أقلام فكرية

ماذا كان نيتشة يعني بعبارة "موت الإله"؟

Friedrich Nietzsche"موت الله" او بالالمانية Gott ist tot هي أكثر العبارات شهرة لنيتشة. لكن من المفارقة ان نيتشة ليس أول من قال هذه العبارة، حيث ان أول من ذكرها هو الكاتب الألماني هاينريش Heinrich Heine الذي كان نيتشة من المعجبين به. لكن نيتشة جعل من العبارة رسالة قوية له كفيلسوف في الاستجابة للتحولات الثقافية الخطيرة التي تصفها تلك العبارة.

أول ما ظهرت العبارة في بداية الجزء الثالث من كتاب العلم المرح (1882). وبعد وقت قصير اصبحت العبارة هي الفكرة المركزية في القول رقم (125) بعنوان المجنون، الذي يبدأ:

"هل سمعت بالرجل المجنون الذي يشعل مصباحا في أوج ساعات النهار، يهرول الى السوق ويصرخ بلا انقطاع: "انا أبحث عن الله، انا أبحث عن الله" – حينما كان العديد من الذين لايؤمنون بالله يقفون حوله في تلك اللحظة، هو أثار الكثير من الضحك. أحد المتفرجين سأل هل هو ضائع؟. هل هو ضل طريقه كالطفل؟ ام انه يختبئ؟هل هو خائف منا؟ هل هو ذاهب في رحلة؟ أم هو مهاجر؟ - وهكذا انفجروا بالصراخ والضحك.

المجنون قفز الى وسطهم مخترقا صفوفهم بعينيه. قائلا "أين الله؟"، "انا سوف اخبركم. نحن قتلناه – انتم وانا. جميعنا شركاء في قتله. ولكن كيف قمنا بهذا؟ كيف استطعنا شرب ماء البحر؟ منْ أعطانا اسفنجة لمسح كل الافق؟ ماذا كنا نعمل عندما حررنا هذه الارض من شمسها؟ الى أاين هي تتحرك الآن؟ الى أين نحن نتحرك بعيدا عن كل الشموس؟ هل نحن نتحرك دائما؟ الى الخلف او الأمام ، الى الجوانب ، في كل الاتجاهات؟ هل نحن في تجوال بلا هدف في عدم لا متناهي؟ ألا نحتاج للشعور بشيء من الراحة؟ ألم يحط بنا الليل باستمرار؟ ألم نحتاج لإشعال مصباح عند الصباح ... الله ميت، وسيبقى ميتا. ونحن قتلناه"

المجنون يستمر بالقول "لا وجود هناك ابدا لأي عمل أعظم ، وكل منْ ولد بعدنا – لأجل هذا العمل سوف ينتمي لتاريخ أعلى من كل التواريخ. "انا جئت مبكرا جدا .. هذا الحدث الهائل في الضخامة سيحصل حالا، لايزال يتجول، هو لم يصل بعد الى أسماع الناس. البرق والرعد يتطلبان وقتا، ضوء النجوم يتطلب وقتا، الاعمال، مع انها تمت لكنها لاتزال تتطلب وقتا لتُرى وتُسمع. هذا العمل لايزال بعيدا عنهم أكثر من بُعد النجوم – ومع ذلك هم قاموا به بأنفسهم".

ماذا يعني كل هذا؟

أول ملاحظة يجب الانتباه لها هي ان عبارة "موت الاله" كانت متناقضة. الله حسب التعريف خالد أبدي وقادر على كل شيء. هو ليس من النوع الذي يمكن ان يموت. اذاً ماذا تعني عبارة موت الله؟ هذه الفكرة تعمل في عدة مستويات.

كيف فقد الدين مكانته في ثقافتنا؟ المعنى الأكثر وضوحا والأكثر أهمية هو ان الدين  في الحضارة الغربية، عموما والمسيحية بالذات هو في انحدار لايمكن وقفه. انه يفقد او فقد سلفا الدور المركزي الذي شغله في الألفين سنة الأخيرة. هذا يصح في جميع المجالات، في السياسة، الفلسفة، العلوم، الادب، الفن، الموسيقى، التعليم، والحياة الاجتماعية اليومية، والحياة الروحية الداخلية للافراد.

ربما يعترض احد، ولكن بالتأكيد، هناك لاتزال ملايين الناس في جميع أنحاء العالم بما فيهم الغرب، لايزالون متدينون بعمق. هذا صحيح بدون أي شك، نيتشة لاينكر ذلك. هو يشير الى النزعة المستمرة، والتي لم يفهمها معظم الناس فهما تاما . لكن تلك النزعة لايمكن إنكارها. في الماضي، كان الدين مركزيا في الثقافة. الموسيقى العظيمة، كانت روحية في إلهامها. الأعمال الفنية العظيمة لعصر النهضة مثل العشاء الأخير ليونوردودافنشي ، بالأساس اتخذت أفكارا دينية. علماء مثل كوبرنيكوس وديكارت ونيوتن كانوا رجالا متدينين بعمق. ان فكرة الله لعبت دورا رئيسيا في تفكير فلاسفة امثال توما الاكويني وديكارت وباركلي وليبنز. كل النظام التعليمي كان يُحكم من جانب الكنيسة. الغالبية العظمى من الناس كانوا مسيحيين، يتزوجون ويُدفنون من قبل الكنيسة، ويحضرون الكنيسة بانتظام طوال حياتهم.

كل هذا لم يعد موجودا الآن. حضور الكنيسة في معظم الدول الغربية اقتصر على أشخاص معدودين. العديد من الناس يفضلون الان المراسم العلمانية عند الولادة او الزواج او الموت. وفي أوساط المثقفين والعلماء والفلاسفة والكتّاب والفنانين، ليس للعقيدة الدينية أي دور في أعمالهم.

ما سبب موت الاله؟

ان ثقافة الناس اصبحت باستمرار علمانية. الثورة العلمية التي بدأت في القرن السادس عشر قدّمت طريقة لفهم الظواهر الطبيعية التي اثبتت تفوّقها على محاولات فهم الطبيعة باللجوء الى المبادئ الدينية او الكتاب المقدس. هذه النزعة ازداد زخمها مع تنوير القرن الثامن عشر الذي رسخ فكرة ان العقل والدليل بدلا من الكتاب المقدس او التقاليد يجب ان يكونا الاساس لعقائدنا. بالتزامن مع التصنيع في القرن التاسع عشر، النمو المتصاعد للقوة التكنلوجية التي اُطلق لها العنان من جانب العلم ايضا أعطى الناس احساسا بالسيطرة الكبيرة على الطبيعة. قلة الشعور برحمة القوى الغامضة ايضا لعب دورا في الانحسار التدريجي للايمان الديني.

معاني اخرى لـ"موت الاله"

كان نيتشة واضحا في كتابه "العلم المرح" ان ادّعائه بموت الله هو ليس ادّعاءً حول العقائد الدينية. هو يرى ان الكثير من الفشل في طريقتنا في التفكير يحمل عناصر دينية نحن لم نطّلع عليها. فمثلا، من السهل جدا الحديث عن الطبيعة كما لو انها تحتوي على أهداف. او عندما نتحدث عن الكون كماكنة كبيرة، فان هذا المجاز يحمل دلالات عن تصميم الماكنة. ربما الأكثر جوهرية هو افتراضنا ان هناك اشياء كحقيقة موضوعية. مانعنيه بهذا هو شيء يشبه الطريقة التي يوصف بها العالم من وجهة نظر الله – وجهة نظر ليست فقط  بين عدة منظورات، ولكن وفق المنظور الوحيد الصحيح. نيتشة يرى كل المعرفة يجب ان تكون من منظور محدود.

مضامين موت الاله

لـ آلاف السنين، رسخت فكرة الله او الالهة تفكيرنا حول العالم. كانت هامة خصيصا كأساس للاخلاق. المبدأ الاخلاقي الذي نتبعه (لاتقتل، لاتسرق،ساعدْ المحتاجين) كانت خلفه سلطة الدين. والدين وفر حافزا لطاعة هذه القواعد طالما انها تخبرنا ان الفضيلة ستُكافأ والشر سيُعاقب. ماذا يحدث عندما ينسحب هذا البساط بعيدا؟ نيتشة يعتقد ان اول رد سيكون مشوشا ومرعبا. كل ما ورد في قسم الرجل المجنون المذكور أعلاه هو مليء بالأسئلة المخيفة. الانحدار نحو الفوضى يُرى كأحد الاحتمالات . لكن نيتشة يرى موت الاله كخطر كبير وفرصة كبيرة في نفس الوقت. انه يوفر لنا فرصة بناء "قائمة جديدة من القيم"، قائمة واحدة سوف تعبّر عن حب جديد لهذا العالم ولهذه الحياة. معارضة نيتشة الرئيسية للمسيحية هي ان تفكيرها في هذه الحياة فقط كاستعداد للحياة الاخرى انما يحط من قيمة الحياة ذاتها، وهكذا، وبعد القلق الكبير المُعبّر عنه في الجزئين الثالث والرابع من كتاب العلم المرح يصبح هذا التعبير تعبيرا مجيدا لرؤية مؤكدة للحياة.

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم