أقلام فكرية

الديني والسياسيّ ومأزق التوظيف

محمد زكارييلعبُ الواقع المعاصر دوراً، كبيراً، في تحديد معالم الشأن الدينيّ، والمجالات التي يتقاطع معها. بيّنة هي المكانة التي يتبوّؤها الدينُ داخل الاجتماع البشري؛ إذ لا يكاد أن يضاهيه في تلك المكانة قطاعٌ من قطاعات المعرفة الإنسانيّة؛ فبقدر ما يكتنزُ الدّين إيمان الجماعة الاعتقاديّة، بقدر ما يمثّلُ أملهم في الخلاص من الشرور التي تتهدّدهم من الدّاخل (= من أنفسهم) ومن الخارج (= الأهواء). يصيرُ الدينُ جزءاً من التجربة الوجدانية التي تغمرُ الإنسانَ، وتُجَسدُ مسارهُ نحو لا نهائيته (= الخلود)، ويبني بذلك الإنسانُ عوالم من الخيلات حولَ الأفكار الدينيّة الأساسية، كالأصل، والغاية، والرضى، والابتلاء، والجزاء، والعقاب. ليست التجربة الدينية، إذن، سرديّة ناجزةً، ونهائيةً، بل هي مثالٌ للروح البشريّة الكليّة في استمراريتها، وتحقّقها. من يقولُ بإمكانيّة مجاوزة الدين، بدعوى عدم صلاحيّته للواقع المعاصر، كمن يقول بإمكانية مجاوزة مرحلة الكهولة عند الإنسان. تمرّ الإنسانيّة بأطوارٍ ضروريّة، ولا يمكنُ بأيّة حال من الأحوال القفز عنها، أو محاكمتها من منظورٍ مغايرٍ لواقع نشأتها وتبلورها.

لم تكن النظرة العلمويّة (Scientisme)، في نظرتها إلى الدّين، أقل عداءً، بل هي رأس جميع الاتجاهات التي تسعى إلى الكشف عن العورات التي يقترفها الدين، والأخطاء التي يمكنُ أن تفصح عنها النّصوص المقدّسة، وهي إلى جانب ذلك تصدُرُ عن مقدّمة مفادها أن الدين مدانٌ، وأسطورة، تقف عائقاً أمام أي تقدّم يمكنُ أنْ تحرزهُ البشريّة. وجدت هذه النظرةُ ما يعضدُها، في التاريخ المعاصر، منذ أوروبا الأنوار في القرن الثامن عشر، وإلى الاتحاد السوفياتي في القرن العشرين. لم يعدْ وجود الدّين مرغوباً فيه، وأخذ وجوده يخبو في الفضاء العام، ولم يعد بالإمكان النظرُ إليه كشكل من أشكال الخلاص التي ازدهرتْ في القرون الوسطى، لقد أصبح الدين شكلاً بالياً من أشكال التعاطي مع الوجود، وتحول إلى مجرّد معطى ثقافي لا يسمن ولا يغني. تعود أسبابُ هذه الانتكاسة إلى تكوّن صورةٍ عن الدّين، في الوجدان الغربي، سلبيّة، لم تغيّب الدين عن المجال العامّ، بل عملت على إقصائه وتهميشه. وهكذا أخذ الدينُ موقعاً هامشياً من دون أنْ يكون ثمّة أيُّ داعٍ إلى اعتبارهِ ملغياً أومنتهي الصّلاحيّة.

كانت الدعوة إلى تبرير دور الدّين في المجال العام، من الأمور الضرورية، في الآونة الأخيرة، لا سيما بعد العودة القوية لأشكال التديّنْ. لم تعُد المسألة الدينيّة حكراً على الفرد مثلما بشرت بذلك الخطابات العلمانية الداعية إلى فصل الدين عن المجال العام وإلحاقه بالمجال الخاص، ومردّ ذلك إلى أنّ الخاصّ والعام في الفضاء العمومي غيرُ منفصلين؛ فالشخصُ المتدينُ ليس في الحقيقة فرداً معزولاً، أو "فرداً ذرياً"، وإنّما هو يعيش مع الآخرين، وبالآخرين، وأحياناً من أجل الآخرين، ويتعززُ لديه الشّعور بالانتماء حين يتعلّق الأمرُ بالانتماء الديني. لم يعُد الدينُ عائقاً أمام الوجود الفردي والجماعي، بل أصبح دليلاً على الاختلاف الذي يتعززُ بالحوار، من دون أن ننسى تبعات تلك العودة، وما أفرزته من أشكال التطرّف والتعصّب التي انتهت إلى أشدّ صورها الإرهابيّة.

ليس الشأن الديني حكراً على طرفٍ في المجتمع من دون الآخرين، وإنّما الدين إرث حضاريّ مشترك بين الأفراد، حتى أولئك الذين ليس لديهم ميل إلى التّدين. وعلى الرّغم من ذلك؛ فإنّ الحديث عن شكل واحد للدين أمرٌ مستحيلٌ؛ إذ الدين، بطبعه، قابلٌ للتّأويل، وليس في وسعنا أنْ نضع أشكاله كلّها على صعيدٍ واحدٍ. يذهبُ كثيرٌ من الباحثين إلى وضع مسافة فاصلة، بين "الدين" و"التّدين"، من غير أنْ يكون في ذلك ما يوجبُ وجود فاصل بين المفهومين، "الدين" عينه "التّدين"، هذا إذا كنّا نريدُ من "التدين" شكل الممارسة التي يقوم بها الفرد من خلال قراءته الخاصة للتعاليم الدينيّة العامة. و، بالتالي، فلا وجود للدّين من دون وجود مظاهر الممارسة الدّينيّة. تزدهر الرّغبة في الفصل بين الدّين والتّديّن، داخل الأوساط الدينيّة؛ حيث يتمّ عزل "المقدّس" الذي يظلّ ثابتا أزلياً، عن "الدنيويّ" الذي يخضع للتغيير باستمرار، وهكذا فإنّ الممارسة الدينيّة "التّدين" تصبحُ ظلاً، ونسخة غير مطابقة للدين، باعتماد المنطق الأفلاطوني في التّقسيم بين المثُل ونسخها، إلّا أنّ هذا الأمر لا يصدُق على الدين؛ إذ لا وجود لمثالٍ بدئي خالصٍ يحدّد، بالتّدقيق، الدين المثاليّ.

يحضُرُ الدينُ في المجال العام، ويفرضُ سلطانه كلّما كانت الجماعة المؤمنة متمسّكة بشرعيّته في تدبير وإدارة الحياة العامة والخاصّة للجماعة البشريّة. ليس الدّين، إذن، معطًى قبليًا ينسجهُ الخيالُ البشريّ، أو تنسُجه إرادةُ شخصٍ، زعيم أو قائد أو نبيّ، بل هو ما تتعاقد الجماعة المؤمنة، ضمنيًا، على قبوله، حتى وإنْ كان مخالفاً للعقل؛ فالغايَة من حضور الدين في الاجتماع البشري توحيدُ الإرادة من طريق تحفيز الخيال، ورفعه إلى تصوّر عالم تنمحي فيه الفوارق، ويصير في الناسُ جميعهم على كلمة سواء. لم تكن الأديانُ الإبراهيميّة الثلاثة بمنأى عن هذا النّزاع بين قيم العقل والرّوح، وتفسير النصوص الدينيّة على الظاهر والباطن. ترجع تلك الحدود إلى طبيعة هذه الأديان، وإلى العقل الكلّي الذي يحكم المعتقدين فيها. إنّ مظاهر التّوتر حاضرة، بقوة، في الحياة العامة والخاصّة للمجتمعات التي تسود فيها هذه الأديانُ، ومردّ ذلك إلى التداخل الحاصل بين الإلهي والبشريّ؛ فخلفَ كلّ إرادة تعلنُ باسم الله ثمّة مطامعُ بشريّة خالصة.

أستشهدُ بمقولة وردت على لسان السيد المسيح، "فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ». فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ." (مر 12: 17). وأخرى لسعد زغلول ألقاها في أحد خطاباته: «الدين لله والوطن للجميع». لكن ما الذي يعنيه هذا الفصلُ بين ما لله وما للبشر؟ هل الفصلُ بين الدّين والسياسة يرادُ به تهميشُ الدين أم تقديسهُ؟ وكيف يمكنُ للجدل بين الدين والسياسة أن يصل ذروته في الصراع على المقدّس؟ وهل مفهوم "العلمانيّة" يشكّل تهديداً على الدين أم على السياسة؟ ولم لا يزال الصراع على السلطة في العالم العربي محمولاً على حاملٍ دينيّ؟

1. تتداخلُ السلطة السياسية مع السلطة الدينيّة، ويؤدي ذلك إلى خلق مجال من التجاذب والتّماس، وخلق ثلاثة نماذج متباينة ومختلفة؛ النموذج الأولّ تكون فيه الطبقَة الحاكمة هي عينها الطبقة الدينيّة، وتكون مهابةً من لدن المجتمع؛ فبأمرها يصبحُ الرّخاء، ويزدهرُ حال النّاس، وبسخطها يعم البلاء، وينتشرُ الوباء. تمثّل هذه الطبقة وسيطاً بين عالم الألوهة وعالم البشر، وقد يصيرُ بعضهم في كثير من الأحيان إلهاً كما هو الحال في المجتمعات القديمة؛ والنموذج الثاني، تنفصل فيه السلطتان عن بعضهما البعضْ وتتنافران إلى حد تتقاطع فيه مصالحهما، ويؤدي ذلك إلى تكوين قطبين قائمين على المصالح الماديّة؛ يفشو الشعور بالانتماء الديني عند الطبقات المسحوقة والكادحة، في حين ينافحُ أرباب المال عن السلطة السياسية، ويمسي الصراعُ صراع مصالح. أما النموذج الثالث؛ فهو نموذج الإخصاع السلس؛ حيثُ تظهرُ الاستقلاليّة الشكليّة لسلطة القرار السياسي؛ في حين أنّه صادر عن مرجعيّة دينيّة أو العكس؛ فتكون بذلك الاستقلاليّة مجرّد وعاء لفرض نمودجيّة معينة في توجيه القرار.

2. يصير لطالما أرادَ الإنسانُ بناء عالم مثالي (=أو مدينة فاضلة)، لا يعاني أفرادهُ من الشرور، وكي يتحَقّق هذا الأمرُ شرع الإنسانُ في تدبير أموره؛ فالسياسةُ من الكياسة، أي الحكمةُ في اتخاذ القرار بما ينعكسُ إيجاباً على المصلحة العامة، وبتوسُلها يمكن للإنسان أن يحقق خلاصهُ الأرضي، ومن خلالها يمكنُ أنْ يأمل في واقع أفضل، و، بالتالي، تتحولُ المدينة الفاضلة إلى نموذج معياري يقيس عليه الإنسانُ كمال مدينته، مع إيمانه بأنّ تحقّقها أمرٌ مستحيلٌ. ما في الدين عن سياسة المدينة مثالٌ لما في السياسة المثالية؛ فالشرائعُ جاءت لتحقق مدينة الله على الأرض، ولتخلص الناس الشرور التي تتهدد وجودهم، وكيانهم، ولكن مع تأويل لما عساهُ أن يكون مصدراً لتلك الشرور. أضف إلى ذلك أنّ التطلّع إلى السلطة السياسيّة بتوسل الدينْ يفرضُ قبولَ ذلك الشر لا محوهُ؛ إذ ستغدو محاولة محوه شراً بديلاً، وهذا ما يفسّرُ أشكال الفشل الذريع الذي منيت به الجماعات ذاتُ المنزع الديني حين بلغت الحكم.

3. القرارُ السياسيّ مسألة جماعيّة، في حين أنّ القرار الديني مسألةٌ فرديّة. غير أنّ الدّمج بين القرارين من صالح السلطة السياسيّة، ويكون الغرض من ذلك توجيه الإرادات المتباينة والمختلفة صوب طريق واحدة، ومع ذلك يستحلُ إخضاعُ القرار الديني، في كليته، لإرادة واحدة من دون أن يكون ثمّة مجازفة يتفتّق معها الجسدُ الاجتماعيّ، وينتهي إلى معارضة التّوجّه السياسي العام. ومعلومٌ أنّ القرار السياسيّ يجدُ في الدين ما يبرّره إلّا أنّ القراءات الأصولية تظلُ تبحثُ عمّا يبررُ معارضتها للسياسة، بدعوى ألا وجود لسياسة إلا ما نصّ عليه الدين، ويتناسى أصحابُ هذا الرأي أنّ السياسة، إنْ كانت من الدين، فما هي إلّا رأي يتغيّر بتغيّر أحوال البشر، وظروفهم؛ فالسياسة لا تقوم على المطلق من الأمور، بعكس الدين الذي يسعى إلى التأكيد على الحقيقة المطلقة. ومهما تكن حجم المسافة التي تفصلُ الإنسان عن القضايا الدينيّة، لا سيما حين تتعلقُ بالمشاكل العامة، فانشغالهُ بها يضمنُ لهُ فهم طبيعة وجوده الاجتماعيّ. لئن كان اليونانيون ينعتون الشخص اللامبالي بشؤون السياسة ب "البليد"؛ فيضافُ إلى ذلك قضايا الدّين، حيثُ ما عادت بوسع الإنسان، اليوم، إغفالُ هذا الشأن بعدما خبر حقيقة فعله في مصير المجتمع.

4. إقحامُ الدين في مضمار السياسة، وفي الخطابات السياسية، على وجه التحديد، فيه ما فيه من أضرار تلحق الدين والسياسة معاً. يوظف الدين سياسياً بوصفه إرثاً اجتماعيا يوحدُ الأفرادَ حول قضايا مصيريّة تعيشها الأمة أو المجتمع، و، في أغلب الاحول، يتمُ تحويل الدين إلى أداة للمزايدات السياسيّة، وجلب التعاطف، فما معنى أن يكون ثمّة حزبٌ سياسي ذو مرجعيّة دينيّة؟ معنى ذلك، ببساطة، أنّه يوظفُ الدين للظفر بالسلطة، خاصّة حينما يتعلقُ الأمر بالديمقراطيات التمثيلية التي تقوم على ديكتاتورية الأغلبيّة. شهد العالم العربي على مثل هذه النماذج التي خرجت بقوة إلى الواجهة، في مشاهد سياسية كثيرة، بينها قواسمُ مشتركةٌ وفوارق، أيضاً، ولكنها تتفقُ جميعاً في استخدام الدين كأداة لمخاطبة الحشود، والجماهير التي تميل إلى إعمال العاطفة أكثر من ميلها إلى إعمال العقل. أدّت الانتخاباتُ دورها التاريخي في إقحام العالم العربي في سلسلة من التحولات التي لا يزال مفعولها سارياً، بعد عقد من الزمن رسخت الأحزابُ ذاتُ المرجعيّة الدينيّة، أمراً في غاية الأهميّة مؤداه أنّ الدينَ يَفسُد حين يوظف لمصالح سياسية زائلة، ويصبحُ أداةً لتمزيق اللحمة الاجتماعية، ما حدث في العراق أو في لبنانْ خيرُ شاهد على ذلك.

5. لم يغب الدينُ قط عن المشهد السياسي في تاريخ الإسلام وظلّ حضوره قوياً، بل إنّ أسمى الوظائف السياسيّة كانت تحتكم في حلها وعقدها للشرع، وأقصى ما يمكنُ لسلطة ما أن تخشاهُ هو أن تُواجه بسلطان الدين، أو أنْ يعلنَ عنْ مخالفتها للشرع، تحقق الوعي التاريخيّ بأهميّة الدين في الاجتماع العربي الإسلاميّ، مثلما اهتدتْ النُّخبُ السياسيّة إلى مهادنة القائمين على أمور الدّين، وامتزجت المصالحُ حتى صار بقاء أحدهما رهيناً ببقاء الآخر. يتمُ، في العادة، التأريخُ للمنعطفات الدينيّة، في تاريخ الإسلام، بنظيرتها السياسيّة، ونادراً ما يُنظرُ إلى الدين على أنّه الفاعل المباشرُ في أمور السياسية، وذلك تسليماً بتبعيته، ولكن الأمرَ لا يسيرُ على هذا النّحو، وإنّما طبيعة العلاقة بينهما علاقة تأثير وتأثر. يرعى الدينُ العلاقة بين الإنسان واللّه، ويؤكد على الطبيعة المتقلبة للإنسان، وعلى بذور الشّر المغروسة فيه. لكنّ النظر إلى طبيعة العلاقة بين الفاعل الديني والسياسي ينأى بنفسه، تماماً، عن المعيار الأخلاقي، ويتخذ بدلا منه الأثر الاجتماعي والاقتصادي.

6. يتأثر المجتمع بحركة الأفكار الدينيّة التي يجسدُها أشخاصٌ، هم بالعادة ذوو نظرة إصلاحيّة تتخذ من الدين غطاءً لها. الحركات الصوفية والدعوية والوهابية والسلفيّة الجهاديّة، كلها خطاباتٌ تعملُ على إقحام الدين في مشروع يبدو في ظاهره إصلاحاً للواقع، وهم، على الأغلب، يؤمنون بفساد الحاضر ويأملون باسترداد ماض متخيّل لا وجود له. تطورت هذه النظرة المتخيّلة في الإسلام السياسي، ووجدت لنفسها مخرجاً، لقد أصبحت المخرج الذي لطالما تمّ انتظاره وعلّق عليه المجتمع آماله، ولمْ يعد ثمّة بينهم وبين ما وعدوا به إلا الانتخابات التي أظهرت للعلن ما يتوارى في الوجدان العام، ويسكن اللاوعي الجمعي؛ إذ لا بديل، اليوم، من أنْ يصل الإسلامُ السياسيّ إلى الحكم. صارَ بوسعهم ممارسةُ نشاطهم السياسي بشكل علني، وتبرير إيديولوجيتهم أمام العالم. اصطدم الإسلام السياسي بالواقع، وانهارت بذلك قلاعهم المتخيّلة، وأيقنوا بعد ذلك أنّ الأمل شيء والإرادة شيء آخرُ مباينةٌ له.

7. يقعُ التنافس على السلطة حتى في ظلّ الأنظمة التي يظنّ بأنها مغلقة، ولم تعد قابلةً للتطور إلا من جهة ما هي كيانات تعيد خلق نفسها باستمرار، ضمن تاريخ دوري، يمسي معه الدين جزءاً من التراث الرسمي الذي لا يمكن تجاوزه. والحق أن ما يتم النظر إليه في هذه الحال هو تأويل طرأ على النصوص، أو تجسيد متخيّل وميتولوجي للشخصيات المؤسسة، وأفعالها. وهكذا، يصير التنافس على سلطة المتخيل الديني بدلا من التفكير في حقيقة الواقع الاجتماعي. تصير الكلمة الحاسمة في يد السلطة التي تقرر باسم الدين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وتستثمر السلطة الرمزية للألوهة من أجل إخضاع البشر لمنطق السياسة. وما لا يمكن فهمه هو كيف تصير السياسة – بما هي لعبة مصالح- متحكما وفاعلا في الحقل الديني؟

8.لا يمكن أن تمارس السياسة داخل مجتمع متشبع بقيم دينية من دون أن يعكس رجل السياسة في شخصه مظاهر الورع، وأن تكون لديه القدرة على تقديم نفسه كجزء من مخطط الخلاص الذي أعدّه الله للبشرية جمعاء، عليه أن يعمل على تشكيل المتخيل بالقدر نفسه الذي يعمل على الخطط الواقعية. إنه الشكل الأبرز لمعنى الاستثمار في الكاريزما الحضارية والثقافية، حاول كلّ القادة استلهام شخصيات تاريخية أحيطت بهالة من التقديس ونسجت حولها شتّى أنواع الأساطير، وهؤلاء القادة أنفسهم صاروا جزءاً من حركة هذا المخيال الاجتماعي الذي يحدّد المعنى ونقائضه. تعيد المجتمعات والثقافات بناء منظورها المتخيّل في أزمنة متوالية، ومن دون انقطاع، ويكون التشبت بقيم الأمس والماضي أصيلا في الثقافات الحاملة للتاريخ.

تلك، إذن، خلاصات ثمان لما يمكن التفكيرُ فيه، خاصَّةً حين يتعلّق الأمر بالتّمفصلات القائمة بين الدينيّ والسياسيّ، وهي بمثابة محاور لإعادة النّظر في حدود المجالين.

***

زكّاري محمّد، كاتب من المغرب

 

 

في المثقف اليوم