أقلام فكرية

فكرة العود الأبدي من الرواقيين الى نيتشة

حاتم حميد محسنيشير مفهوم العود الأبدي Eternal Return الى ان الكون وكل الوجود وما فيه من طاقة هو في إعادة حدوث، وسوف يستمر بالتكرار بشكل مشابه لذاته لعدد لا متناهي من المرات عبر زمان او مكان لامتناهيين. تتصل فكرة العود الابدي بفلسفة الحتمية في ان الناس محكوم عليهم الاستمرار في تكرار نفس الأحداث مرة بعد اخرى الى ما لانهاية. في احدى تعليمات فيثاغوروس (570-495 قبل الميلاد) انه "بعد فترات محددة، نفس الأحداث تحدث مرة اخرى" وان "لا شيء هناك جديد بالكامل".

الرواقيون

تحت تأثير افلاطون الذي هو ذاته تأثر بفيثاغوروس، إعتقد الرواقيون ان الكون يباشر دورات منتظمة، يتحطم فيها بشكل دوري من خلال حريق كبير ومن ثم يولد من جديد، وهكذا الى ما لانهاية.

وبما ان الله، كونه كامل عقليا، هو ملزم ليقوم بنفس الخيارات، كل دورة كونية تعمل بشكل مشابه او حتى مطابق لسابقتها، بحيث ان العالم كما نعرفه، ونحن معه، موجود في الدورة السابقة، وسوف يتكرر في الدورة القادمة.

الرواقي الروماني سينيكا (65 ميلادي) يخبر في رسائله لوسيليوس: "الاشياء التي تتلاشى من أبصارنا هي فقط تُختزن في العالم الطبيعي: انها تكف عن الوجود لكنها لم تُفنى .. النهار سوف يأتي مرة اخرى ليعيدنا الى الضوء. انه نهار يرفضه الكثيرون، الاّ اذا نسينا كل شيء قبل العودة".

الرواقيون الذين تأثروا بفيثاغوروس، دمجوا نظرية العود الابدي في فلسفتهم الطبيعية. طبقا لفيزياء الرواقيين، الكون يتحطم دوريا ومن ثم يباشر إعادة ميلاد جديد. هذه الدورات تستمر الى الابد، ونفس الأحداث تتكرر بالضبط في كل دورة. الرواقيون ربما وجدوا دعما لهذه العقيدة في مفهوم "السنة العظمى"، وهو أقدم تعبير وُجد في حوار طيماوس لإفلاطون. افلاطون افترض ان دورة واحدة تامة من الزمن ستُنجز عندما تستكمل الشمس والقمر والكواكب دوراتهم المختلفة ويعودون الى مواقعهم الأصلية. المصادر هنا تختلف حول ما اذا كان الرواقيون يعتقدون ان محتويات كل كون جديد ستكون واحدة كما كانت في الكون السابق، ام انها فقط مشابهة جدا لدرجة لايمكن تمييزها. وجهة النظر الاولى تُنسب الى الاسكندر افروديساس. ومن جهة اخرى، نجد عالم اللاهوت اوريجانوس يؤكد على ادّعاء الرواقيين ان محتوى كل دورة سوف لن يكون متشابها تماما وانما فقط لا يمكن تمييزه (عند المقارنة مع المشابه لها): " لكي نتجنب افتراض ان سقراط سيعيش مرة اخرى، هم يقولون انه سيكون شخص ما لا يمكن تمييزه عن سقراط، الذي سوف يتزوج امرأة لايمكن تمييزها عن زانثيبي (زوجة سقراط)، وسيكون متّهما من قبل رجال لا يمكن تمييزهم عن السياسي انتيوس والشاعر ملتيوس (اللذان حكما على سقراط).

 الاستجابة المسيحية

هذا المفهوم في العودة الابدية تردد ايضا في الكتاب المقدس:

الشيء الذي كان، هو ذلك الذي يجب ان يكون، وان ذلك الذي تم هو ذلك الذي يجب ان يتم: ولا يوجد هناك شيء جديد تحت الشمس. هل هناك شيء يمكن ان يقال عنه هذا جديد؟ انه كان سلفا في الزمن القديم، الذي كان قبلنا. لا توجد هناك ذكريات للاشياء السابقة، ولا هناك أي ذكريات للاشياء التي يجب ان تأتي لاحقا (سفر الجامعة 1: 9-11).

في مدينة الله (426 ميلادي)، القس اوغسطين يسعى لإنكار ان هذه الآيات وغيرها يشير الى العود الأبدي. اذا كان "الشرير يمشي في دورة"، يقول اوغسطين، "فان هذا ليس بسبب ان حياته ستتكرر بوسائل من تلك الدورات، التي يتصورها هؤلاء الفلاسفة، وانما بسبب ان المسار الذي تسير به الان عقيدته الزائفة هو ملتوي".

المؤلفون المسيحيون هاجموا العودة الابدية... القس اوغسطين اعتبر الخلاص غير ممكن وفقا لمشروع الرواقيين، مجادلا انه حتى لو تحققت السعادة الحقيقية، فان الروح لايمكن ان تكون مسرورة حقا اذا حُكم عليها بالعودة مرة اخرى الى الشقاء.

فردريك نيتشة 1844-1900

مفهوم العود الأبدي كان واحدا من المفاهيم المركزية في فلسفة نيتشة (1844-1900). ومع ان الفكرة ذاتها ليست أصلية لدى نيتشة، لكن استجابته المتفردة لها أعطى للنظرية حياة جديدة. اول عرض نُشر لرؤية نيتشة للنظرية ظهر في (العلم المرح) قسم 341، كان يُقترح للقراء كتجربة فكرية (تتم فقط في التصور)."ماذا لو في يوم ما او ليلة ما يأتي شيطان لك سرا في وحدتك، ويقول لك، "هذه الحياة كما تعيشها الان وعشتها من قبل، عليك ان تعيشها مرة اخرى ومرات لا متناهية، وسوف لن يكون هناك شيء جديد وانما كل ألم وكل مرح وكل فكرة وحسرة وكل شيء صغير ام عظيم في حياتك سوف يعود لك دائما في نفس التعاقب .. هل سترمي نفسك في الارض وتلعن الشيطان الذي تحدث لك بهذا ؟

الوجودي مارتن هايدجر يشير الى ان نيتشه يعرض هذا المفهوم كسؤال افتراضي وليس كحقيقة. طبقا لهايدجر، النقطة الهامة كانت هي المسؤولية والعبء المفروض بسؤال العود الأبدي، بصرف النظر عما اذا كان صحيحا ام لا.

من جهة اخرى، كان نيتشة قد نشر بعد وفاته دفتر ملاحظات يحتوي على محاولة لبرهان منطقي على العود الأبدي فيه دليل على ايمان نيتشة في النظرية كإمكانية واقعية. البرهان ارتكز على مقدمة بان الكون غير متناهي في الزمن لكنه يحتوي على كمية متناهية من الطاقة. في هذه الحالة، كل المادة في الكون يجب ان تمر من خلال عدد محدود من المجموعات او التوليفات، وكل سلسلة من التوليفات يجب بالنهاية ان تتكرر في نفس الترتيب، وبهذا تخلق "حركة دائرية لسلاسل متشابهة بالمطلق". غير ان باحثين اقترحوا ان السبب الذي أبقى هذه المادة غير منشورة هو لأن نيتشة ذاته كان غير مقتنع بإمكانية صمود حجته امام التمحيص.

في مقالته، اسطورة سيزيف (1942)، يقارن البير كامو ظروف الانسان بمأزق سيزيف، الملك الاسطوري الذي عوقب لتحدّيه الآلهة بجعله يكرر الى الابد نفس المهام الخالية من المعنى في دحرجة صخرة فوق جبل فقط ليراها تتدحرج نحو الاسفل مرة ثانية. يستنتج كامو، "ان الكفاح الى القمة هو ذاته يكفي لملأ قلب الانسان. يجب على المرء ان يتصور سيزيف سعيدا". حتى في حالة اليأس المطلق، سيزيف لايزال سعيدا. في الحقيقة، هو سعيد بالضبط لأنه في حالة من اليأس المطلق، لأنه في الاعتراف وقبول اليأس في ظروفه، هو في نفس الوقت يحوّلها. او، حسب الكلمات الرائعة للشاعر الروماني فيرجل virgil، "الأمل الوحيد للمحكوم عليه بالقدر هو ان لا أمل أبدا".

***

حاتم حميد محسن

....................

المصادر

1- الكسندر افروديسياس، تعليق على تحليلات ارسطو السابقة، 180، 33-6

2- سينيكا، رسائل الى لوسليوس، الرسالة 36

3- اوغسطين، مدينة الله، 12، 13.

 

في المثقف اليوم