أقلام فكرية

نقد الفكر الديني في الخطابات العربية المعاصرة

محمد زكاريكانت النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر محصّلةً للإصلاح الدّيني، الذي مهّد له مارتن لوثر، وقرينةً بالاكتشافات الجغرافية، وقد اتّصلت، أيضاً، بالطفرة التي حدثت في ميادين العلم في اتصال بالثورة الكوبرنيكية وما أسهمت به في إعادة النظر إلى موضوعات الكون والطبيعة، عموماً. وقد كانت النهضة، أيضاً، محصّلةً لما قدّمه الفكر الفلسفي السياسيّ من مكيافيلي إلى ديكارت ثم هوبز. تتموضع النهضة في تاريخ الفكر الغربي بوصفها قطيعةً مع العصر الوسيط، وتتمظهر في قالب الإبداع والابتكار. ينظرُ إلى الفكر النهضوي على أنّه الشكل الأكثر اتصالاً بالحاضر والمستقبل منه بالماضي، إذ يحرّر المرء من كلّ ما يقيّد جسده، ويطلق العنان للأهواء كي تقول كلمتها في تاريخ الفكر، تلك الأهواء التي كانت محرّمةً لردح طويل من الزمن. لقد سمحت النهضة الأوروبية بإحداث تطور جذري في بنية المجتمع الغربي وواقعه، وانعكس هذا التتغيير بشكل جدلي على البنى الفكرية، حتّى صار عصر النهضة ورشاً فكرياً، انبثقت منه سائر الأفكار اللاحقة.

هل يمكنُ أن نقارن – بأيّ حال من الأحوال – النهضة الأوروبية بنظيرتها العربية؟ تتفاوت مستويات المقارنة بين النهضة الأوروبية والنهضة العربية؛ وذلك يرجع إلى عامل أساس؛ فالنهضة الأوروبية بنت معالم تطوّرها على وعيّ تحصّل في ذهن الإنسان الغربي تجاه التاريخ، وتُجاه قضايا الإنسان؛ فمن جهة لقد توجّه صوب الفكر اليوناني بغاية إحيائه وإعادة بعثه، متجاوزاً مرحلة القرون الوسطى، وهو من جهة أخرى عمل على تطوير كافة الوسائل العملية من أجل جعل حياته أكثر يُسْراً، غيرَ أنّ النهضة العربية لم تمتح من نفس الشروط التي نبعت منها النهضة الغربية. صحيحٌ أنّ تسميات النهضة العربية تختلف في سياقات شتّى بين أن تكون نهضة أو يقظة أو حركة تنوير، غير أنه منذ أواخر القرن الثامن عشر وإلى غاية مطالع القرن العشرين، شهدت الساحة الفكرية والثقافية العربية حركة فكرية مشهودة، أثارت قضايا هامة وبارزة غير مطروقة من ذي قبل، كالتخلف والأميّة والفقر وغيرها من القضايا التي استفحلت في الوطن العربي، وقد أثيرت هذه القضايا في علاقة بالآخر الغربي الذي ظهر على المسلمين في حين غفلة منهم عن التاريخ (حملة نابوليون بونابارت)، فتلقوا صدمتهم على يده متفقين على أن الخروج من السبات نحو اليقظة صار في حكم الضرورة. وبالتالي فإن العرب والمسلمين وجدوا أنفسهم مضطرين إلى طلب التقدم على منوال ما حصّله الغرب.

لقد تمخض عن الفكر النهضوي أسئلة كثيرة، طافت في أغلبها على قضايا العلاقة بين الواقع والدين، فكان الإسلام منطلقاً للوقوف عند قضايا الإصلاح، حتّى اعتبر أن الإصلاح شأنٌ دينيٌّ بامتياز وأنه لا سبيل إلى تغيير واقع المسلمين من غير ردهم إلى جوهر دينهم. تلك القضيّة بالذات قد وجّهت معظم مفكري عصر النهضة العربية والإسلامية فاستعانوا بالتاريخ، من أجل إضفاء المشروعية على مسعاهم ذاك، حتىّ خُيّل إلى بعضهم أنه يقوم بنفس ما قام به أصحاب النهضة الأوروبية متناسياً الشروط الموضوعية، ونازعاً طابع التاريخية عن الفكرة والفعل معاً.

آذنت النهضة العربية بميلاد تيار سلفي، يجدُ ضالته في كتابات القدامى الداعية إلى الاقتداء بالسلف، مثل ما يظهر بجلاء في كتابات ابن تيمية وكتابات أحمد بن حنبل. غير أن مواقف التيار السلفي في القرن الثامن عشر مع رواده محمد بن عبد الوهاب والشوكاني والمهدية والسنوسية، قد أنشأوا سلفيّتهم على ناشئة أخرى؛ إذ عملوا على الاستعانة بكلّ أنماط التديّن التي قد تدْعمُ خطابهم وتجعَلُه راسخاً عند غيرهم. لقد كانوا على بيّنة من أنّ التخلف الذي لحق المسلمين إنّما كان جرّاء تركهم ونأيهم عن حكمة الدين، وتخليهم عن العقيدة الحقة وعن الاجتهاد. يمكن اعتبار هذه النزعة المحمولة على التّوجّه السلفي صورةً دفاعيةً ضد ما جلبه الغرب، ثمّة عاملان أساسيان إذن ساهما في تشكّل الخطاب السلفي: العامل الذاتي الداخلي المتعلق بمحاولة التفكير في أحوال (الانحطاط الإسلامي) والعامل الخارجي المتعلق بالتدخل الأجنبي، والهيمنة الاستعمارية بكلّ ما تحمله من عناصر الهجوم والغزو وتمزيق أوصال المجتمع وبنيانه. وقد شكّل الخطاب السلفي محاولة في التعبير عن موقف إصلاحي من مختلف النتائج التي ترتبت عن هذين العاملين في بنيات التاريخ والوعي الإسلامي المعاصر.

لقد احتل الفكر الديني مساحات، هامّة، من مجالات التفكير في واقع المسلمين وحضارتهم، بل وأصبحت كلّ رغبة في الإصلاح تجدُ ضالتها في ما تحتازه من إرث عقدي، فكان من نتيجة ذلك أن مفهوم الإصلاح نفسه لم يعد غاية الفاعلية الخطابية بل صارنا إلى الحديث بدله عن الإحيائيّة التي اتخذت من المتخيّل الديني مجالاً خصباً لبلورة أفكارها، فخرجوا من دائرة التفكير في التقدّم والانحطاط، إلى التّفكير في التقابل الحاصل بين عالم إسلاميّ وعالم غربيّ؛ فكانت هذه النّظرة أكثر تقوقعاً وانهماماً بالهوية وانكفاءً على ما يُشبعُ الرّغبة في الاعتداد بالنفس، فما كان لهم إلا أن يعلنوا بأن إحياء الدين الإسلامي ضرورة، مطلقة، في مواجهة الغرب الكافر. شكّلت هذه اللحظة مخيال جماعات بعينها تبدأ مع الإخوان المسلمين وتجد أرقى صورها مع جماعة الهجرة والتكفير ثم تنظيم القاعدة فتنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش). لقد تخطّى الخطاب الديني صورة الخلاص الفردي نحو الخلاص الجماعي، وتخطّى، أيضاً، الدعوة إلى الجهاد؛ وصارت نتائج ذلك غير محسوبة في أفق التفكير في مسألة قيّام الأمّة وتحقيقها لوعيها.

تحوّل الخطاب من مجرّد النصّ إلى واقع الفعل، وتَجلّت ضرورة النقد لمّا انحبس الفكر وانغلق. فما المقصود بالفكر الدينيّ؟ وما هي المستويات التي قد يطالها النقد؟

لا يسعنا أن نتحدّث عن الفكر الديني في كافّة جوانبه، بل الحال هنا أن نلقي النظر على ما كان له أثر على واقع المسلمين، في الفترة المعاصرة، وأقصد بالذكر تمفصلات العلاقة بين الدين والسياسة؛ لأن روابط هذه العلاقة قد انتسجت بقوة في وعي العرب والمسلمين لتوالي الأزمات التي شهدها العالم العربي والإسلامي على مراحل متقاربة من الزمن. لقد أثارت صورة المشاكسة بين الديني والسياسي ما لا عدّ له ولا حصر من الإمكانيات التي تزخر بها القطاعات المعرفية الإسلاميّة قاطبةً، فقد أثّرت التصوّرات السياسيّة لأصحاب السّلطة في التصوّرات الاعتقاديّة والعكس صحيح، لقد حاول رجال السياسة أن يجدوا في الدّين ما يبرّرون به أمور الدّنيا ولو كان ذلك على حساب الدّين، هذه العلاقة التي بدأت منذ الأمويين إلى اليوم، بل يمكن رصد مظاهرها قبل ذلك، تتأصل في رؤيتنا إلى ماهية الفعل السياسي وجوهره. ليس غريباً اليوم على من يطالعُ حال العرب والمسلمين أن يلحظ، أيضاً،أنه من غير الممكن أن يكون هناك نقدٌ جدريّ دون القيام بمطالعة النّصوص التأسيسية للفكر الديني المعاصر، والتي تزخر بقراءات انتقائيّة للتراث الديني والفكري، أو لنقل قراءات مغرضة، تقطع مع دابر العقل موغلة في النقل.

وبما أن نقد الفكر الديني يقتضي نقد نصوصه المؤسسة فإنه، قبل أن يشرع المرء في قراءة نصٍّ من النّصوص؛ فإنّه يكون موجّهاً بأسئلةٍ تعينهُ على تلك القراءة. تتبلورُ الرؤية النقدية في قراءة النّصوص من خلال القدرة على إدراج النصّ ضمن سياقيه، وبالتالي قراءته قراءةً أفقيةً تتداخل فيها العناصِرُ الذاتيةُ والموضوعية، أمّا المستوى الثاني؛ فإنّهُ يقتضي فصل النّص عن مدلوله الزمني، والتعامل معهُ في ذاته ولذاته. يلتقي ثالوث القراءة، والنقد، والمساءلة في وقوف الذات أمام النّص، ومحاولة النظر في كل أشكال الغياب في ظلّ الحضور المطلق أمام النّص. يظهرُ النّص بوصفه تجربةً مستقلّةً وفريدةً؛ فهو انفصل في لحظة الكتابة عن مؤلّفه، وصار في ملكية قارئه، ويمثُل النصّ أمام الوعي في إطار الفرادة التي تمكّنُه من النطق بما فيه من مكنونات. ما من نصّ إلا وهو ظاهرةٌ يحاولُ الوعي إدراكها، وبالتالي فإن كلّ ذات إنما تحاور المقروء في ضوء إشراطات الوعي، والقصدية التي تؤسس إدراكها.

يستقلُّ اللفظ بمعناهُ، ويحتمي خلف الكتابة (الرّسم)، وبالقدر الذي به تتجهُ نحوه الذاتُ، في حركةٍ قصديّةٍ، فإنّهُ يتّجهُ نحوها، هكذا فإنّ المسافة تصيرُ استعارةً في إطارِ قراءة أيِّ نصٍّ من النّصوص، وتلقي الذاتُ قبضتها على النصّ، راغبةً في تشكيله بما يتلاءم مع القصد الذي صدرت عنه في التعاطي مع النّص، غير أن الإمكانيات اللانهائية التي يمكنُ له أن يظهر بها تجعلُ أمر القبض عليه مستحيلاً، وتصيرُ الذات كما لو أنّها في غرفة مرايا، كلّما نظرت إلى زاويّةٍ من زوايا النصّ فإنّها تشكّلُ نفسها من جديد. ليس النصّ في هذه النّقطة مجرّد موضوعٍ نسلطُ عليه معارفنا رغبةً منّا في استنطاقه، واستخراج مكنوناته، ورغبةً في محايثة مضامينه، بل إنّ هذه النظرة الموضوعية (الحيادية) تَجعلهُ مفارقاً لنا. والحال هاته ينبغي علينا أن نستبق النصّ، وأن نقرأه وفق منظورين اثنين؛ الأوّل أفقي، والثاني عمودي.

لا فرق في قراءة النّصوص بين القراءة المقدّسة المؤمنة الطقوسية، وغيرها من القراءات العادية، ما دامت القِرَاءَةُ العَالمة تقتضي العودة إلى حالة الصّفر في التعامل مع أيّ وثيقة مكتوبة. فالتعامل مع أيّ نصٍ يقتضي من قارئه أن يفترض في نفسه أنه "مريخيٌّ" حلّ لتوّه على الأرض، وأراد أن يعرف ماهية الكتب، فإنه بكل تأكيد سينطلق في فهمه لما في تلك الكتب ولغتها من حالة الصفر، وهي حالة الدّهشة المطلقة، في محاولتنا لفك لغز المقروء، ومحاولة فهمه، لكن هذه الحالة الصفرية التي تفترض وجوداً خالياً من كلّ تجربة غير ممكنة، ومع ذلك فإنّ التزام منطقها أمرٌ ضروري في إحلال النصّ مكانته ضمن مساره التاريخي.

***

يتطلّبُ النقدّ، إذن، مُسَاءَلَةَ العقل المنتج للمعرفة، وفي ذلك، أيضاَ، تنبغي مساءلة آليات عمله وإنتاجاته، كيّما نتبيّن ما يقعُ ضمن ممكنات تفكيره وما يستحيل عليه التفكير فيه. لقد تحققت بالنسبة إلى العقل العربي المعاصر شروط جمّة من أجل تحقيق مسافة بين الموروث الثقافي وبين الوجدان الاجتماعي، غير أن تلك المسافة قد أنتجت نمطين من التفكير؛ النمط الأول، يرى أن العقل العربي لا سبيل إلى تقدّمه إلا من خلال إحياء الإسلام، ديناً ودنيا؛ فتصير به سياسة البلاد والعباد؛ ونمط ثان، يرى أن الإسلام إنما هو ثمرة لحظة تاريخية سياسية وثقافية، وأن الواقع لا يرى إلا في ميزان التّقدّم. لقد شكل هذان النمطان رؤية تيارين متعارضين حول أمور الدّين والسياسة. تتسعُ الرؤية أكثر كلّما أدركنا أنّ مشكلات الراهن لا تنتمي إليه بالضّرورة، بل هي جزء من صيرورة متّصلة أو منفصلة من التراكمات التاريخية والاجتماعية التي تضافرت مع بعضها البعض، والحال أن الفكر الدّيني لا يزال يلقي بظلاله على العقل، أو لنقل بالجدلية الكلاسيكية لا يزال العقل أسيراً لسلطة النقل.

***

محمد زكاري

 

في المثقف اليوم