بالطالب الشاب لإرتكاب جريمةٍ ما كانت لتقع لو كانت هناك علاقات إنسانية سوية. وفيما يبدو أن الطالب قد فرض نفسه فرضاً غير مقبول من الفتاة. ورغم اعترافه بوجود علاقة عاطفية بينهما منذ سنتين قبل وقوع الجريمة، غير أن الفتاة لم تكن طرفاً له حرية الرفض والقبول. وربما ظهر لها أن هذا الشاب ليس كما كانت تتمناه في شريك حياتها لأسباب خاصة أو موضوعية. والدليل أنها قابلته بالرفض مؤخراً وتم تحذير الطالب من التعرض لها.

إنَّ وجود الأنثى في الحادثة كان موضعاً للغموض الثقافي، بل كانت هي موقعاً زلقاً للمواربة الاجتماعية من المتابعين. لأن المرأة في المجتمعات العربية بما فيها المجتمع المصري لم تخرج عن استعارات العيب والعار والحرام والجناح المكسور والصندوق الأسود المغلق ووسواس المخدة كما يقول الامام الطبري. وقد تنال الأنثى كما من التعاطف(أو العداء) الإنساني دون حدود،  فهي المرأة التي تكون أماً أو أختاً أو زوجة أو حبيبة أو زميلة وكذلك هي الخائنة واللعوب وسبب الخطيئة في نزول آدم من الجنة وهي صنو الشيطان. وعندما تكون في ميوعة المراهقة مع دلالة الأنوثة وبخاصة في مرحلة الجامعة، يشكل هذا الصمت كلاماً هامساً حول العلاقات العاطفية بين الشاب والفتاة ارتباطاً بأن هناك – في المخيلة الاجتماعية – علاقات عاطفية بين الطرفين لا تخلو من العيب.

الفاعل والبدلاء

نتيجة التفاعل الواسع مع تداعيات حادثة قتل طالبة الجامعة على يد زميلها، تبرع المتفاعلون بأنْ يكونوا هم القتلة المفترضين للطالبة بدلاً عن القاتل الحقيقي. ذهبوا مجاناً إلى مواقع التعليقات ليعلنوا قيامهم بالفعل ثقافياً من مكان ناءٍ.  وقد أخذوا مواقعهم واستلوا السكين من القاتل، ليتقدموا الصفوف تنفيذاً للجريمة بشكل رمزي. فقد أبدى هؤلاء تبريرات قاتلة هي الأخرى معتبرين أنَّ الفتاة هي السبب في ذلك. وكأنَّهم يعطون القاتل صكاً مفتوحاً لقتل الضحية دون اهتمامٍ بحقوق المرأة ومكانتها، وأنَّ هذه الفتاة هي الجانب المساوي تماماً للرجل، وأنه ليس من شأن أي أحد أنْ يعتدي عليها لغوياً أو إشارياً. لأنَّ التبرير والسرد الذكوري للحادثة أسهم في الاجهاز على مكانة الفتاة في الخيال الشعبي. وهو نوع من الاعتداء الوحشي والقاتل على الضحية بعد أنْ فقدت حياتها غدراً.

أمر واضح جداً لدرجة الرعب أنْ يقول مُتابع أو آخر كلاماً يفيد أنَّه متورط ثقافياً في الموضوع. وهو التورط بالمعنى الذي يمتلئ بحشو ثقافي يريد قتل المرأة واقصائها مهما كانت مظلومة أو ضحية. تنقل اللغة كل هذه الحمولات لبلاغة القتل الضمني بجوار الفاعل الحقيقي. لقد وردت أغلب العبارات الرائجة إزاء الجريمة السابقة بهذه الأبعاد كالتالي:

1-  عاوزين نعرف هي عملت أيه؟

2-  لبس الفتاة مش كويس.

3-  هي اللي غلطانه.

4-  أكيد هي تلاعبت بالشاب.

5-  من قال لها تخرج من بيتها أصلاً.

6-  إزاي أبوها تاركها هكذا.

7-  شكل البنت مش مظبوط.

8-  انظروا لصورها شبه العارية على انستجرام والفيس بوك.

9-  واضح أنها غير محجبة وغير متدينة.

10- ما يمكن هذه البنت مش محترمة وتستاهل أكثر من ذلك.

11- أكيد بينهما علاقة محرمة ودي النتيجة.

12- فتاة غير محترمة ولم تجد من يربيها.

13- تستحق البنت ما حدث لها، فلماذا هي بالذات.

14- دي فضيحة بين الولد والبنت وانكشفت في النهاية.

15- كانت تزوجته أحسن وانتهى الأمر.

16- لماذا لم تسمع لكلامه وتسايره حتى تمتص غضبه.

17- شكلها مثل الشيطان المتجسد في صورة أنثى.

18- الموت هو النهاية المحتومة للموضوع.

19- ربنا يستر عليها وعلى أهلها.

20- لازم ندفن الفضايح.. كفاية إلى هذا الحد.

جميع تلك التخريجات إنما هي أفعال محددة  في المجتمع، وليست مجرد كلمات عامة بمناسبة جريمة القتل. بدليل أن العبارات صمتت صمت القبور عن الفاعل، بل لم تذكر شيئاً عن الجريمة وألقت بدلالتها نحو الفتاة مباشرة. لدردة أنها سلمت بالقتل كعقاب مفترض دون مناقشة القضية برمتها ومن جوانب مختلفة. وهنا ذروة الإقصاء الواقع على الفتاة لحد القتل. وبالتالي فالقائلون لهذا الكلام ليسوا أقل من مشاركين في الجريمة المؤسفة. لأنَّهم لم يضعوا أنفسهم ولو للحظة في مكانة الطرف الآخر، هم انحازوا سلفاً لثقافة تحط من قدر النساء وتحملهم عبء الحياة الإنسانية وكوارثها وانحرافاتها.

لقد انحصرت الدلالة حول اتهام الفتاة أخلاقياً وتربوياً واجتماعياً دون توقف. ولم يترك الناس والمعلقون التفتيش في كل ما ينتمي إليها دون رحمة. ولعلَّ هذا الاتهام يذهب إليها حتى بعد الموت وهذا المقصود من ترديد العبارت الذكورية كلما سمع الناس أخبارها أو تفاصيل الجريمة. العنوان هنا أنه موت لغسل عار وجودي لا خلاص منه إلاَّ بالقتل. وكأنَّه نوع من الثأر؟ لكنه ثأر لمن؟ إنَّ الكلمات تعبر بوضوح عن أنَّه ثأر للمجتمع إجمالاً، لكل الناس في لحظةٍ فارقةٍ. وعلى أعتاب الاخلاق، ستكون الفتاة هي الضحية التي لابد أن تُقتل، حتى تشفي غليل هؤلاء الملاحقين لها جثةً هامدة على قارعة الطريق بجوار أسوار الجامعة.

هناك من قال صراحةً تعليقاً في هذا الاتجاه: " لو كل واحد شاف بنت وعمل معاها كده هنعيش ف مجتمع رايق...". وذلك التعبير يوضح تماماً أن المسألة تقصد جنس حواء لا تلك الحادثة بالتحديد، وهي فكرة تكاد تحشو أدمغة فاعلي الثقافة، نتيجة ميراث قهر المرأة في جميع مراحلها منذ أن تكون بنتاً حتى تذهب إلى قبرها. ولنتأمل الكلمات لندرك أنَّ الثقافة تعطي المجهولين سلطة القول والأنكى أنها تعطيهم سلطة الأمر والنهي واتخاذ المبادة إزواء الأنثى. والمقولة تعبر عن ذلك أن كل من يستطع قتل أنثى – لمجرد أن يقابلها سيعيش الناس حياة رائقة. وكلمة رائقة تضرب دلالياً للمزاج النزق والباحث عن اللذة. وكأن الكلمة تأخذ زمام المبادرة للتخلص من الإناث، فهن رمز الأنوثة والرغبة والشهوات الحسية وهن كذلك موضوعاً للتخلص من الكدر، وقد يكُّن مصدراً للشقاء والعناء.

هذا الازدواج سيتم حله تماماً- من وجهة نظر المقولة-  بواسطة العنف الدموي تجاه المرأة. وهذا معنى خطير يرى أنَّ التمييز ضد المرأة أساسه ثقافة الذكورة التي تنتظر ملذاتها وغرائزها على جثث النساء. مع أنَّ المنطق الواقعي يقول إنَّ مرأةً بعينها هي مصدر مشاكل لرجلٍّ بعينه، لكن أنْ تكون المرأةُ رهن إرادة الرجل حياة وموتاً أو بالأحرى قتلاً إن صح التعبير، فهذا موضوع غريب يتجدد من وقت لآخر!!

إنَّ تصوراً كهذا مرتبط بكون المرأة لعبة الشيطان ضمن المخيلة الاجتماعية، على أن الرجل تاريخياً هو غاية الشيطان وأن مدخل الأخير (الشيطان)  إلى الأول (الرجل) هو المرأة كمطيةٍ لتلك الغاية البعيدة. ويكاد هذا التصور يحكم العلاقةَ بالأنثى في تفاصيل الحياة اليومية لدينا. لدرجة أن كلُّ فعلٍ للمرأة أو قول هو أمر صادر من شيطانٍ ما. فهل يترك الإنسان الشيطان يعيش دون ملاحقة بكافة الوسائل؟ وحده الصراع الخطأ بين المرأة والرجل مازال يعيش بيننا على إيقاع ذكوري عنيف ويتدخل المجتمع بعناوين جندرية طاغية لحسمه، ولا يهمه من تكون الضحية رغم أنها مصدر الحب والحياة!!

***

د. سامي عبد العال

في المثقف اليوم