أقلام فكرية

الأم.. مريم العذراء (5)

سامي عبد العالجاءت مريمُ العذراء في المسيحية رمزاً لجوانب الحياة الروحية ولدلالة النقاء والطُّهر والتبتل. وكذلك جاءت لتضع الأنثى في مقدمة الإنسانية، في ظل ماضٍ لم يعترف بذلك. وهو ما يعادل (على الأقل) خط الثقافة الذكورية التي طغت على ميراث المجتمعات حتى لحظتها. ولكن النتائج الفلسفية النسوية لهذا (الوجه المريمي) كانت ذات مكانة كبيرةٍ في تاريخ الأديان. حيث أتاحت الفرصة للتفكير في طبيعة المرأة وآفاق وجودها الحُر وكيانها اللائق. من زاويةٍ كهذه، افسحت المسيحية (تفسيراً أنثوياً) مغايراً للحياة والروح والطبيعة والحقيقة. هل حين لا تلد الأنثى طبيعياً تكون فاعلة على مستوى القداسة؟ هل يمكن أنْ تكون العذرية نشاطاً دينياً ذا طابع فلسفي؟ وهل حين يكون الذكور فاعلين بقدراتهم (الأبوية) يسيطرون، بينما تقف المرأة دون ذكر عكس ذلك الاتجاه؟

مريم العذراء كانت (سؤالاً وجودياً) ضخماً حول غياب الأب المهيمن. العذراء علامة هذا الأثر الذي سيترك بصمته الأنثوية على الثقافات الأبوية إجمالاً. لنتخيل الضربة القاصمة الذي حدث لسيادة الذكورة والأبوية التي تحكمت في كيان المرأة. فلم تكن السيدة مريم (حادثةً استثنتائيةً) عبر تاريخ المجتمعات والأديان فقط، لكنها أيضاً وضعت نفسها مع كل تاريخ الفكرة الأبوية. كانت بمثابة الثقل الجديد الذي وازن ما جرى من ذكورية طاغيةٍ، حتى أنه بإمكان هذا الثقل الأنثوي أنْ يطرح قوتها أرضاً. لقد ظل اسم السيدة مريم أيقونة في هذا الشأن الخطير للبشرية.

يقال دوماً صفة العذراء على السيدة مريم بما هي كذلك دون سواها، وحتى عندما تطلق تلك الصفة، سرعان ما يدرك المتلقي المعنى المقصود بها. وكأنَّ هناك مستوى دلالياً كان هو الأمر المعنيّ ثقافياً بذاته في كل الأحوال والظروف. لأن العذرية عبارة عن وسم، نقش، وجود يتصف بالطهر والتبتل والخُلوص والشفافية والبراءة والقداسة والابتعاد عن الدّنس وانعدام الإثم والخطيئة.

كل هذه السمات (العذراء) تدلُّ ضمنياً على عدم وجود (أب ذكرٍ). أمَّا عكس معنى العذرية، فيدل على وجوده المُدنّس، أي وجود العلاقات اللاأخلاقية وربما يشير إلى الانغماس في الشهوات والخطايا. فطالما كان هناك ذكرٌ، فالمفترض وجود علاقةٍ ما بكل أشكالها مع أنثى. فالاثنان في التاريخ يفترض أحدهما لقاء الآخر، ولا تقوم الحياة إلاَّ بوجودهما. في المقابل لأول وهلةٍ، لم تعبر العذرية بأي وجه من الوجوه عن ذلك اللقاء من قريب أو بعيد.

العذرية virginity كلمة مقصودةٌ في المتن المسيحي لسردية السيدة مريم، فهي تعني مباشرةً انعدام الزواج وعدم المساس بين الذكر والأنثى، كما يقول القرآن عن هكذا فكرة حين أدركت السيدة مريم حبلها: " قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا" (مريم 20). ولكن بالوقت نفسه كانت صاحبة العذرية هي أم المسيح أمام الناس. كيف تكون العذراءُ أمَّاً أو العكس أنْ تكون الأم عذراء؟ وبخاصة أن هذا أمر مستحيل (عقلاً وطبيعةً وثقافةً) بالنسبة إلى حياة البشر. وتعنى الأم مع العذرية أن الوضع الطبيعي مستمر مثل(المخاض والولادة)  دون علة تترتب عليها مظاهر طبيعية أو ثقافية. إن العذرية تحمل دلالتين متناقضتين بالضرورة، فهي عملية توقف الطبيعة داخلنا واستمرار الإنجاب في الآن عينه. فمن جهةٍ مثلت العذرية طهراً خالصاً لا غبار عليه، ومن جهةٍ أخرى أدت إلى ميلاد المسيح الذي لم يكُّن ليوجد. وسواء أكان المسيح كلمة الرب أم روحاً إلهياً أم الاثنين معاً باختلاف التفسيرات، وهذا أمر حدث بالفعل، فالمهم هو النتيجة داخل سياق غبر خاضع إلاّ للأبوة والأمومة جنباً إلى جنب.

في إطارٍ أبعد تاريخياً، إذا كان آدم قد وقع في الخطيئة بدءاً من معصيته لأمر الإله، ثم أكله من الشجرة المحرمة التي نهاه عن الإقتراب منها، حتى علاقته بحواء كعلاقة الأب بالأم، فمريم العذراء قد مثلت (المرحلة البدئية) الأخرى في عمر الإنسانية. لقد أعادت إخراج المشهد الوجودي لقصة الخلق بشكل مقلوب كانت الأنثى مركزها، عكس ثنائية آدم وحواء وعكس الخطيئة تماماً. وأصبح لدينا نمطان من الوجود البشري في التاريخ على خلفية التفسير الذي تطرحه المسيحية.

أولا: نمط آدم - حواء: وهو نمط اللاعذرية الذي خضع لاختبار إلهي- وجودي في مفتتح الخليقة، وفشل آدم في اجتيازه كما أخبرتنا نصوص الأديان الإبراهيمية. ورأينا ذلك النمط من خلاله عصيان الأمر الإلهي والأكل من الشجرة والوقوع في الخطيئة، فظهر الشيطان مباشرةً على مسرح الأحداث. وبدا أنَّ العالم يتكون في اجماله عن طريق العلاقة بين الذكر والأنثى. تلك العلاقة التي ظلت صامدةً تحت أحداث التاريخ حتى حياة السيدة مريم.

لعلنا ندرك أنَّ هذا النمط شكل آفاق التراث الديني التوحيدي، وأعطى نقطة البداية توضيحاً ممتداً حتى الآن. وبات وجود آدم مفسراً ومحدداً من خلال قصة الخلق. وبنيت عليها تصورات حول أصل العالم والخلق الأول، وهدأت من بعض هواجس الإنسان مع الحياة. غير أنَّ التاريخ قد أثبت طغيان هذا النمط كما قلت سابقاً على كافوة المستويات الثقافية والاجتماعية. لأن هناك أفكاراً وموروثات قامت عليه، وقلّلت من شأن حواء في صورة كل إمرأة.

ثانياً: نمط حواء- العذراء: وهو نمط جاء عكس النمط الأول. فحواء هذه المرة كانت هي الأنثى التي تعيش دون آدم لأول مرة. وأنجبت هذه العذراء وليدها من غير أن تحتاج إلى آدم أصلاً. وكانت الإرادة الإلهية حاضرة وفاعلة في التفاصيل. وبالتالي لا داعي لوجود أسباب العلاقة بين الذكر والأنثى. هل ذلك كان إعادة تأويل وجودي أنثوي لقضية الخلق الأولى وأحداثها المعروفة بين آدم وحواء في الأديان الإبراهيمية الثلاثة؟

والدليل هو تركيز هذا النمط على الإبن، فالإبن الذي هو المسيح يمثل المستقبل في سردية حواء العذراء. ومن وقت تبشير السيدة مريم بوليدها، فهي ستنظر إلى الغد. فلم يكن همها الأول التبرئة من أية تهمة أخلاقية وحسب، بقدر ما يكون الابن برهاناً على ذلك وعلى غيرها من أمور خاصة بمستقبل البشر. وهي الأمور التي ارتبطت بالسيد المسيح، سواء في عقيدة صلبه وقيامته أم عودته في نهاية الزمان.

النمط الذكوري (آدم – حواء) كان قائماً على الخطيئة، ولم يستجب إلى  أوامر الرب. وكان بمثابة إنفاذ لإرادة الخلق مع وجود العصيان للأمر الإلهي. في حين أن النمط الثاني بدأ بحواء العذراء وحدها التي إعادة صياغة الوجود والمشاهد المترتبة عليه في النهاية. حيث يمكن اعتبار مريم العذراء(تأويلاً وجودياً)existential interpretation  من لحم ودم لقصة الخلق الأولى.

وبحسب سرديات الأديان الإبراهيمية للقصة الأولى، وبحكم أنَّ العلاقات الحسية كانت جزءاً رئيساً من مشاهدها، فإن سردية العذراء كانت تحمل الأسبقية الأنثوية للحياة ومصدراً للرحمة والنعمة ومعاني الوجود االحميم. ولاسيما أن المسيحية كانت معنية بأخذ الخطيئة في قصة الخلق على محمل التفسير والخلاص والمحو. وهو ما يعرف بالخطيئة والخلاص في الأدبيات والطقوس والشعائر الكنسية. وظهر لاهوت الخطيئة والخلاص على نطاق واسع ومؤثر. ولذلك لا يمكن فهم الخطيئة الأولى دون المرور على العذرية في السيدة مريم كمصدر لحياة أخرى.

تلك النقطة جعلت دلالة الأنثى في قلب الوجود الإنساني وأحداثه، وألقت مزيداً من الإضاءة على أن هناك جوانب أخرى من عناصر الوجود تحتاج إلى فهم. لأنَّ الشيء الذي ظل موجوداً في قصة الخلق الأولى كان الخطيئة والعلاقة الشهوية والحياة الحسية، سواء رمزت إليها عملية الأكل من الشجرة أم ظهور السوءة أو تجلي الموضوع الجنسي. و أيضاً سنجد أن الشيء الذي اختفى في سردية العذراء هو الجوانب الجنسية والشهوية.

هل فحوى ذلك أنَّ الجنس هو سبب الخطيئة، وما يترتب عليه من عوالم وأُناس، وبالتالي حين يشكل الجنس نزعة ذكورية يتحول إلى خطيئة ثقافية أخرى؟! يبدو هذا السؤال شائكاً مهما حاولنا تبسيطه، لأنَّ قصة الخلق بها عناصر وصور كثيرة في البدء مثل (الإله – حواء – الجنة – الشيطان – الشجرة المحرمة)، وكذلك جاءت قصة العذراء ثرية بالأحداث والأشخاص (الكلمة – المخاض - يوسف النجار - الولادة – عيسى ابن مريم- المجتمع اليهودي- السياسة)، وأنَّ المشاهد في القصتين متنوعة دائماً بجانب الحياة الإنسانية للعالم المنتظر من ورائهما. إنَّ مفهوم الخطيئة كان وراءه عالم آخر ينتظر الإنسان بكل تراثه وأزمنته وعصوره المتلاحقة، عندما طُرد أو نزل آدم من الجنة. وبالمثل كانت سردية العذراء وراءها عالم روحاني آخر أضاء مكانة الإنسان وأدخلنا في جدل مع الشر والخطايا والرغبات الدنيوية. وبناء على هذين الشقين، كانت العذراء هي مركز الحياة المختلفة عن مسار حياتنا الآدمية الأولى.

***

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم