أقلام فكرية

ذكورية الموت.. من القاتل؟ (6)

سامي عبد العال"كما كانت المرأةُ البدويةُ تخض اللبنَ قديماً، كذلك تخض الثقافةُ أفكارنا إلى أقصى مدى"

ظهرت في الأجواء الاجتماعية المصرية ألوانٌ من المواقف إزاء حكم المحكمة بإعدام الطالب القاتل لزميلته (نيرة أشرف) جراء جريمته الشنعاء. فهناك من رحبَ بالحكم وبما انتهت إليه المرافعات، وهناك من ناقشَ الحكم آملاً بالجديد في جولة الاستئناف والنقض، وهناك منْ واصل الجدال إزاء أصل المسألة وفصلها. وليس هذا فقط، بل أخذَ (اللونُ الواحدُ) يتحللُّ إلى (ألوان فرعيةٍ) حول الضحية والجاني وحول أهل الاثنين معاً. باتَ الجميعُ مادةً دسمةً للتعليقات والأقاويل، وأخيراً غدت القضية (حلبةَ صراعٍ) بين أقطاب المحاماة في القُطر المصري الميمون. ومازال مسرح الجريمة يشهد (حلقات متتابعةً) من السيناريوهات المبنية على تكلمة المجتمع لحراك فكري وجدلي آخر.

وهذا هو أحد الأسباب وراء مواصلة مناقشة الموضوع والبحث عن جذوره وتداعياته الثقافية. وحتى لا يمل القارئُ من طرح الموضوع، يمكننا لفت الأنظار الآن إلى وجوه التحول في (صورة القضية وأطرافها) عبر مخيلة الناس، مما سيكشف (منطق الجريمة والعقاب). الأمر الذي سيعطينا مدخلاً لتقديم تحليل مختلف لأصداء الحكم بالاعدام على الجاني داخل المجتمع، ولماذا حكمت هيئة القضاء بهذا الحكم؟ وهل يمكن التمييز بين(العاطفة والعقل) في تلك الجريمة أم أن ذلك أمر عارض؟

في البداية كانت صورةُ الجريمة (صراعاً عاطفياً)- وإنْ لم تُسمَ كذلك- بين شاب وفتاة هي زميلته بالجامعة ضمن نطاقٍ محدُود من المشاعر. ثم مع رفض الطالبة لتلك العلاقة، انقلب الصراعُ العاطفي إلى (صراع ملاحقة) على صفحات التواصل الاجتماعي من طرفٍ(الشاب). وفجأة أمست العلاقة (صراعاً دموياً) عندما توعد الجاني محبوبته بالقتل ونفذ وعيده. وتباعاً- بعد عملية القتل- كونت الجريمة (صراعاً زمانياً ومكانياً) بين الناس في المساحة الجغرافية المعروفة التي وقعت فيها. وهكذا بدأ مسرح الجريمة يتسع تدريجياً ليغدو (مسرحاً إعلامياً) كبيراً عندما تناول الإعلام أخبار وصور ووثائق الجريمة والكلام الذي قيل حولها. ثم أصبحت الجريمة (صراعاً اجتماعياً ثقافياً) بين المرأة والرجل على نطاق اجتماعي أكبر.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقط، بل سرعان ما تحول الصراع إلى (صراع ومغالبة ومزاحمة) بين مؤيدي علاقات الجنسين ورافضي تلك العلاقات مستعملين (كليهما) جميع موارد الدين والعادات والتقاليد. وعلى طول المدى، تحول الصراع إلى (صراع ممارسات قضائية حقوقية) و(ممارسات ثقافية) بين صور الجريمة في المحكمة الجنائية وصورها لدى الوعي العام. وأخيراً وليس آخراً تحول الصراع  إلى (صراع قانون ومحاماة) كفعل ورد فعل بين أقطاب المحاماة المشهورين. فهناك من نذرَ نفسه من هؤلاء المحامين العاشقين للظهور أمام الرأي العام لأجل الدفاع عن القاتل (الطرف المُثبت قانونياً أنه فعل ذلك!!)، ومنهم من نذر نفسه دفاعاً عن الضحية (الطرف المثبت قانونياً أنه الضحية). ولكن إذا كانت الجريمة موثقةً ومعروفةً ومقررةً، فما الجديد إذن، ما لم تكن هناك (مشكلة ثقافية) بالأساس؟!

عادةً الثقافة المصرية تقول إنَّ الجرائم لا تنتهي هكذا بسهولةٍ تامةٍ. على سبيل المثال هناك جرائم (ريا وسكينة) الشهيرة التي صُنعت منها أفلامٌ ومسرحيات وقصص وحكايا كثيرة حتى اللحظة، وما زال يطلق نموجا ريا وسكينه على بعض عمليات القتل المتكررة حتى اللحظة. وهناك جرائم (أدهم الشرقاوي)، هذا الشخص المجهول الذي كان وغداً وقاطعَ طريق، ولكنه فجأة أصبح (رمزاً وطنياً) لا يُشق له غبار في المخيلة الثقافية نتيجة اختلاط جرائمة بمقاومة الاحتلال. واستطاعت السينما أن تغسل الجانب الإجرامي من سيرته- أو تخففه- ليقر الجانب الثوري فيها ويعتبر هو الجانب المقبول على صعيد عام.

ذلك لأنَّ ثقافتنا ليست (ثقافة وضوح وشفافية) سائرة في ذلك على غرار الثقافات الشرقية والعربية إجمالاً. وكأننا لابد أنْ نخضَّ (الممارسات والأعمال) في الفضاء العام مثلما كانت المرأة البدوية (تخضُّ) الألبان في قربةٍ من جلد الماعز لعمل الجُبن. والخض الثقافي هو عملية رجٍ وخلخلة وأخذ ورد وتفتيت وتجميع المواقف والأفكار مع التزيُد في الطرح والتمديد والتقصير أو الأفاضة في التفاصيل، ولا يخلو الأمر من قطع وطرح و وصل وحكي وتخييل وتوليف ونسج وتحبيك وتقشير وإيهام وتشويق وترغيب وترهيب واختزال واسهاب وسرد .... وتلك العملية الثقافية عملية تاريخية لم يترك المجتمع المصري أحداثاً أو ظواهر إلاَّ ويتعامل معها بالطريقة ذاتها من (الخض المتواصل).

وعملية (خض) الأحداث والجرائم تتم على مستويين:

1- خض الأفكار الدائرة حول الأحداث داخل العقول. كأنَّ المجتمع المصري قد دخل مرحلة من العصف الذهني brain storming بين الأفراد جميعاً. إذ قد يتبرع (أحدهم أو مجموعهم) للإدلاء بدلوه في شرح الجريمة وتفسير ظروفها وملابساتها والانتهاء إلى نتائج معينةٍ. وبصرف النظر عن صحة أو حقيقة ما يقول، يتحلق حوله فجأة مجموعات من العقول الآخرى ليصدقوا ما يردد وليؤمنوا بما ينتهي إليه كلامه. وهذا ما حدث طوال الإيام الأخيرة على صفحات التواصل الإجتماع. وقد ناقشت بعضاً مما قيل سابقاً.

2- خض الأحداث داخل طول المجتمع وعرضه، أي يتمثل الناسُ الجريمة إجتماعياً ويتعاملون مع الضحية والقاتل كأنهما موجودان في كل شارع وفي كل حارة وفي كل بيت وفي كل علاقة عاطفية من هذا القبيل. إذ يتحسب الناس تجاه هذا الشاب النمط (محمد عادل) الذي غدا علامة فارقةً يمكن أن تلبس رداء الظاهرة الإجتماعية. وهذا بدا واضحاً من أقوال الناس حين أشاروا أنَّ ذلك الذي حدث للضحية لو حدث لبناتنا لكنا فعلنا كذا وكذا من الأمور الدموية بالقاتل.

وهاتان العمليتان من (خض الجريمة) انتهتا إلى انقسام المتابعين إلى ثلاث فرقٍ:

الفرقة الأولى: فئات تؤيد حكم أعدام القاتل والتنكيل بجثته، وأنْ يجري الاعدام في ساحة عامة، حتى يرتدع الشباب أمثاله. وهؤلاء يأخذون بموقف الضحية وأنه ما كان يجب أن يحدث لها ما حدث.

الفرقة الثانية: فئات تعاطفت مع القاتل على أساس أنه كان يتيماً ووحيداً بين بنتين أختين وأمه، وأنه لم يجد من يفهمه معنى أن يكون رجلاً بملء الكلمة. وأن هذه الخلفيات قد تعطيه تكوينا نفسياً مشوها خارج إرادته المحدودة.

الفرقة الثالثة: فئات تصمت وتراقب عن كثب وترى في الجريمة لغزاً محيراً يجب أنْ نفك شفراته. وأن الأمور في المستقبل كفيلة بإستجلاء الموضوع. وهؤلاء لا يرون في القاتل ولا الضحية خيراً  أو شراً مما رأوه سلفاً من جرائم أخرى، وأنه يجب القضاء على أسباب الجرائم، حتى لا تجر بعض الناس إلى جرائم أخرى بالطريقة ذاتها.

وأصحاب الفرق الثلاثة باستثناء طفيف بالنسبة إلى الصنف الثالث منهم لا يتعاملون مع الجريمة بمنطق القوانين وكيفية معالجة الجذور البعيدة للقضايا والأحداث، بل هم فئات تظل نائمة (وربما فئات متسكعة) على نواصي الحياة الإجتماعية المختلفة، ثم فجأة تستيفظ مع الأحداث الصادمة، ليأخذ التصنيف مجراه وليصطف (هؤلاء أو أولئك) في أصناف عامة، لتبدأ الصراعات الثقافية الضروس بين الآراء المختلفة.

في جريمة القتل السابقة، لكي نفهم ما يجب النظر إليه من مواقفٍ، كان لابد من التمييز بين مسارين لا يلتقيان ولا يجب أن يلتقيا.

المسار الأول: هو العلاقة العاطفية بين طرفي الجريمة، وهي علاقة خاصة بين شاب وفتاة كأي طرفين من الجنسين(تحت سلطة الطرفين والأهل). فقد تنمو العلاقة أو تتوقف لدى طرف دون الطرف الآخر، وهذا أمر يرجع إليهما بحسب أهداف الطرفين وسياق العلاقة بينهما. حيث كان يقال على هامش الجريمة إنّ الطالب شعر بوجود تبادل للعواطف من الفتاة، وقيل أيضاً إن الفتاة كانت تصمت إزاء العلاقة من أجل الاستفادة من تفوقه الدراسي في أعمالها العلمية. وأيا كانت تلك الصور الموجودة خلال تلك المرحلة، فهي علاقة تستند إلى قبول ورفض الطرفين أو هكذا ينبغي أن تصبح. وكان يجب أنْ يفهم الطرفان (وبخاصة القاتل) أن الأمر يتوقف عند هذا الحد وداخل تجربة العلاقة على هذا المستوى وليس أبعد. وبالتالي لو حدث أنْ رفضت الفتاة تطوير العلاقة بالإرتباط (الزواج)، كان يجب أن يحترم الطالب تلك الرغبة الرافضة ويرجع إلى مقاعد الحياة مرة أخرى. وهذا المسار لا غبار عليه بحكم أنَّ الطرفين لن يلتقيا عند نقطة أكبر من العلاقة العاطفية، نظراً لأن أهداف وميول كليهما مختلف في الحياة. وبالتالي ما كانت لتحدث عملية الملاحقة ومن ثم القتل في النهاية.

أمَّا المسار الثاني: فهو تطور العلاقة في اتجاه آخر من الصراع. وهنا دخلت العلاقة تحت سلطة (القانون والمجتمع)، حيت تحول الحب إلى ملاحقة ومتابعة ملعونة للنيل والثأر من الضحية. ومن ثمَّ، فإنَّ أية نتائج (ملموسة أو غير ملموسة) بين الطرفين سيكون عليها عقابٌ سواء من المجتمع أو القانون. لأن تلك العلاقة تركت آثارها على مواقف الأهل والأشخاص والأطراف الأخرى وموقف القانون منها. واصطدمت بما هو ثابت من حقوق الأفراد وحياتهم الخاصة. وغدت العلاقة مؤثرة باستعمال العقل الواعي في نطاق العاطفة بإمتياز.

هنا تجاوز الطالب (مادياً – فعلياً) أية معايير وأية قيم وأية ضوابط وأية أعراف وأية آليات تحكم تلك العلاقة الخاصة، بل خلط بكلِّ سذاجةٍ بين (العواطف الخاصة والأفعال الخارجية) التي تجسدها أو تتحكم فيها ولو من طرف واحد هو نفسه. وعليه فقد قام بملاحقة الفتاة وقتلها أمام الناس في وضح النهار. إنَّ هذا التجاوز وحدَّه (هو ما يستحق العقاب كجريمة حقيقيةٍ)، وقد صدر حكم الإعدام بهذا المعنى من الأساس، مهما كانت مواقف الناس الذين خلطوا بين الخاص والعام!! لأن عقل الجاني هو من يتكلم ويفعل في النهاية بعدما أدرك أن مجال العاطفة لم يعد يجدي إزاء رفض الطالبة الإقتران به.

لا يوجد أيُّ حق أو أيُّ سند أو أيُّ مبرر للطالب القاتل أنْ يأخذ تلك الخطوة المجرَّمة بأي شكل من الأشكال. بكلمات واضحة أنه ليس من حقه إطلاقاً أن يعتدي (ولو بأقل إهانة) على حقوق الطرف الآخر مهما يكن. وبالمثل فإنَّ افتراض الخيانة أو السلوكيات الخاصة للطالبة الضحية ليس مبرراً على الإطلاق أيضاً لأنْ يقوم الطالب بجريمته أو أنْ تكون هي الطرف الأضعف في العلاقة. وكذلك ليس من حق الناس أنْ يبرروا المسار الثاني (الملاحقة والجريمة) بأية أسباب أو أية مواقف كانت ضمن المسار الأول (العاطفة والحب) وإن جاءت سبباً للجريمة في النهاية. وكما كان الطالب مكتفياً بعلاقته العاطفية في المسار الأول، فلا يجب أن تكون دافعاً للقتل في المسار الثاني. ولو حدث القتل، فستكون الجريمة جريمةً عارية أمام القضاء والمجتمع. وهي جريمة (كاملة الأركان) بهذا الصنيع بناء على الأعراف والقوانين والأخلاقيات.

لأنَّ القتل لو لم يكن جريمة – وهنا فهم الناس الخطأ والمغلوط – ما كان الطالب نفسه ليخلط بين المسارين وهو واعٍ عقلياً بذلك تماماً، وما كان لينهِ حياة الفتاة بهذا الشكل المأساوي مع سبق الإصرار والترصد. بل وجود المسار الأول كفيل باتخاذه قرينة ضد الجاني لا لصالحه. إذن حكم الإعدام هو الاعدام على (عنصري الجُرم والتجاوز) في القضية وليس الحكم نتيجة عنصر الخيانة أو الحب من طرف واحدٍ. علما بأن هذا العنصر العاطفي الأخير هو الذي أثار موجات التعاطف مع الجاني. وإذا كان المحامون قد دخلوا تلك الأرجوحة، فهذا سيزيد المواقف (وضوحاً وتأزماً) في الوقت نفسه. فالقانون يعاقب بناء على توافر شروط الجريمة من جهة القصد والملاحقة والإثبات وتوافر القرائن، ولكنه كذلك يردع الخلط بين المسارين (العاطفة والقتل) وفقاً لاحترام قيم الإختلاف والحرية في العلاقات الإنسانية.

ولذلك فإنَّ خطابي المحاماة (مع الضحية أو مع الجاني) سيستندان في المقام الأول إلى عملية (خلط المسارين) اللذين ليسا متختلطين كذلك أمام القضاء. وسيبدو المحامون واقفين خارج السياق تماماً مثلهم مثل الناس العاديين، وستكون مرافعات الاستئناف والنقض (إنْ حدثت) نوعاً من الخطابات التداولية التي تكشف الجوانب الثقافية للجريمة أكثر مما تطرح شيئاً للقانون.

***

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم