أقلام فكرية

محادثة قديمة حول الحركة..هل الحركة حقيقة أم وهم؟

(هيرقليطس وبرمانديس وزينون وبيرون يجلسون حول الطاولة في اثينا. يقترب منهم رجل اثيني يبدو مرتبكا).

الاثيني: حسنا، انتم أحكم الناس، انا أتوق للتحرر من الوهم، الذي هو أقوى الأغلال وأقسى أنواع العبودية.

هرقليطس: أخبرنا مشكلتك دون تردد. نحن مسرورون لمساعدة منْ يبحث عن المعرفة.

الاثيني: انا سمعت ان العديد من الفلاسفة يدّعون ان الحركة – التي تبدو واضحة للجميع – ليست واقعية وانما هي مجرد وهم. أخبرني الآن، انت ومنْ معك من ذوي الأذهان اللامعة، هل هذا صحيح ام لا؟

برمنديس: انت جئت الى المكان الصحيح يا صديقي، وانا سوف أجيب على سؤالك. أخبرني، أليس من الصحيح انه عندما يتحرك شيء ما، فهو اما يحرّك نفسه او انه يتحرك بتأثير شيء آخر؟

الاثيني: نعم حقا

برمنديس: ايضا، كل حركة هي  نتيجة اما للسحب او الدفع في أي اتجاه كان. لذا، عندما شيء ما يحرك ذاته، فان هذا الشيء يحتاج اما الى سحب ذاته او دفعها. ولكن الشيء لا يمكن ان يكون خلف ذاته، ولا امام ذاته، ولا فوقها او تحتها. وهكذا لاشيء يمكن ان يدفع او يسحب ذاته. لذلك،لا شيء يمكن ان يتحرك بذاته.

الاثيني: انت لا تبدو على خطأ.

برمنديس: لذا، فان الطريقة الوحيدة التي يمكن بها ان يتحرك شيء ما هي عندما يتحرك بواسطة شيء آخر. لكن لاشيء يمكن ان يحرك شيء ما اذا هو ذاته لم يتحرك اولا. وطالما يحتاج المحرك الى منْ يحركه، سنحتاج الى محرك ثاني كي يحرك الاول. ونفس الشيء نحتاج بالنسبة للمحرك الثاني. ولهذا نحن نحتاج الى محرك أولي لايحتاج الى أي شيء يحركه سوى ذاته. لكن لاشيء يمكن ان يحرك ذاته، كما قلنا سابقا، ولهذا فان مثل هذا المحرك الاول لايمكن ان يكون موجودا. وهكذا لا توجد هناك أي حركة، وكل ما يبدو لنا من حركة هو مجرد وهم.

هيرقليطس: ولكن، يا بارمنديس، كيف تعرف ان الطريقة الوحيدة التي فيها يتحرك الشيء هي اما بالسحب او بالدفع؟ صحيح ان هذه هي الطرق الوحيدة التي نراها، لكننا لا نستطيع القول من هذا انها الطريقة الوحيدة الموجودة.. واكثر من ذلك، انا سمعت ان ديمقريطس يدّعي بوجود الحركة حتى وان لم تبدأ . لذا، فان الحركة، حتى لو كانت تتم فقط نتيجة الدفع والسحب، فهي لا تتطلب في الحقيقة محرك أولي.

زينون: ربما صحيح ما تقول يا هرقليطس. دعنا نفترض ان سقراط يتحرك من المكان (س) الى (ص). يبدو واضحا انه عليه ان يمر من خلال مكان وسط وهو (ج)، لكي يصل الى (ص). ايضا، لكي يصل الى المكان (ج)، هو عليه المرور عبر منتصف المسافة بين س وج – دعنا نسميها (ف). ولكن نستطيع قول نفس الشيء حول المسافة بين س وف: أي، عليه المرور عبر منتصف تلك المسافة ايضا. وبهذه الطريقة نحن نستطيع الاستمرار الى الأبد. لذا من الواضح انه لكي يصل من المكان س الى ص، سقراط عليه المرور بعدد لا متناهي من الأماكن، الامر الذي يأخذ وقتا لا متناهيا. وبالتالي يتبع ذلك ان لا حركة ممكنة.

هيرقليطس: ولكن ماذا لو كل الاشياء تتحرك بمسافة معينة – دعنا نقول المسافة بين (د) و(خ) – وبهذا لا حاجة للمرور بجميع النقاط الوسطية وانما فقط القفز مباشرة من (د) الى (خ).؟

زينون: يا هرقليطس، هذا يبدو غير معقول.

هرقليطس: هل هو غير معقول اكثر من غياب الحركة؟

زينوس: اذا كنت صائبا، عندئذ فان هذه الحركة من (د) الى (خ) ستكون اما فورية او ستأخذ وقتا. اذا كانت فورية، فان النتيجة هي ان كل الاشياء تصل الى اي مكان على الفور، لأن كل الاشياء سوف تكرر فقط هذه الحركة الفورية للوصول الى أي مكان، وهو امر سخيف. كذلك، اذا كانت الحركة من (د) الى (خ) تأخذ وقتا، عندئذ فانه خلال الوقت الذي تحدث فيه الحركة، سيكون الشيء اما في المكان (د) او في المكان (خ)، او في كلاهما، او ليس في مكان.  اذا كان في المكان (د) فهو لم يبدأ الحركة بعد، واذا كان في المكان (خ) يكون قد أنهى الحركة سلفا. الشيء لايستطيع الاختفاء ومن ثم إعادة الظهور. لذا فان هذا يعني انه يظهر في كلا المكانين دفعة واحدة، وهو امر سخيف ايضا. دعنا، ننسى كل هذا ونفترض انك على صواب. اخبرني، هل يمكن للشيء ان يتصرف في مكان حينما هو ليس فيه؟

هيرقليطس: انه لا يستطيع

زينون: اذاً، أين يتحرك الشيء – في المكان الذي هو به، او في المكان الذي ليس فيه؟ الشيء لا يمكنه فعل اي شيء في المكان الذي ليس فيه. مع ذلك، اذا كان يتحرك فقط في المكان الذي  هو به، فهو لن يتحرك ابدا.

هيرقليطس: ماذا عن الجسم الكروي؟ اذا انت تقوم بتدويره بشكل تام، فهو سيتحرك – ولكن لا يغير مكانه.

بارمنديس: لكن أجزاء الجسم الكروي تغير مكانها، أليس صحيحا؟

(هرقليطس لا يجيب. هناك لحظة صمت).

الاثيني: حسنا يا زينون، ما هذا الذي جئت لسماعه؟ كأني عشت في سراب طوال حياتي؟

هيرقليطس: أخبرني يا برمنديس، الا يمكن ان تتغير طريقتنا في وصف او رؤية العالم؟ على سبيل المثال، في صباح هذا اليوم بدا لي اننا كنا نمشي باتجاه هذه الطاولة، الآن يبدو لي اننا نجلس حولها.

بارمنديس: نعم حقا الظهور (او المظهر) يتغير.

هيرقليطس: لكن الظهور هو اما نتيجة العلاقة بين الشيء وانفسنا، او هو ببساطة نتاج لأذهاننا، ولا شيء حقيقي مطابق له.

بارمنديس: انا اوافق على هذين الخيارين.

هيرقليطس: اذا كان الظهور هو نتيجة العلاقة بين الشيء وانفسنا، وكان الظهور يتغير، يتبع ذلك اما ان العالم يتغير او انفسنا او كلاهما. واذا كان الظهور هو مجرد نتاج لأذهاننا، عندئذ ذلك يعني انه فقط نحن الذين نتغير. في كلا الحالتين، التغيير موجود. ولكن اذا كان هناك تغيير، فيجب ان تكون هناك حركة.

برمنديس: كيف يتم هذا؟

هرقليطس: حسنا، يبدو من الواضح انه اذا كان هناك جزء يتغير، فان الكل يتغير.

برمنديس:

نعم حقا.

هيرقليطس: اذاً، اذا كان أي شيء يتغير، عندئذ فان المجموعة التي تحتوي على كل الأشياء الموجودة هي ايضا تتغير. لكن هناك فقط ثلاث طرق يمكن ان تتغير بها الاشياء: اما بالاضافة لها او بالطرح منها او بإعادة تموضع اجزائها.

برمنديس: انا لا استطيع التفكير بأي طريقة اخرى للتغيير.

هيرقليطس: لكن لا شيء يمكن اضافته الى تلك المجموعة لأنه لا شيء موجود خارجا عنه، ولا شيء يمكن طرحه منها لأنه لا شيء يمكن ان يكون شيئا وهو ليس كذلك، كما تدّعي انت.

برمنديس: انا اوافق، لا شيء يمكن ان يتحول الى لا شيء، ولا شيء يمكن ان يأتي من لا شيء.

هيرقليطس: ولكن اذا كان الامر هكذا، والتغيير موجود، عندئذ فان إعادة تموضع أجزاء المجموعة يجب ان يكون ممكنا. غير اننا لا نستطيع الحديث عن تغيير الموقع بدون حركة، لأن ذلك سخافة. لذلك فان الحركة موجودة.

(برمنديس وزينون بقيا صامتين).

الاثيني: يا لرحمة الآلهة، انا جئت الى هنا لأجد الأجوبة، لكني غرقت عميقا في الاسئلة، ماذا يجب ان أعمل عندما أسمع مثل هذه الحجج، بعضها تثبت والاخرى تنفي ذات الشيء؟

بيرون: أوقف الحكم.

***

حاتم حميد محسن

..........................

An Ancient conversation about motion, philosophy Now.Aug/sep2022

في المثقف اليوم