أقلام فكرية

رؤية في فلسفة التعليم وغاياته؟

حاتم حميد محسنفي الشطر الأكبر من التاريخ الانساني، سعى التعليم لخدمة هدف عام، وهو ضمان ان تكون لدينا الأدوات للبقاء. الناس يحتاجون للوظائف لكي يأكلوا، ولكي تكون لديهم وظائف هم يحتاجون ليتعلموا كيفية العمل. كان التعليم جزءاً اساسيا في كل مجتمع. لكن عالمنا اليوم يتغير ونحن مجبرون على التغيير معه. اذاً ما هو الهدف من التعليم؟

النموذج اليوناني القديم

جاءت بعض صيغ التعليم من اليونان القديمة. اليونانيون صاغوا نموذجا للتعليم يمكن ان يستمر لآلاف السنين. هذا النظام شديد التركيز صُمم لتطوير رجال دولة وجند ومواطنين ذوي اطلاع. معظم الاولاد يذهبون لبيئة تعليمية مشابهة للمدرسة، فيها يتعلمون الأبجدية الاساسية حتى سن المراهقة. في هذه المرحلة، يباشر الطفل أحد مسارين للعمل: التدريب الحرفي او "المواطن".

في المسار الحرفي، يوضع الطفل تحت إشراف شخص لا رسمي يعلّمه الحرفة. هذه قد تكون زراعة او طبخ او حدادة او أي عمل يتطلب تدريبا او عمل بدني. اما مسار المواطن التام فهو كان مسار التطور الفكري. الاولاد الذين يتّبعون مسار العمل الاكاديمي يُخصص لهم مشرف خاص يعزز معرفتهم بالفنون والعلوم بالاضافة الى تطوير مهاراتهم في التفكير. نموذج الطالب-المشرف الخاص في التعليم استمر لمئات السنين . جميع الاطفال الذكور يذهبون الى أماكن مموّلة من الدولة تسمى الجمناسيوم gymnasiums وهي صالات رياضية يتدرب فيها ايضا المواطنون العسكريون على الفنون العسكرية.

اما اولئك الذين في المسار المهني vocational يتم تشجيعهم بقوة على التمارين ايضا،لكن تدريبهم سيكون ببساطة لأجل الصحة الجيدة. حينذاك، كان هناك القليل من التعليم للمرأة والفقراء والعبيد. المرأة تشكل نصف السكان، الفقراء يشكلون 90% من المواطنين، والعبيد يفوقون المواطنين بعددهم بعشر مرات او عشرين مرة. تلك الجماعات المهمشة تباشر بعض انواع التعليم لكنه فقط للأجسام القوية الهامة للانجاب وللعمل اليدوي. لذا، نحن نستطيع القول ان التعليم في حضارات مثل اليونان القديمة او روما كان فقط للرجال الأغنياء. وبينما نحن أخذنا الكثير من هذا النموذج، وما جرى عليه من تطور، لكننا نعيش اليوم في زمن سلمي مقارنة باليونان. اذاً لنرى ماذا نريد من التعليم اليوم؟

الهدف البرجماتي: نحن نتعلم لكي نعمل

يُنظر للتعليم اليوم كونه يعطينا المعرفة بمكاننا في العالم، ويزودنا بالمهارات للعمل فيه. هذه الرؤية نالت التأييد من اتجاه فلسفي معين يُعرف بالبرجماتية. الفيلسوف تشارلس بيرس Charles peirce احيانا يُعرف "ابو البرجماتية" طوّر هذه النظرية في أواخر الـ 1800. كان هناك تاريخ طويل لفلسفة المعرفة والفهم (ايضا تُعرف بـ ابيستيمولوجي). العديد من الفلسفات المبكرة  كانت  تركز على فكرة الحقيقة الموضوعية العالمية، على سبيل المثال، اليونانيون القدماء اعتقدوا ان العالم مصنوع من خمسة عناصر فقط  وهي الارض والماء والهواء والنار والأثير. بيرس من جهة اخرى، كان مهتما بفهم العالم كمكان ديناميكي . هو نظر لكل المعرفة باعتبارها عرضة للخطأ. هو جادل اننا يجب ان نرفض اي فكرة حول انسانية متأصلة او حقيقة ميتافيزيقية. البرجماتية ترى ان أي مفهوم او عقيدة او علم او لغة او ناس هم مجرد أجزاء في مجموعة من مشاكل العالم الواقعية. بكلمة اخرى،نحن يجب ان نؤمن فقط بما يساعدنا في التعلّم حول العالم وبما يتطلب تبريرا معقولا لأفعالنا. الفرد ربما يؤمن بحفل كمقدس باعتباره له أهمية روحية، لكن البرجماتي يسأل : "ما تأثير هذا على العالم". التعليم دائما خدم أهدافا برجماتية. انه وسيلة تُستعمل لجلب نتائج معينة (او مجموعة من النتائج). في معظم الحالات، هذا الهدف كان اقتصاديا.

لماذا الذهاب الى المدرسة؟

التعليم يفيد الفرد شخصيا لأنه يحصل بواسطته على عمل، ويفيد المجتمع لأنه يساهم بالانتاجية الكلية للبلد، بالاضافة الى دفع الضرائب. ولكن بالنسبة للبرجماتي المرتكز على الاقتصاد، ليس كل شخص يحتاج لنفس الفرص التعليمية. المجتمعات عموما تحتاج الى مزارعين اكثر من المحامين، او الى عمال اكثر من السياسيين، لذا ليس مهما ان يذهب كل شخص للجامعة. انت بالطبع تستطيع ان يكون لديك هدف برجماتي في ايجاد حل لـ  اللامساواة او تعزيز المساواة او حماية البيئة، لكن معظم هذه الأهداف هي ذات أهمية ثانوية في عملية امتلاك قوة عاملة قوية.

البرجماتية كمفهوم، ليست صعبة الفهم لكن التفكير برجماتيا ليس دائما سهلا. من الصعب تصور منظور خارجي ، خصوصا حول المشاكل التي نتعامل بها مع أنفسنا. كيفية حل المشكلة (خاصة عندما نكون جزءاً من المشكلة) هو الهدف لشكل من البرجماتية يسمى الأداتية instrumentalism.

المجتمع المعاصر والتعليم

في بداية القرن العشرين عرض جون ديوي (الفيلسوف البرجماتي) اطارا تعليميا جديدا. ديوي لم يعتقد ان التعليم هو لخدمة الأهداف الاقتصادية. بدلا من ذلك، جادل ديوي ان التعليم يجب ان يخدم هدفا جوهريا: التعليم هو شيء جيد في ذاته، والأطفال يجب ان يصبحوا متطورين كليا بسببه. معظم الفلسفة في القرن السابق – كما في أعمال كانط وهيجل وجون ستيوارت مل ركزت على واجبات الفرد تجاه نفسه ومجتمعه. عبء التعليم وإنجاز الالتزامات الأخلاقية والقانونية للمواطنين كانت على المواطنين أنفسهم. ولكن في كتابه الشهير (الديمقراطية والتعليم)،جادل ديوي بأن مدى تطورنا وتطور مواطنتنا يعتمد على بيئتنا الاجتماعية. هذا يعني ان المجتمع كان مسؤولا عن ترسيخ ودعم المواقف الفكرية التي يرغب بها لمواطنيه. رؤية ديوي هي ان التعليم لا يحدث فقط بالمناهج الدراسية وجداول أوقات الدروس. هو اعتقد ان التعليم يحدث من خلال التفاعل مع الآباء والمعلمين والزملاء. التعليم يحدث عندما نتحدث عن الأفلام ونناقش أفكارنا او عندما نشعر بعدم الارتياح من الخضوع  لضغوط الزملاء ونفكر بفشلنا الأخلاقي. التعليم لايزال يساعد الناس في الحصول على وظائف، لكن هذه نتيجة عرضية في تطور شخصية الطفل. لذا فان المحصلة البرجماتية للمدارس هي خلق مواطنين متطورين بالكامل.

بيئة التعليم اليوم هي نوع ما مزدوجة .أحد الهدفين الاثنين في إعلان ملبورن لعام 2008 عن أهداف التعليم للشباب الاستراليين: هو "ان يصبح كل الاستراليين الشباب متعلمين ناجحين وواثقين وافراد مبدعين ونشطين ومواطنين مطلعين". لكن قسم التعليم الاسترالي يعتقد انه : "عبر زيادة المحصلات، تضمن الحكومة العمل على ازدهار الاقتصاد الاسترالي والتقدم الاجتماعي".

معنى ذلك اننا لانزال لدينا هدف اقتصادي كمحصلة برجماتية، لكننا ايضا نريد من الاطفال ان ينخرطوا بأعمال ذات معنى. نحن لا نريد فقط منهم العمل لأجل النقود وانما ليستمتعوا بما يعملون. نريدهم ان يكونوا سعداء. وهذا يعني ان فلسفة التعليم لدى ديوي تصبح اكثر اهمية للمجتمع المعاصر. جزء من كونك برجماتيا هو الاعتراف بالحقائق والتغيرات في الظروف. بشكل عام، هذه الحقائق تشير الى اننا يجب ان نغيّر الطريقة التي نعمل بها الأشياء. على الصعيد الشخصي،ذلك ربما يتمثل بالاعتراف باننا لدينا نقص بالتغذية وعلينا ان نغيّر طعامنا. وعلى النطاق الأوسع انه ربما يتطلب منا الاعتراف بان تصورنا عن العالم هو غير صحيح، حيث ان الارض كروية وليست مسطحة. عندما يحدث هذا التغيير على نطاق واسع،سيصبح تحولا نوعيا.

التحول النوعي The paradigm shift

قد لا يكون عالمنا واضحا تماما مثلما كنا نعتقد في السابق. نحن قد نختار ان نكون نباتيين لنقلل من تأثيرنا على البيئة. لكن هذا يعني اننا نشتري بذور الكينوا الغنية بالبروتين من دول لاتستطيع شعوبها شراء العناصر الاساسية للغذاء،الذي اصبح غذاءً راقيا في المطابخ الغربية. المتابعون للمسلسل الكوميدي (المكان الجيد)(1)،يتذكرون كيف ان هذا هو بالضبط سبب فشل نظام النقاط في الحياة لما بعد الموت لأن الحياة معقدة جدا لدرجة لايستطيع أي فرد الحصول على النقاط التامة للوجود الخيّر . كل هذا لا يواجهنا فقط بالمعنى الاخلاقي وانما ايضا يتطلب منا ان نغير جذريا الطريقة التي نستهلك بها الاشياء. تغيرات المناخ تجبرنا لإعادة تقييم الكيفية التي  عشنا بها على هذا الكوكب في المائة سنة الأخيرة، لأنه من الواضح ان تلك الطريقة من الحياة لايمكن الاستمرار بها.

الأخلاقي المعاصر بيتر سنجر جادل بانه في ضوء المناخ السياسي الحالي، نحن يجب ان نكون قادرين على التغيير الراديكالي لسلوكنا الجمعي حينما يكون هناك خلل هائل في طريقتنا في الحياة. اذا تعطلت سلسلة التجهيز بفعل التغيرات المناخية المسببة للكوارث،فلا خيار هناك سوى التعامل مع الواقع الجديد. لكننا يجب ان لا ننتظر حتى تحل الكارثة. عمل التغيير يتضمن رؤية انفسنا كمواطنين ليس فقط للجالية او البلد، وانما ايضا كمواطنين في العالم. وكما أشار الفيلسوف الامريكي مارتا نوسباوم Martha Nussbaum، هناك عدة قضايا تحتاج تعاونا دوليا للمعالجة. التجارة، البيئة، القانون والصراعات تتطلب تفكيرا خلاقا وبرجماتيا، نحتاج الى تركيز مختلف في نظامنا التعليمي لكي يمكن التعامل الناجح مع كل تلك القضايا. التعليم يحتاج للتركيز على تطوير شخصية الطفل بالاضافة الى القدرة على المشاركة كمواطن (حتى لو لم يوافق القادة السياسيين الحاليين). اذا كنت تدرس موضوعا معينا في مدرسة او جامعة، ربما هناك منْ يسأل: " كيف سيوفر ذلك لك عملا؟"، السائل هنا يرى الأهداف الاقتصادية هي النتائج الأكثر أهمية للتعليم. انه تصوّر ليس خاطئا بالضرورة، لكنه ايضا من الواضح ان الوظائف لم تعد السبب الوحيد (او الأكثر اهمية) للتعلم.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) مسلسل المكان الجيد (The good place) هو عمل كوميدي من اربع حلقات عُرض على محطة NBC عام 2020،العمل المسرحي يتخذ موقفا قريبا من أخلاق الفضيلة الارسطي. انت ستفشل مرات ومرات وستواجه قرارات ليس لها جواب. كل شيء تتخذه هو شائك ويسبب الألم او الحزن لشخص ما في مكان ما. وبما انك محكوم عليك بالفشل، فالمطلوب منك ليس ان تعمل كل شيء صحيح، بل المهم هو ان تحاول ذلك. فكرة العمل المسرحي تنطلق من وجود معيار للعدالة الالهية يعتمد على نظام النقاط لقياس السلوك الدنيوي. وفق نظام النقاط لما بعد الحياة يُخصص للخيرية 10 الاف نقطة بينما الناس الاشرار يستحقون مليون نقطة. النظام يعمل بتخصيص قيم سالبة او موجبة لكل فعل انساني يتم على الارض. فكرة الحصول على وجود تام على الارض هو مستحيل لأن وجود الانسان معقد جدا لدرجه لايمكنه جعل كل شخص سعيدا في أي موقف كان.

في المثقف اليوم