أقلام فكرية

ذكورية الموت.. من القاتل؟ (5)

سامي عبد العالأخْطر شيء في الثقافة الذكورية أنها قد تُرغِم (الناسَ) بلا وعيٍ على رد الأشياء والقضايا إلى ذاتها مرةً أخرى، أي تجعل من نشاطها العام خَطّاً متصلاً من (الدوافع والغايات) وراء الأفعال وردود الأفعال تجاه بعضها البعض. ولهذا على طول الخط، ستوفر تلك الثقافة مبررات جاهزةً (مع وضد) ما يجري من ظواهر وممارسات اجتماعية. بحيث سيستمد الرافض لبعض الممارسات مبرراً للرفض من معين الثقافة، وبحيث سيجد من يقبل ممارسات أخرى مبرراً للقبول من المصدر نفسه. ذلك حتى لا يستطيع فاعلو الثقافة التفكير خارج ظلالها الممتدة. فقد تَخرجُ على الألسن أوصافٌ معينةٌ توصَّف الأحداث والظواهر بسماتٍ ما، لكنها أبداً لن ترمي بالمعنى بعيداً عن مركزيتها المُقررة. فمن الممكن أن يُلقي البعضُ باتهامات اخلاقيةٍ على الأفراد الذين (فعلوا كذا وكذا) وعلى الظواهر باعتبارها ظواهر(سيئةً وسلبيةً)، غير أنه سيُقال دوماً إنَّ هذا الذي يحدث لا يتسق مع تاريخ المجتمع وتقاليده!!

وبالتالي تصبح الثقافة السائدة هي ثقافة المعيار الذي يحطم ما سواه من معايير وأفكار بشكلِّ هادئ تماماً. ثم سرعان تطرح أمام أصحابها قائمة طويلةً من الأعمال المقبولة والأعمال غير المقبولة، حتى يترسخ لدى فاعليها أنهم محكومون بإطار أكثر عمومية لا علاقة له بنوايا الأفراد وأغراضهم، إضافةً إلى كونه هو الإطار الصحيح في الوقت عينه. ونتيجة ذلك قد لا يعرف فاعلو الثقافة: كيف يتصرفون في أغلب المواقف المستجدة دون أخذ (الحيطة والحذر) من قبول المواقف أو رفضها. كل هذا والثقافة الذكورية كامنةٌ كمون الليل في النهار، وتتحرك كرجع الأثرِ فيما هو حاصل.

على سبيل التوضيح، لو كانت هناك فكرةٌ نقديةٌ تختبر ممارساتنا الحياتيةً: مثل نقد الحط من شأن المرأة والنيل من صورتهن والتربص بكلِّ ما يصدرُ عنهن، فسرعان ما تُؤكد تلك الثقافة منطقَ الرعاية وآليةَ حماية النساء درءاً للأخطار. والثقافة بذلك تزعم أنها وحدها التي تحمي النساء وتصونهن من كلِّ شر،ٍ وأنَّها كانت تقصد وضعهن في مكانةٍ لا ئقةٍ بخلاف أي شيء آخر. وهذا عمل يبدو في الظاهر جديراً بالأهمية الإجتماعية حيث لا يخلو أي بيت من إمرأة ورجل، وأنَّ هناك متسعاً لحل المشكلات وتذويب أي إقصاء ممكن، لكنه في الحقيقة عملٌ يُغلِّب (الهيمنة الذكورية) بآليات دفاعية ناعمةٍ تأتي شكلياً لصالح الموضوع المُهيمن عليه (أي المرأة). حتى أن الأمر سيهدف ضمن الإطار العام إلى احتواء (أي رفض للثقافة السائدة)، وتسكين وضع المرأة داخل موقع بديلٍّ دون حراكٍ أو تمردٍ. كأننا نقول للمرأة إذا كنت تجدين تقليلاً من شأنك في هذا المكان، فلتأخذِ مكاناً آخر شريطة أن يكون تحت رعايتي!!

عندما صدر الحكمُ باعدام قاتل الطالبة نيرة أشرف، صحيح ذهبت عبارات التشفي المنتصرة للضحية وأريقت كميات كبيرة من معاني الشفقة والرحمة والإحسان والبنوة والأبوة تجاهها دون حدود، ولكن في المقابل تعاطف البعض بإصرار مع القاتل لدرجة محاولة دفع مبالغ مالية ضخمة كدية لأهل القتيلة مقابل الافراج عنه، واعتبروه شاباً في مقتبل حياته، وربما وقع في براثن الخداع من طرف الضحية حين استغلت تفوقه الدراسي فتوهم حباً متبادلاً لم يُوجد قط. وفي هذا الجانب، لم تتوان الثقافة عن دفع (صور الضحية) إلى دوائر من الإحتواء.. الواحدة وراء الأخرى. فالفتاة كما قيل بنت المجتمع المصري، وهي الصبية التي لم تتمتع بطيب الحياة بعد وهي الشابة المتفتحة التي كانت ينتظرها المستقبل الواعد. وحقيقي هي دوائر مكررة لرمزية الضحايا من هذا القبيل، غير أن الاحتواء الثقافي كان سيتم لصالح شيء آخر تماماً، وهو الحفاظ على صورة الذكر(الرجل) حتى الرمق الأخير.

ومن قبل تركت الثقافة الفتاة الضحية إلى نوع  من (الدفن) الرمزي، حيث تمَّ لملمة صور الفتاة سريعاً في حدود الدفاع عنها، على طريقة المثل الشعبي "إكرام الميت دفنه". وكأنَّ الأمر بذلك سيرفع الإحراج التاريخي للمجتمع المصري القابع في خلفيات المشهد.. وهذا لم يحدث، إذ مازال الناس يرددون سيرة البنت وحركتها بالغمز واللمز (الزمار يموت وأيده بتلعب)، وينشرون صورها حين كانت تعمل موديلاً للأزياء والميكب. وبالفعل لم يكن ممكناً حدوث عكس ذلك، لأنَّ المجتمع المصري كان مطالباً بتفسير الجريمة تفسيراً مقبولاً بعيداً عن كيانه العام، لكيلا يشير إليه أحد من الناس بأصبع الاتهام!!

فلو كان المجتمع المصري قد أعلن إلقاء الجريمة - مثلاً – على (نمط الحياة المشتركة)، واعترف أنَّ هناك سلسلةً من أعمال العنف ضد النساء بدءاً من الولادة والتربية حتى الزواج وليس انتهاء بنظام العمل والخروج إلى الشارع، لكان هذا المجتمع قد أدان نفسه في المقام الأول. بحكم أنَّ (فاعلاً ثقافياً مجهولاً وكلياً) وراء هذه الأعمال من ذلك الصنف سيجعل الإنسان يفكر في مسارات المجتمع وطرائق هيمنته على صورة الأفراد.

وهذا بالمناسبة هو ما يوضح تناثر كلمات اللوم تجاه الناس (كل الناس) المحيطين بجريمة قتل الطالبة في حينها، لعدم محاولة البعض إنقاذ ما يمكن إنقاذه. بينما المقصود من لوم الناس (كل الناس) في الأساس هو لوم المجتمع الذي لم يغير شيئاً من ثقافته التي تُفرّخ يومياً هذه الأعمال العنيفة، ولم يفلح في غرس قيم جديدة للنشء تواكب الحياة المعاصرة، ولم يطور من مؤسساته التربوية، ولم يُنمِ العلاقات بين عناصره ومكوناته لترسيخ رؤى وسلوكيات تحترم جميع أفراده لا المرأة فقط. وحدّه المجتمع بإمكانه أن يغير من سلوكيات فاعليه على المدى البعيد لو أنه ترك مساحةً للتحرر والقدرة على المراجعة الواعية والناقدة ولو كانت هناك استجابة كبيرة لتطوير التعليم والتربية وأنماط العلاقات بين الناس في الشارع.

في كل العصور المختلفة، يعد احترام المجتمعات لحقوق (الإنسان كإنسان) هو الشرط الأول لاحترام حقوق المرأة والرجل. والشرط صحيح بالتأكيد حتى وإنْ بدا الرجل متفوقاً ثقافياً كما يظهر من مصطلح (الثقافة الذكورية). لأن الذكورة هنا لا تعنى صالح الرجل بالضرورة، بل هي سلطة تستعمل الرجل لصالح محددات تاريخية تختلط بالسياسة والنظام الإجتماعي وتتشكل في أبنية خاصة وعامة يصعب التخلص منها. وفوق ذلك تفرز تلك السلطة وجودها المقوى الذي يمارس عنفاً على الرجل والمرأة جنباً إلى جنب. فكأنما الرجل هو ضحية نفسه، رغم أنه يتمتع بسمات ومكانة غالبة في المجتمع.

لندقق النظر سنجد أنَّ المجتمع المصري بعد أن (دفن الضحية رمزياً)، يحاول الآن أن (يدفن الجاني رمزياً) أيضاً. فعقوبة الإعدام أو تخفيف الحكم أو دفع الدية للعفو عنه كما يشاع إنما هي سرديات تخاطب بها الثقافة العامة فاعليها المستنفرين. مرة تحاول أن تقرب الحكم السابق بعقوبة الاعدام من النهاية الوشيكة للجاني (فيتسائل البعض ويتعجل تنفيذ الاعدام)، ومرة أخرى تمد المحيطين بأمل تخفيف العقوبة مع الاستئناف(فيظهر في الأفق محامون مشهورون للدفاع عنه)، ومرة ليست بالأخيرة تحثهم الثقافة ذاتها على جمع المبالغ المالية لاخراج الجاني. وأخذ ينشأ الصراع بين مؤيدي تلك المستويات الثلاثة إلى أقصى درجة كما نرى على صفحات التواصل الاجتماعي والمنصات الإفتراضية. لكنه صراع لن ينتهي إلاَّ بعد أن يقر كل الفاعلين أن الثقافة عاقبت الخارج عن قوانينها بعقاب ما وقد اطمأنت الثقافة إلى ذلك مع تغلغل أخبار المحاكمة وأصداء العقوبة في جوانب المجتمع. ولاسيما أنَّ المستويات الثلاثة (الاعدام – تخفيف الحكم – الدية) تسمى عقوبةً أيضاً باختلاف النتائج بين (موت وسجن مؤبد وخروج إلى الحياة).

***

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم