أقلام فكرية

الثقافة القانونية من منظور فلسفي

قاسم خضير عباسذكر(أرسطو) بأنَّ الإنسان حينما يطبق القانون يسمو وحينما يبتعد عن القانون والعدالة ينحط ويصبح في الحضيض، وبهذا المعنى الأرسطي ترتبط الفلسفة ارتباطًا وثيقًا بالثقافة القانونية والتعليم والسياسة. إنَّ التثقيف بالقواعد القانونية واحترامها وتطبيقها يسمو بالمجتمع الى التطور والازدهار، فالمعرفة بالتشريع أو القانون الذي له معنى عام وخاص ينعكس بصورة ايجابية على الفرد والمجتمع، المعنى العام هو وضع الأحكام القانونية واستنباطها من مصادرها المختلفة، كالدين والعرف والقضاء والفقه ومبادئ العدالة، أما المعنى الخاص للتشريع فهو الأحكام القانونية من الهيئة التي تملك هذا الحق.

ولذا فإنَّ الثقافة القانونية والمعرفة التشريعية تنصب على القانون بسبب ارتباطه بتنظيم المجتمع، فالقانون لوحده -كقواعد ومواد قانونية-لا يكفي لتطور المجتمع وحمايته، إذا لم يكن هناك ثقافة قانونية شعبية لتطبيقه ونفاذه؛ وهذا ما دعا المؤلف والسياسي الأسكتلندي (جون بوشان) للقول بوجود الترابط الفلسفي بين القانون وثقافة أفراد المجتمع لتطبيقه لأنَّ: الحضارة تحتاج الى أكثر من وجود القانون لتتماسك، بحيث نرى أنه لا يتساوى الناس في قبول قوانين الحضارة وتطبيق العدالة.

وهكذا فإنَّ الثقافة القانونية في المجتمع ضرورة ملحة، وهي من شروط الحضارة في بداية مراحل النهضة وبناء دولة القانون الحقيقية، لأنها تقوم على أسس معرفية قانونية متينة، تهتم بتطور وحماية الإنسان القانوني، وسيادة القانون في المجتمع والدولة. وهي ثقافة معرفية متخصصة تكسب الأفراد ثقة بالنفس ومعرفة بالحقوق والواجبات والحريات الأساسية، وتأهل الفرد لاكتساب الشخصية القانونية الحضارية، من خلال التثقيف واحترام القانون، وتطوير قابليات الناس في اتجاه بناء الدولة الحضارية القانونية، التي من أولوياتها تحقيق تنمية مجتمعية مستدامة، تكون نتائجها القضاء على الفقر والمرض والجهل والأمية، واحترام الرأي الآخر، وتنفيذ القانون على الجميع حكاماً ومحكومين، ضمن غائية القانون الفلسفية بتحقيق المساواة والعدل.

إذن الثقافة القانونية مطلب ملح تساهم به الدولة ووسائلها وأدواتها السياسية والثقافية والإعلامية، وأول مساراتها إصلاح النظام القانوني والقضائي، الذي به الرقي الفكري والعمق والشموخ الثقافي، للانتقال بالفرد والمجتمع والدولة من التخلف والانحطاط إلى التقدم والرفاهية والازدهار.

إنَّ المجتمع مؤلف من الأفراد، ومنظومة الأفكار والقيم والمبادئ والنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكل ذلك ينظم بقواعد قانونية رصينة غايتها تطبيق العدالة. ولا يمكن تلمس نهضة المجتمع إلا من خلال التثقيف القانوني، ودراسة الإشكاليات القانونية التي تواجه الأفراد وحلها، وإعادة الانسجام بينهم وبين قيمهم وأفكارهم وعقيدتهم.

وهكذا فإنَّ مفهوم الثقافة القانونية يعني الإلمام بالحقوق والواجبات والالتزام بالقواعد القانونية، وقد اعتبر جزءاً من ثقافات الشعوب، ويعتمد على القانون بشكل رئيسي، ويشمل معلومات وبيانات حول المواضيع والإجراءات والقواعد، التي يتم الاعتماد عليها في تطبيق القوانين، التي تنظم المجتمع وتكرس منظومة القيم الفكرية والسياسية على ضوء القيم الأخلاقية.

وهذا لا يتم بصورة صحيحة إلا من خلال أدوات الدولة الثقافية والإعلامية، وإصلاح القواعد القانونية لتنظيم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقتهم مع السلطة الحاكمة، وترتيب العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وأتصور أنَّ هذا الفهم الثقافي الفلسفي قد أدركه الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) حيث قال: (يجب على الجميع أن يدرك أنَّ احترام القانون والإلمام به يوفر العيش الكريم أكثر مما توفره محاولات الاحتيال عليه).

ولذا فإنَّ العيش الكريم وتلمس شروط النهضة يكون بإيجاد ثقافة قانونية مجتمعية تعتمد على الأخلاق والقيم والروح والتراث، والانتقال بالإصلاح القانوني إلى مراحل متقدمة عبر التفكير العقلي العلمي، وترك التناول الجزئي والعشوائي لمشكلات الفرد والمجتمع. إنَّ الثقافة القانونية تجعلنا ندرك أهمية الإنسان القانوني العامل ضمن مجتمعه ومحيطه، لتحقيق السيادة القانونية. وهذا كله لا يتحقق إلا ببناء دولة قانون حقيقية تعيد للإنسان كرامته وحقوقه كاملة، دولة تكون من أولوياتها إصلاح النظام القانوني والقضائي لينسجم مع التحولات الجديدة، ولا يكون متناقضاً مع متبنيات وأولويات المجتمع وثوابته.

ومن هنا يأتي المفهوم الفلسفي للثقافة القانونية، والغاية المتوخاة من نشرها، بحيث تُعلم الفرد حقوقه وواجباته تجاه الآخرين فلا يتهاون بالمطالبة أو التفريط بها، وتحميه من الاستغلال وسوء المعاملة وضياع حرياته من قبل الآخرين سواء كانوا أفراداً أم سلطة حاكمة؛ بمعنى أدق الثقافة القانونية تساعد الفرد على حفظ حقوقه والتزامه بالقانون وتجنب القيام بتصرفات خاطئة تكون مخالفة للقواعد القانونية النافذة. ولذا فإنَّ للثقافة القانونية أدواراً متنوعة في الحياة المعاصرة، منها إدراك الحقوق والحريات العامة وتوجيه عوامل التقدم، ونشر ثقافة وقيم العدالة الحقة ومكافحة كل ما هو ظالم وغير معقول. بلحاظ أنَّ الثقافة القانونية من أكثر المشاكل إلحاحاً التي تواجه أي دولة تحترم مواطنيها، لأنَّ لها تأثيراً إيجابياً على التطور العام للمجتمع والدولة بأكملها.

مما يعني أنَّ هذه المساهمات في نشر الثقافة القانونية تنطلق من زاوية فلسفية قانونية، الهدف منها إبراز وتبيان أهمية المقاربة الفلسفية في عرض أي موضوع قانوني. ولكن للأسف إنَّ هذه المقاربة الفلسفية للثقافة القانونية قد انحسرت في بلادنا العربية والإسلامية، لأسباب عديدة منها وجود الدولة الدكتاتورية والسلطة الفردية الحاكمة، بقوانين تشرعها لمصلحتها بعيداً عن مصالح الشعب؛ وهذه هي الاشكالية المتأزمة التي يعاني منها أكثر الدول العربية وتتلخص بتداخل معيب بين ما هو قانوني وما هو سياسي.

علماً بأنَّ الجهل بالقانون لا يعفي الأفراد من الوقوع تحت طائلة المسؤولية القانونية، وعليه فإنَّ نشر الثقافة القانونية ينجم عنه إيجابيات لا حصر لها منها: حفظ الحقوق وعدم ضياعها فمن لا يعرف حقه لا يمكنه أن يطالب به، وكذلك حفظ حقوق الاخرين وتقليل النزاعات القانونية. إضافة إلى نشر السلم والوئام في المجتمعات، لأنها ستكون خالية من التجاوزات القانونية، بسبب تطبيق سيادة القانون على الجميع. وأرى بصفتي رجل قانون أنَّ المقاربة الفلسفية مع الثقافة القانونية ضرورة ملحة، تؤسس لانسجام أكبر في معرفة النصوص القانونية، وحفظ حقوق الأفراد وسيادة القانون.

ويمكن أن نذكر ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أنَّ الفرد قد يتم إعفاءه من الإلمام ببعض أنواع الثقافات، فلا توجد مسؤولية عليه من عدم معرفته بتلك الثقافات المتنوعة، على عكس الثقافة القانونية التي أوجب القانون على الفرد الإلمام بها، حيث لا يوجد لديه عذر بعدم المعرفة بالقانون عندما يتعرض للمسؤولية الجنائية أو الجزائية.

ومن خلال هذا الفهم الفلسفي للثقافة القانونية ندرك علاقة التشريع بضرورات الواقع ومتطلبات الأمن المجتمعي، لأنَّ علاقة القانون بالمجتمع هي علاقة تأثر وتأثير. وقد ذكر الكاتب والفيلسوف الفرنسي (فرنسوا ماري آروويه) المعروف باسم شهرته (فولتير) بأنَّ: (القانون لا تدب فيه الحياة إلا عندما تختل الأمور)؛ ويقصد أنَّ القانون له ارتباط وعلاقة بما يحدث بالمجتمع. وهكذا فإنَّ الثقافة القانونية لها دور مهم في المُجتمع، لأنها تُسهم في جعل الأفراد يحرصون على التقيد بالقواعد القانونيّة، وتوفر لهم بيئة خالية من الجرائم، وتحميهم من العنف والإرهاب؛ وهذا ينشئ أجواء يسودها الأمن والأمان في الدولة.

***

د. قاسم خضير عباس

 

في المثقف اليوم