أقلام فكرية

ذكورية الموت.. من القاتل؟ (4)

سامي عبد العالهناك مقولةٌ لافتةٌ داخل أروقة القضاء ومعطياته الفكرية: " الحُكم عنوان الحقيقة". وتُطلق على كلِّ (حكمٍ قاطّع) في دلالته الأخيرة بالنسبة لطرفي القضايا الملغزة والشائكة أو حتى العادية. " حكمت المحكمة حضورياً على المتهم نتيجة كذا وكذا بما يلي من قراراتٍ "... هذه الصيغة الدالة على بذل كافة طاقات القضاء بواسطة (أدواته وخبرائه وتشريعاته وأنشطته ومؤسساته ومرجعياته)، كي يكون القرار معبراً عن الحقيقة إلى أقصى درجة.

أي أنَّ ما ستنتهي إليه عدالة القضاء (لابد أنْ يكون هو الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة). فالعدالة هي الهدف الأعلى من وراء جميع المحاكمات، وتفترض بطبيعة الحال المساواة بين كل الأطراف وإقامة الحجج والحوار بينها والنقاش وفحص الأدلة واتاحة المجال لاستخدام جميع الطرق المشروعة وتبادل الآراء وعمليات البحث والتحري والاستفادة القصوى من الخبراء والمعارف والمؤسسات وصولاً إلي  تلك الغاية بحسب السياق.

لكن ما المقصود بالحقيقة في ساحة القضاء، كي تكون أحكامُه عنواناً لها؟! أزعم أنَّ الاجابة عن هذا السؤال هي فهم حقيقة (الحقيقة) التي تخص القوانين والتشريعات القضائية وعلاقتها بالمجتمعات. نحن نعرف أن الحقيقة ليست مقولة قانونية فقط، بل هي مقولة (إنسانية - فلسفية) بالدرجة الأولى. وأتصور أنَّ نقطة التفلست فيها أكبر دلالة من مجرد حكم عام يغلف قضية بعينها، ثم يضع في النهاية (ختماً موثقاً) على الأوراق. ولئن افترضنا أن الحقيقة هية فقط معرفة دوافع الجرائم أو الفاعل العيني والمعنوي وراءها، فلن تكون الحقيقة هي الحقيقة العميقة بالنسبة إلى المجتمع!!

من الممكن أنْ يقول قائل إنَّ جريمة قتل الطالبة المصرية (نيرة أشرف) واضحة الحقيقة، ولا تحتاج إلى كبير مشقة لمعرفة طرفيها. فالضحية طالبة بالجامعة والقاتل زميل لها (محمد عادل) في الجامعة نفسها. وأنَّ إدانه القاتل هي الخطوة المنطقية الأخيرة لكل الملابسات، وبخاصة أنَّ الجريمة مصورةٌ صوتاً وحركةً وفعلاً وردَ فعل من الناس، وقد اعترف الجاني بالقتل وملابسات الجريمة.

ولكن حسناً فعلت هيئة القضاء بأن قالت منذ اللحظة الأولى: إنها لن تأخذ باتجاهات الرأى العام ولا بالتغطية الإعلامية المعبرة عن عواطف الشارع  ولا بالضغوط الإنسانية والاجتماعية ولا بأصداء الجريمة ولا بالحوارات التي نددت واثقلت في هذا الجانب على القاتل. وعليه ستطرح القضية للمحاكمة بناء على الأدلة والحيثيات القانونية ووفقاً لما هو مثبت قانونياً نتيجة عمليات الفحص والتحري والقرائن المادية والفعلية الموجودة في أوراق القضية.

وهذا الأمر معناه خطير في الإطار السابق:

1- أنَّ الحقيقة مقدسة قداسة الإنسان الذي مات في (شخص الطالبة)، وأنه كان يجب المحافظة عليها، وبعد الذي حدث وجب رد الحق إليها. والحقيقة مقدسة قداسة الإنسان الذي فقد أصالته وسيحكم عليه في شخص الطالب وكذلك توازي قداسة الإنسان الذي ننتمي إليه نحن جميعاً في الماضي والحاضر وإنسان الأجيال القادمة.

2- أنَّ القضاء قائم- أو هكذا ينبغي أنْ يقوم- على مبادئ الحقيقة العارية وحدها. وأنَّه ملتزم بها من جهة الحيادية والشفافية والقيم الواضحة لإنسانية الإنسان وبما يليق به في كافة الأحوال.

3- أنَّ مرجعية الحقيقة لا يمكن تلوينها ولا تلويثها أو لّي عنقها تحت أية مآرب مهما تكُّن، لأنَّ المرجعيات الحقوقية والاجتماعية والإنسانية مُنزهةٌ عن أي تشكيل خاصٍ أو منحازٍ.

4- الحقيقة أعظم و أجل و أولى من أي شيء في أمور الحياة. وليس هناك شيء يزن الحقيقة، لأنها لا تُوزن إلاَّ بنفسها حصراً دون أي هدفٍ سواها.

5- استقلال الحقيقة عن أي شيءٍ آخر أمر باتٌ بجانب استقلال مبدأ العدالة والقضاء نفسهما. وهذا أدعى لبذل الثقة في كون القضاء مصدراً لبناء الحياة المشتركة والخاصة والشعور بالإطمئنان وكونه مصدراً من مصادر السلامة والعيش الكريم.

6- الحقيقة في الحكم هي صورة الحق الذي يدافع عنه القضاء. لأنَّ اظهار كل حقيقة سيترتب عليه إعطاء الحقوق إلى أصحابها والدفاع عنها أمام المجتمعات الإنسانية.

7- الحقيقة أعمق وأكبر من طرفي القضايا والجرائم، فالحكم القضائي كعنوان لها إنما هو عنوان لردع الظالم والمعتدي وإقرار المعايير الواحدة انتصاراً لمعاني الحرية والتطور والتنوع.

8- كشف الحقيقة لأجل المجتمع ككيان كلي لا يصح حجب أي شيء عنه ولا يحق التعامل مع بعضه على حساب البعض الآخر. دوماً هناك المجتمع العام الذي يحق له معرفة الحقيقة. أي المعرفة مقرونة بالحق والحقيقة والواجب المبذول بلا تعقب ولا محاذير.

9- قول الحقيقة هو التعبير عن الضمير الجمعي دون كذب. هو القول الصريح دون مواربة إلتزاماً بالمبادئ المشتركة بين الناس والمجسدة للصالح العام دون تفرقة والمدافعة عن وجودهم معاً.

10- قول الحقيقة مسئولية كبيرة لا يمكن التنازل عنها ولا أسقاطها، وهي مسئولية أن تعبير عما جرى وما ينبغي التصرف إزائه وتوضيج دلالته وجسامته دون تهوين أو تهويل.

11- كشف الحقيقة حكماً قضائياً هو تعليم وتربية وتثقيف وإقرار بكون الحياة مسيرة لابد أن يتعلم الإنسان خلالها كيف يتصرف لصالح الجميع ويتعلم ضرورة أن يكون مواطناً فاعلاً في دولة القانون.

12- كشف الحقيقة عمل مقاوم لقوى الفساد والتخلف في المجتمعات، حتى وإن كانت قوى كامنة ولا تريد الدخول في صدام. ولذلك فالمؤسسات القضائية تمارس مقاومة قانونيةً لتطهير المجتمع والحفاظ عليه من العطب.

13- كشف الحقيقة يخضعُ لأعمال المنطق والقانون والبرهان لا لمبررات الأهواء والعواطف والأحوال النفسية. سواء أكانت عواطف القضاة المفترض كونهم موضوعيين تماماً أو عواطف الرأي العام المحيط بالقضية.

14- كشف الحقيقة في الحكم (خطابٌ مفتوح) إلى الإنسان والمجتمع والعصر. إنه رؤية ثقافية فلسفية نافذة تخاطب الإنسانية التي تعنينا جميعاً في لحظة الكوارث والجرائم والانحطاط والغسق الأخلاقي. اللحظة التي تشعل داخلنا شموعاً لرؤية: من نحن، ومن نكون، وإلى ماذا سنصير، وكيف نتجنب الأخطار، وكيف نعيد تجديد الأسس والأفكار؟!

جميع تلك الأبعاد تكمن في خلفية (كل حكم قضائي عادل و ناجز). وهيئة القضاء حين تتكلم، فهي تتكلم على مستوى المبادئ الفلسفية تطبيقاً على الحالة محل الحكم والتقاضي. والمشكلة كل المشكلة عندما يُسقط الناس بعداً من الأبعاد السابقة أو لا يأخذون به عندما يفهون الأحكام الصادرة عن القضاء. وموقف هيئة القضاء معروف وهو: لو أنَّ الحكم لم يراع تلكم الأبعاد، لكان حُكماً غير عادل من الأساس، فالإخلال بمبدأ الشفافية والحياد مثلاً لا يعني غير أنَّ الحقيقىة مشوَّهةٌ، وأنَّ الحكمَ لن يكون سوى قصاصةٍ مهترئة لبعض الحقيقةِ لا كلها.

وفي هذا الضوء، أصدرت محكمةُ الجنايات بالمنصورة في مصر حكما بتحويل أوراق الطالب قاتل الطالبة نيرة أشرف إلى مفتى الجمهورية لإبداء الرأي الشرعي للحكم عليه بالإعدام شنقاً نتيجة جريمته الشنعاء. وكان القاضي الموقر (بهاء  الدين المُري) أديباً ومفكراً حين صاغ عبارات حُكمه في جمل منطقية فلسفية وقد سقاها بدلالة أدبية تعبيراً عن أبعاد الحقيقة التي ذكرتها من قبل. وجاء أهم ما قاله على هذا المنوال: إنَّ المتهم المنسوب إلى بني الإنسان قد أتى فعلاً لم يأته الوحش والحيوان .... دنيا مقبلة بزخارفها وإنسان متكالب على مفاتنها. مادية سيطرت، فاستلبت العقول وصار الإنسانُ آلةً. يقين غاب وباطل بالزيف يحيا وتفاهات بالجهر تتواتر. وبيت غاب لسببٍ أو لآخر.. والمؤنسات الغاليات صرن في نظر الموتورين سلعةً والقوارير فواخير.

وأضاف القاضي (بهاء الدين المُري) بلسان الحقيقة: نفسٌ تدثرت برداء حبٍ زائفٍ مكذوبٍ... تأثرت بثقافة عصرٍ اختلطت فيه المفاهيم.. الرغبة صارت حباً والقتل لأجله إنتصاراً والانتقام شجاعةً وجرأة على قيم المجتمع تُسمى حرية مكفولةً ومن هذا الرحم ولد جنيناً مشوهاً ووقود الأمة صار حطبها.. اعقدوا محكمةَ صلحٍ كبرى بين قوى الإنسان المتباينة لننمي فيه أجمل ما فيه.. اعيدوا النشء الملتوى إلى حظيرة الإنسانية.

لم يقُل القاضي كلاماً جزئياً أو عبارات يومية مستهلكة، إذا جاز لنا التمييز في إطار القانون بين الكلي والنسبي. لأن القضاء والقانون إجمالاً يهتمان بوجودنا الإنساني على مستوى المبادئ والغايات، وأن تتحقق انسانيتنا أمام جميع الناس دون تفرقة. وهذا الانتقالُّ إلى مصاف الكليات هو شرط العدالة التي لا تتجزأ مهما تجسدت في حالة فتاة ضعيفة الجانب، تماماً مثلما أن الجرم لايجب التجاوز عنه وإنْ خرج من شاب غريرٍ مهمل خلال عصر ضائع البوصلة. في الجانبين، ستكون كلُّ الإنسانية مختزلةً في حالة الضحية، وسيكون الإنتصارُ للعدالة هو الأساس في حالة الجاني. فلا إحياء لحقيقة الإنسانية تجاه الضحة إلاَّ بإنفاذ القانون ولا مجال لظهور أثار ذلك دون إحياء العدالة تجاه الجاني. ولذلك تلتقي حقيقة الإنسانية مع العدالة والقوانين في المجتمعات ،لأن وجود هذه المجتمعات مستمد من وجود تلك الحقيقة.

وإشارة الكلام واضحة تماماً: أنَّ ما حدث هو تحول الإنسان إلى سلعةٍ، حتى أن أسمى المشاعر قد دُهست تحت أحذية العصر، فأصبح الحب مزيفاً كأنه بضاعة مغشوشة على أثرها يفتك الإنسان بالإنسان دون رحمة. ولم يدرك الجاني أنَّ لفظ الحب يشترط وجود الطرفين معاً متوافقي الإحساس وذائبي القلبين في قلب واحد، حيث لا يوجد حب من طرف واحد يقتل طرفه الآخر لمجرد الرفض. وتلك أرجوحة (الإنسان الآلة) الذي لا يأبه بمشاعر الآخرين ولا بوجودهم. وهي الأرجوحة التي جعلت الطالب القاتل يتأرجح مع أهوائها عالياً دون حقيقةٍ واقعية، وينحط مع رياح الغضب دون توقف عاقل لتستولي عليه نزعات الشر حتى غدا شيطاناً قاتلاً.

إنها علامة خطيرة على مستقبل مجتمع يرى في الشباب تحولهم إلى وقود سيحرق الجميع، وأنَّ المستقبل بات مهدداً بظروف لا إرادة لأحدٍ على دفعها، ويجب تكاتف الجميع على بناء الإنسان واعتباره هو الغاية والمقصد من الأخلاق والتربية والتعليم والثقافة. ولو أن المجتمع قد تدارك الزيف بالحقائق، والكذب بالصدق وإخفاء الظواهر السلبية بالمعالجة الصريحة والسياسات الواضحة، ما كانت لتنتشر عمليات الانتقام والكراهية دون سبب.

لقد ترك الناسُ كلَّ ذلك، وحصروا الحقيقة فقط في الحكم بإعدام الطالب ليس إلاَّ، وقد تعاطف معه الكثيرون معتبرين أنَّ هناك مسئولية غير قليلة تقع على البنت وعائلتها وأن هناك جوانب خفية متعلقة بسلوك البنت وبافعال العائلة تجاه الجاني ظهرت مع الإدلاء بشهادته أمام المحكمة. كل ذلك دون أن يلتفت أحد إلى  جميع (جوانب الحقيقة) الأخرى التي صدر الحكم كعنوان لها. فلئن وجدت هناك تلك التحفظات والمسئوليات المتبادلة بين الطرفين، فلا توجد أية مبررات ولا أية دوافع ولا أية غايات مهما تكن تقول بعملية القتل وملاحقة الضحية حتى الغدر بها. وعلى افتراض الأخذ بعواطف الناس إزاء أطراف الجريمة، فمن يوفي (جوانب الحقيقة) الأخرى حقها فيما يخص العدالة والمجتمع والإنسانية داخلنا جميعاً. هذه هي مفارقة القانون: أنه يأخذ بعض الناس كأمثلة حية لتعليم المجتمع كلِّه ماذا عليه أن يدرك وماذا يجب أن يفعل في المستقبل، وأنَّ الموت في كل الأحوال هو أحد مصادر الحياة ومعناها.

***

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم