أقلام فكرية

المعرفة الفطرية.. تجربة الشاب في حوار مينو لإفلاطون

حاتم حميد محسنأحد أشهر المقاطع في جميع أعمال افلاطون الفلسفية جاء في منتصف حوار مينو لإفلاطون. في هذا الحوار مينو يسأل سقراط ان كان يستطيع إثبات حقيقة ادّعائه بأن "كل التعلّم هو عملية تذكّر" وهو الادّعاء الذي يربطه سقراط بفكرة التقمص او التناسخ. سقراط يرد بدعوة شاب عبد ليعرض عليه مشكلة هندسية بعد التأكد من انه لم يسبق له الحصول على أي تدريب رياضي.

المشكلة الهندسية

سئُل الولد كيف يضاعف مساحة المربع. جوابه كان ان ذلك يتم عبر مضاعفة طول الأضلاع. سقراط بيّن له ان هذا سيخلق مربعا مساحته اكبر أربع مرات مساحة المربع الأصلي. الولد اقترح بعد ذلك تمديد الاضلاع بمقدار النصف. سقراط أشار الى ان هذا سيحوّل مساحة المربع (2× 2 =4)  الى مربع بمساحة (3× 3 = 9). هنا بدأ الولد بالانسحاب والإعلان عن يأسه. سقراط هنا بدأ يرشد الولد خطوة خطوة عبر توجيه أسئلة حتى الوصول للجواب الصحيح، من خلال استعمال خطوط المربع الأصلي كأساس للمربع الجديد.

الروح الخالدة

طبقا لسقراط، ان قدرة الولد على الوصول للحقيقة والاعتراف بها يثبت انه حاز سلفا على هذه المعرفة، الأسئلة التي سُئل بها خلقت حافزا قويا له، جعلت من السهل عليه تذكّر تلك المعرفة. هو يجادل ايضا، انه طالما الولد لم يكتسب مثل هذه المعرفة في هذه الحياة، فهو يجب ان يكون اكتسبها في أوقات مبكرة، سقراط يقول هو يجب ان يكون عرفها دائما وهو ما يشير الى أبدية الروح وخلودها. كذلك، ان ما جرى توضيحه في الهندسة ينطبق ايضا على كل الفروع الاخرى للمعرفة. الروح، بمعنى ما، تحوز سلفا على حقيقة جميع الأشياء. بعض استدلالات سقراط هنا ربما مبالغ فيها. لماذا يجب ان نؤمن بان القدرة الفطرية على التفكير الرياضي تعني ضمنا خلود الروح؟ او اننا سلفا نحوز في داخلنا على معرفة تجريبية حول أشياء مثل نظرية التطور او تاريخ الإغريق؟ سقراط ذاته، يعترف بانه لا يستطيع التأكد من بعض استنتاجاته. مع ذلك، هو يؤمن بوضوح ان ما ظهر مع الولد العبد يثبت شيئا ما. ولكن هل حصل ذلك بالفعل؟ وما هو؟

احدى الرؤى هي ان ذلك الجزء من الحوار يثبت امتلاكنا لأفكار فطرية – نوع من المعرفة رافقتنا منذ الولادة. هذه العقيدة هي أكثر المعتقدات عرضة للنقاش في تاريخ الفلسفة. ديكارت الذي تأثر كثيرا بافلاطون دافع عنها بقوة. هو يجادل، مثلا، ان الله طبع فكرة عن نفسه على ذهن كل فرد  من خلقه. وطالما كل كائن انساني يحوز على هذه الفكرة، فان الايمان بالله يكون متوفر للجميع. وبما ان الفكرة عن الله هي فكرة عن كائن تام لانهائي، هذا يجعل امكانية المعرفة الاخرى التي تعتمد على افكار اللانهائية والكمال، وهي معرفة لايمكننا الوصول اليها ابدا عن طريق التجربة.

عقيدة الافكار الفطرية مرتبطة بإحكام بالفلاسفة العقلانيين امثال ديكارت وليبنز. نظرية الافكار الفطرية واجهت هجوما حادا من جون لوك الفيلسوف البريطاني التجريبي. الكتاب الاول من رسالة لوك حول الفهم الانساني تنطوي على  رفض حاد لكل المذهب. طبقا للوك، ان الذهن عند الولادة كصفحة بيضاء. كل شيء نعرفه هو  ما نتعلمه عن طريق التجربة. ومنذ القرن السابع عشر (عندما نشرا ديكارت ولوك أعمالهما)، كانت اليد الطولى دائما للشك التجريبي بشأن الافكار الفطرية . مع ذلك، نسخة من مذهب الافكار الفطرية جرى إحيائها من جانب اللساني نعوم تشومسكي. تشومسكي كان مندهشا بالانجازات المثيرة لكل طفل في تعلّم اللغة. خلال ثلاث سنوات، معظم الاطفال أتقنوا لغتهم الأصلية لمدى يستطيعون فيه انتاج عدد لا محدود من الجمل الأصلية. هذه القدرة تذهب بعيدا الى ما وراء ما تعلّموه ببساطة عبر الاستماع لما يقوله الآخرون، المخرجات تتجاوز المدخلات. تشومسكي يجادل ان ما يجعل هذا ممكنا  هو وجود قدرة فطرية عند الاطفال لتعلّم اللغة، قدرة تستلزم تمييزا حدسيا لما يسميه "النحو العالمي" – الهيكل العميق – الذي تشارك به كل اللغات الانسانية.

القبلية A priori

رغم ان عقيدة الافكار الفطرية التي عُرضت في مينو تجد القليل من المؤيدين لها اليوم، لكن الرؤية الأكثر عمومية في اننا نعرف بعض الأشياء قبليا – أي قبل التجربة – هي لا تزال منتشرة على نطاق واسع. الرياضيات خصيصا توضح هذا النوع من المعرفة. نحن لا نصل الى الفرضيات الهندسية او الحسابية عبر إجراء بحث تجريبي، نحن نؤسس حقائق من هذا النوع ببساطة عبر التفكير. سقراط قد يثبت فرضيته باستعمال رسم بياني لكننا نفهم حالا ان الفرضية هي ضرورية وصحيحة عالميا. انها تنطبق على كل المربعات بصرف النظر عن مدى حجمها،والمادة التي صُنعت منها،وزمان ومكان وجودها. العديد من القرّاء يعترضون بان الولد في الحقيقة لم يكتشف بنفسه كيفية مضاعفة مساحة المربع، سقراط كان يرشده للجواب من خلال الأسئلة. هذا صحيح. ربما الولد لم يصل للجواب بنفسه. لكن هذه المعارضة تجافي المسألة الأعمق في الحوار وهي ان الولد لايتعلم فقط صيغة يكررها بدون فهم حقيقي (الطريقة التي يقوم بها معظمنا عندما نقول شيء ما مثل "الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء").

عندما يوافق الولد على صحة فرضية معينة او صلاحية استدلال معين ،هو يقوم بهذا لأنه يدرك حقيقة المسألة بنفسه. ولهذا، من حيث المبدأ هو يستطيع اكتشاف الفرضية في السؤال و العديد من الفرضيات الاخرى فقط عبر التفكير الشاق، وكذلك يمكن لنا جميعا فعل ذلك.

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم