أقلام فكرية

الفلسفة والأطفال.. مبادئ العقلانية المرحة

سامي عبد العال"يضحك العقلُّ بصوتٍ واضح قبل الفم أحياناً.."

هناك علاقة غائبة بين الفلسفة والمرح ربما لم تظهر بعد. وهي العلاقة القائمة على متعة التفكير الحُر واختراع صور من العيش السعيد ولذة الإنشغال بما هو عميق. العلاقة بينهما علاقة قديمة منذ أنْ كان الفيلسوفُ محباً للحكمة ومنصرفاً إلى الاستغراق في أصالة المعنى. ولا يجد عزاءً سوى إمتلاء الروح الطلْق والتدرب على احتمال الوجود ودلالاته. فالحب أحد درجات الوجود القُصوى واكتشاف البهجة في العالم والتناغم مع الطبيعة والقدرة على التحرر والانفتاح. ولذلك، فإنّ تعليم الأطفال محبة الحكمة هو العيش في عالمهم الأصيل وإدراك المعاني السعيدة للحياة.

المرح ليس مرادفاً للهو وقتل الوقت في كل الأحوال، بل هو (عمق التَّوحُد) بين السعادة والبهجة ولذة الحياة وأسرارها. ويأتي المرح لدى الأطفال شفافاً وعميقاً حدَّ الوضوح التام، ليعكس طبيعة النفس وطاقات الإنسان وغرائزه وعواطفه. المرح يترك الأطفال يعبروا عن وجودهم كما هم دون زيفٍ. في جميع جوانب الحياة المختلفة، يكون الطفل طفلاً لا شيء آخر، لا يستطيع أنْ يكون كائناً سواه. ومن ثمَّ، سيأتي التفلسف تعبيراً عما قد يشعرون به من وجود الإنسان داخلهم.

نقطة إلتقاء

الأطفال كائنات هشة على المستوى النفسي والجسدي، فالطفل من الهشاشة بمكان لدرجة أنَّه لا يتوقف إزاء أية عوائق ظاهرة. هو جهاز إنساني بِكْر وحسّاس ولاقط لكلِّ ما يدور حوله. ولكن المفارقة – كما سنعرف- أنَّ الهشاشة قد تمثل مصدرَ طاقةٍ مهولةٍ لا ضعفاً مزمناً، حيث تشكل أبعادَ حياتهم العقلية والنفسية. وهذا يُوضح قابلية الأطفال للانطلاق دون محاذير نترقبها نحن الكبار. أحياناً قد نقول لأنفسنا ربما سيحدث (كذا وكذا) إذا أقدمنا على هذا الفعل، ولكن الطفل لا يأخذ الأشياء على محمل التحسب والخوف. فالمبادرة تحرك وجود الأطفال من غير أنْ يعووا كليّاً جوهرَ الواقع ولا النتائج المترتبة على الأفعال.

كلُّ طفل يمثلُّ نقطةَ إلتقاءٍ للروح والجسد والحياة والزمن في كيانٍ واحدٍ، كيان التجلي الحُر تماماً مثل التداعيات الحُرّة لوجودنا المباشر، رغم كل القيود الجسدية والثقافية التي قد تحيط بهم. إنها درجة طفولية من درجات الشفافية القصوى علي نحوٍ تلقائي. وهذا ما يجب أنْ نتعلمه من الأطفال، وهو الدرس الوجودي نتيجة الاحتكاك بهم، وربما هو الحكمة الأثيرة من وجودهم بيننا كالبراعم النباتية والشجيرات الغضة التي تسمح بتجليات الطبيعة. أنْ تكون طفلاً معناه أنْ تكون حُرّاً وطليقاً دون حدودٍ وأنْ تحمل وعداً ورسالة للغد. ليس ذلك بنظرة الكبارِ إشفاقاً نحوهم، ولكن بثراء الجوانب الحيوية وزخمها.

كيف تكون ثمة مبادئ فلسفية لجعل هذا الكائن الحسَّاس مُفكِّراً؟ كيف يمكن تنمية قدراته العقلية والعاطفية؟ هل المبادئ تمثل خطوات وبرامج واسترتيجيات، لكي يفكر أم تعدُّ شيئاً آخر؟ وما الفارق الفلسفي بين مبادئ العقلانية المرحة وبين المبادئ الأخرى؟

أحيانا تكون المبادئ الفلسفية جامدة لدرجة الإنكسار أو لا تكون، ذلك من حيث كونها مبادئ محتملة التغير والتطور. فالمبدأ عادةً معيار عام فقد سياقه لدرجة القابلية لأنْ ينسحب على أي شيءٍّ غيره. فالقول - على سبيل المثال - بأنَّ الطبيعة هي الأساس الذي يشكل حياة الكائنات الحية يعدُّ مبدأً عاماً. وبالتالي قد ينصرف الاهتمام إلى الأشكال الطبيعية والبيئية التي تكوِّن شخصية الإنسان. غير أنَّ قولاً كهذا قد ينفلت من عقاله خارج السياق، فيصبح نزعةً فوق النقد، وإليها يرجع تشكيل الوعي واللاوعي في حياة البشر دون إعتبارٍ لدور الثقافة والتاريخ والدين.

مبدأ الهشاشة

الهشاشة كما قلت هي القوة من حيث كونها كاشفةُ لمعانٍ أخرى في حياتنا الإنسانية، لأنها تعطي الأطفال مساحة غير متوقعة من الحضور المؤثر، وبالوقت نفسه تظل مساحة قابلة للزيادة والفعل. وليس هناك من عائق خطير أمام أي كائن إنساني إلاَّ حين يتصور نفسه كائناً صلباً لا يُكسر. وكثيراً ما يرتبط التصلُّب بالقدرة على عنف التفكير وقِصر النظر وأحادية الأفعال الصادرة عن الإنسان.

سيُقال إنَّ هذا فرد متصلب الدماغ حتى الهلاك، أي أنَّه لا يرى غير ما أتاه من فعل باعتباره صالحاً لما تصرف بناء عليه. وبطبيعة الحال قد تكون هناك اعتبارات لتلك المواقف المتصلبة من البعض، غير أنَّ الأطفال ككائناتٍ حرّة يقفون عكس ذلك الوضع تماماً. ويكفي أنْ نستثمر هشاشة الأطفال في صياغة الأفكار وأنماط التربية وأدوات المعرفة، حتى نجعل الهشاشة هي عين القوة الواعدة بالحياة في كافة المجالات.

كلُّ ذلك أمرٌ مهم بالنسبة لمجتمعاتنا الإنسانية، ولاسيما أنَّ الطفولة مرحلة لا تموت في حياة الإنسان بين يوم وليلةٍ، كما أنها لا تقف عند صورةٍ بعينها. لأنَّ (التحقيب الزمني والنفسي والعقلي لعمر الإنسان ) مسئول عنه الواقع إلى درجة كبيرةٍ. فبعض المجتمعات التراثية مثل مجتمعاتنا العربية تعامل الأطفال على أنَّهم رجال قبل الآوان. والبعض الآخر منها يرجع بالرجال إلى مرحلة الطفولة المُدلّلة. تجده رجلاً ضخم الجثة وعريض المنكبين ومفتول الذراعين وتعلُّو وجهه علامات الذكورة والفتوّة، ولكنه يبدو عقلياً ونفسياً كالطفل الذي لم يبلغ الحُلم بعد. هؤلاء وأولئك غير واعين بأنَّ الحياة القويةَ أحياناً لا تخضع لمعايير خارج طبيعتها، بل قد تعصف بأية معايير متعسفة لتنميط البشر.

الطفل الهش حاضر دوماً خلال الحياة الإنسانية، حتى ولو كان طيفاً (حُلماً) داخلنا نّحِنُ إليه مع مرور الزمن، فليس هناك طفل غائب على الأقل في لاوعينا، لأنه كإنسان يشكل كلَّ وجودهِ من الحضور المباشر في العالم، فهو كيان حيٌّ يتم الإحساس والشعور به. إن الحياة تمثل المنفذ الذي يعبر الإنسان عن نفسه بانطلاقةٍ حرّة من خلالها، وهو بالنسبة إليها أحد غرائبها المدهشة إزاء المحيطين به. وعلى ذلك، فإنَّ غياب معاني الطفولة التي لا أثر لها يسقط فيه مَنْ ليس طفلاً، أي قد يسقط في معاداة الطفل هذا الكهلُّ أو العجوز، العدو، المتعصب، المتشدد، المؤدلج الطرف النقيض لروح الطفولة. فليس معقولاً أنْ يكون الطفل هو مصدر الكراهية لأحد أو الإنسان المتميز بروح طفوليةٍ تبلغ من الهشاشة والخفة ما تبلغ.

إنَّ الطفل هو المرتبط بنا راهنا على الدوام، سواء أكان كائناً صغيراً محبوباً أم إنساناً ممكناً في المستقبل، ذلك لكونَّه الموجود على الأصالة بملء المعنى. الطفل من تلك الزاوية بمثابة الأمل داخلنا قبل أن نراه كائنا خارجنا ينمو بمرور الأيام والسنوات. وهذا هو معطى حضوره الدائم الذي لا يُخطئ الزمن وتحولاته. إنَّ توقع آثار الطفل الدائمة من الكثافة بحيث تسمح بما هو عليه من الفعل الفوري. يخطف النظر بمجرد الحركة، يملأ المكان بالأصوات والأفعال والضجيج، وحتى لو كانت بسيطة، إذ سرعان ما تُلفت حركته وفاعليته انتباهنا من بعيدٍ.

مبدأ اللعب

اللعب هو استراتيجية تحويل الأفكار إلى أنشطةٍ وتجارب حرة بصورة من الصور التلقائية. فلا يجب أن يجد الأطفال أفكاراً جامدة أو فوق مستوى تفكيرهم التلقائي، تماماً مثلما يشعرون ويتوقعون أمور الحياة المختلفة. ولأن الأطفال يعشقون جميع الألعاب، فليس هناك ما يشد انتباههم ويفتح مداركهم مثلما يحدث أثناء اللعب. وبخاصة أن اللعب عند الطفل ليس وسيلةً ولن يكون، لكنه يمثل عملية من الاستغراق في (حياة شبه مكتملة)، إنَّه نوع من الوجود التام. في كل الأوقات يلعب الطفل ويتصرف كلاعب مرن وحر وقادر على الممارسة والتجريب. عن طريق اللعب يتلقى الأطفال الأشياء والعالم والمعاني والأفكار، وهذه الأشياء تخضع بدورها لمكانتها وعلاقتها باللعب. أو بالأحرى تتشكل دلالتها عبر الانهماك في الممارسة وأشكالها، وليست هناك أية مبارحة بين ما يلعب به الطفل (الأداة) وما يتصوره ويفكر خلاله ويعيش فيه (الأفكار والتصورات).

والعقلانية المرحة تعتمد على اللعب كوسيط لايجاد أفكار غير صارمة، غير صادمة، وغير عنيفة، أفكار تبتسم من أول وهلة لهذه الكائنات الغضة المنفتحة على المستقبل. وليست هناك من أفكارٍ (مهما كانت في تاريخ الفكر والفلسفة) غير قابلة لأنْ تصبح لعباً بمعناه الطفولي. حتى الميتافيزيقيات والكشوف العلمية المعقدة لا تعدو أن تكون نوعاً من اللعب الحر. لأن ثمة خطأ فادحاً هو حجب أفكار بعض الفلسفات عن الأطفال بحجة أن كلامها كبير على هذه الأعمار الصغيرة. وهذا إعتقاد خاطئ، لأنه سيؤدي إلى تقليص مساحة الطفولة لدينا، كما أنه سيجعل الطفل موضوعاً لقيود مفروضة دون داعٍ. فليست المشكلة في المضمون مهما يكن غريباً ومعقداً، لكن المشكلة الصعبة كامنة في طرائق وأساليب واستراتيجيات التقديم والممارسة. إنَّ ما يُعدُّ كبيراً وعصياً على الفهم ممكن تقديمه بطرائق جذّابه وقادرة على تقليب وجوهه بقدر ما يمثل حالة لعب يجد فيها الأطفال أنفسهم.

وبخلاف ذلك، فإنه عندما تكون الأفكار موضوعاً للعب، وفي الآن نفسه تحمل مضموناً فلسفياً غير مباشر، فهي قابلة للفهم والاستيعاب عبر مستوى الممارسة. وربما ستكون الفلسفة على موعد مع تحويل الإنساق الفلسفية الكبرى إلى ساحات لعب ممتع. والمبدأ هنا سيكون طريقة من الطرق التي تجدد النشاط وتغلف الأفكار وتفتح أبنيتها على منافذ التغير والتحول. وبخاصة أن الأطفال لا يتوقفون عن النشاط والحركة، وليس هناك ما يستوعب ذلك التحرر الطفولي أكثر من الاستغراق في التفكير كأنه اللعب.

كل المبادئ لدى الأطفال يجب أن تكون ألعاباً ملؤها الابتسامة والمرح البريء والقدرة على التداعي الحر وأن تكون هادفةً إلى الإضافة والتطور. ولكن المعضلة أنَّ الكبار مازالوا يرغمون الأطفال على النظر إلى الأشياء برؤيتهم العاجزة عن الحركة. وهي عادة رؤية قعيدة السياق التاريخي الذي فرض قيوداً على العقل والوجدان. وهذا أمر متوقّع لأنَّ ذهنيات الكبار إفراز طبيعي جداً لمحددات الثقافة الموروثة حدَّ التخمة. ولذلك فالمناهج الدراسية وطرق التدريس والمحتويات المقدمة للأطفال لابد أن تخضع لهذا المبدأ. وحتى من باب أن الأفكار التي ليست قابلة للتطور ستموت بالضرورة، وأن العقلانية ليست نسقاً منطقياً، لكنها مجرد إشارات وعلامات تتميز بالتطور وممكنة الحركة على صعيد ذاتها وعلى صعيد الإستعمال.

مبدأ الدينامية

الأطفال بطبيعتهم يتجاوزون الزمن، أي أنهم يقطعون أشواطاً من عمرهم العقلي طالما يتفاعلون مع الحياة. وقد ينظر البعضُ إلى الأطفال على أنهم صغار  بمقاييس الزمن، إلاَّ أن هذه النظرة ليست صحيحة تماماً. وكل يوم يثبت أطفالُّنا أنهم على وعي بجميع الأحداث التي يعيشونها، ويسألون أسئلة جدير بالعناية والاهتمام، بل قد يضعون عقولنا في حيرة شديدة وإحراج أكبر بفضل أسئلتهم الشائكة.

والدينامية توجد لدى الأطفال على نحو عميق أبعد مما نتصور، لأن مواهبهم وقدراتهم تظل تتشكل باستمرار. ولذلك، فإن كل فعل لدى الأطفال هو عينة من الإيقاع الدينامي لوجوده على خط ممتد دون حد. أي لا يمل ولا يتوقف عن السير في التجريب والتطور. والمفترض حينئذ أن تغذي الثقافة امتداداً كهذا بشكل مفتوح وثري، وألاَّ تضع العراقيل أمام هذا التطور من غير إدراك أن هؤلاء يمثلون زمناً غير أزماننا ويشقون دروباً أخرى لم تكن لتوجد لدينا نحن الكبار.

والدينامية ليست نوعاً من الحركة البادية في سلوك الأطفال، على غرار ما يشكو الناس من فرط الحركة لدى بعض الأطفال الأشقياء، لكنها تعطي هؤلاء قدرة على إحراز الجديد واكتشاف العالم من حولهم، هي تشكل مختلف المضامين بخلاف عما نراه ونمسك أطرافه على أنه الحقيقة. وعبارة " العيال كبرت " التي تحولت إلى عبارة دارجة تعبر عن هكذا مضمون، فنحن فجأة سندرك أن هذه الكائنات الهشة التي كانت تحيط بنا قد أحرزت أشياء ومفاهيم جديدةً لم تكن معهودة لدينا في أعمارنا. وأنهم قد قفزوا فجأة إلى خانة عقلية ليست بالهينة، وباتوا على مسافة قصيرة عما كنا نحسبه هدفاً بعيداً. وهو القدرة على مناكفة الحياة وظواهرها المعقدة والمتشابكة.

وتبدو الدينامية واضحة في اندهاش الأطفال من الأحداث المحيطة بهم والمتفاعلين معها. لأنَّهم مشغولون بكيفية حدوثها، ولماذا تظهر بهذا الشكل أو ذاك. وطالما أنَّ غموض الأحداث لم يكن قابلاً للمعرفة على صعيد وعيهم الغض، فكذلك لا تنقطع علامات الدهشة. وقد تكون الدينامية هي تحريك الوعي الطفولي لكي يرى ويمارس الرؤية بكل بساطة ممكنة. ووجود الدهشة يمثل مؤشراً على أن هناك شيئاً ما ينمو. وهو ما يتحدد بناء على اتجاهين على الأقل:

1- التلقائية: لا يمارس الكبار التلقائية عادةً بشكل طبيعي، هناك ألف مبرر ومبرر للتحفظ والانكماش والعودة إلى الوراء. وعندما تسأل شخصاً: لماذا لم تكن لتتصرف على سجيتك؟ سيقول لك لأن الواجب أو العادات والتقاليد تقتضي هذا الوضع أو ذاك. وفي هذا الصدد ربما أن الأنظمة الاجتماعية استطاعت ممارسة أدوارها في الحفاظ على الموروثات والأنماط الفكرية والحياتية عبر صور أخرى من المراقبة والضبط الاجتماعي الخفي.

في حين أن التلقائية صفة أساسية في حياة الأطفال، لا يضعون مبررات أمام المواقف والأفعال حتى ولو كانت مكررة طوال الوقت. إن التلقائية ليست مواقف عارضة، لكنها تمثل لوناً من الممارسة البريئة. هي البراءة التي ستحضر باستمرار من غير محاذير. التلقائية تقف خصوصاً ضد الافتعال والتصنع الظاهري. فلو كان هناك ما يميز الكبار بوضوح، فهي المواقف المفتعلة في غير حالةٍ. الإفتعال يُفقد أعمالنا البشرية زخم المعاني والبراءة المطلوبة لوجودنا المشترك ويسقط جوهر حقيقتنا الحرة. لأن الإنسان المفتعل ليس إلا مجرد عبد قميئ ساقط في قبضة من يريد استعماله.

لكن الطفل كائن غير مفتعل، وربما في أغلب حياته لا يعي ماذا يفتعل ابتداء؟ لأنه في مرحلة لا يستطيع أنْ يعيش دورين في وجه واحد. بينما الكبار كثيراً ما يعيشون بوجوه متعددة بالوقت نفسه. ولو حاول الطفل افتعال الموقف، فلن يستطيع. وهذا بالأصالة معنى أن يكون الطفل بريئاً وتلقائياً. وهذا اللاافتعال خط جوهري ضمن كل تصرفات الأطفال، حتى أن التعبير عن احتياجاتهم الخاصة ورغباتهم وغرائزهم إنما هو تعبير عن طبيعة لا صور مفتعلة. وربما لو حاولنا تفسير ذلك، فالطفل في هذا الخط لم يكن قد تشبع بالثقافة الضاغطة بعد. الثقافة في أساسها هي الصور المفتعلة للتعبير عما هو جوهري داخل الإنسان. لو لم يكن الإنسان كائنا مفتعلاً للصور لما وجدت الثقافة أصلاً. الثقافة هي فتون الإفتعال التي تبدو مشتركة بين الناس. ولذلك كثيراً ما يسقط الإنسان في الافتعال من أول وهلة، وقد يقول قائل لماذا لا يعي الإنسان هذا المظهر؟ أو لماذا لا يتجنب الافتعال؟

لأنَّ التشبع بالثقافة يجعل الإنسان فاقد الأهلية لجوانب التقائية مهما تكن. إن الثقافة هي العماء والغطاء الغليظ الذي يجعل الوعي غارقاً فيما يرى ويعتقد. ولنلاحظ أنَّ الأطفال غير واعين بالثقافة إلى درجة تصل حدَّ الاعلان عن فشلها في الهيمنة عليهم. وضمن تلك النقطة، سيكون أمامهم زمناً، حتى يمكن أن تنال الثقافة من حيويتهم وقدرتهم على التمرد والنزق. ربما سيكون على الثقافة أنْ تتربص بهم طوال الوقت لكي يتم إدخالهم في عبائتها السميكة نزعاً لكل رفض أو علاجاً لكل شرخ أو شق في جدارها القوى.

2- المرونة: يصعب أنْ نفهم مرونةَ الأطفال دون الاشارة إلى انعدام بعض هذه السمة لدى الكبار أحياناً. لأن المرونة لا تكون مرتبطة بإرادة الأفراد على الرفض والقبول. أي ليست سمة يمكن أن يبديها الإنسان مباشرةً. المرونة سمة أعمق، فهي نابعة من قابلية الإنسان للفهم والحوار والتساؤل والإنصات للآخر ورؤية الأخطاء والايمان الدائم بأن هناك جوانب أخرى لكل القضايا والمشكلات.

والطفل لديه وافر الطاقة على ممارسة تلك الأنشطة الإنسانية، بل ليس طفلاً إلا لكونه يمتلك ملكات الفهم والرغبة في التساؤل والبحث والتنقيب خلف الأشياء والظواهر. والمرونة أساس التعلم والتجربة وتعديل السلوك واكتساب خبرات جديدة ومتنوعة. وإذا كان الكبار يشعرون بالقيود ويمارسونها، فذلك لكونهم لم يتدربوا على كيفية الوعي بالقيود في الكبر ولا كيفية التخلص منها.

بينما بإمكان الأطفال أن يسخروا من القيود ويعتبرونها مجرد علامات باسمة على الطريق. وذلك بسبب المرونة التي هي تغيير الاتجاهات والأفكار والمعاني. وتبدو تلك الحالة أمراً لا غبار عليه  وربما تمثل النسبة الأكبر من تشكيل الوضع الفكري. المرونة هي ما تبقى من الطفولة لدى بعض الكبار وهي محمية بموجب المعرفة والقدرات العقلية والعاطفة والعقلانية كما في العلوم وبعض الفلسفات واتجاهات النظرية الأدبية والدراسات الثقافية.

مبدأ النهايات المفتوحة

لا يؤمن الأطفال بالنهايات المغلقة. لو سألت طفلاً: هل تريد أن تصل إلى فعل أو فكرة أو رغبة شاملة واحدة؟  فلن يبدى أية استجابة، وستكون إجابته العملية أنه يلعب وينهمك في تحطيم ما شيد من قبل.

لا توجد كلمة نهاية عند الطفل، لأنه لا يؤمن بالأيديولوجيات ولا بالعقائد التي من شأنها أن تقفل عقله على أعتاب أطر معينة. فالأيديولوجيا يمكن أن تقرر حدوداً لا يتجاوزها المرء مهما حدث. والعقائد تضع المحرمات قيد التنفيذ في مسألة ماذا عليه أن يفعل وماذا عليه أن ينتهي. عقول الأطفال الغضة لا تعرف تلك الأنظمة الثقافية التي تقطع طريقها نحو الحياة. ولذلك لن يكون الطفل مؤدلجاً مثلما لن يكون داعية عقائد شمولية.

الأيديولوجيات تقضي على الطفولة لدى الإنسان من حيث لا يتعلق بأي شيء سواها. وكذا العقائد المغلقة تكلس عقول الأطفال دون طائل، كان مشهد أطفال الدواعش مزرياً عندما رأيناهم يرددون كالببغاوات مقولات التكفير وتطبيق الشريعة  وهم لا يدركون إلى أين ذاهبة بهم هذه الأفكار. وأخيراً رأيناهم وهم ينفذون حكم الإعدام في بعض الضحايا. وهؤلاء الأشقياء الصغار عاشوا الحقبة السوداء من إزدياد مد الجماعات الدينية الإرهابية، مما دمر قدراتهم الإنسانية وأفقدهم سمات البراءة والمرونة والهشاشة.

الأطفال لا يستطيعون العيش دون نهايات مفتوحة، لأنهم لو وقعوا فريسة للمذاهب والأيديولوجيات، فسيكون الأمر كمن يطعم وحشاً أسطورياً من جماجم البشر. فلم يخلق الأطفال لهكذا وضع، ولم يكن لديهم هناك وقوف على الأطلال أو الخراب. وما يوجد لدى الأطفال في هذا الجانب أكثر بكثير مما يدركه الكبار وعجائز العقائد. وهذا نتيجة التفكير الطفولي الذي يخلط بين العاطفة والرغبات الجسدية واكتشاف الحياة.

1- اللذة: من أبجديات الطفولة أنه قد يتمتع الطفل بتدمير الأشياء وينشغل بتفكيك وتركيب الأشياء من غير توقف. وهي عمليات ليس وراؤها أية غاية معينة حتى تقفل خطوط العودة والإنطلاق على غرار المذاهب. الطفل لا يقصد من ذلك اللعب بما يمارس ويجرب إلا الاستمتاع. ولكنها متعة تعطيه تفكيراً متواصلاً وتنمي إحساسه بالأشياء وتزيد رصيدة من المحاولة والخطأ.

وهذه السمة ليست طفولية فقط، بل هي تواصل حضورها لدى كبار المبدعين، فلم يكن هناك شيء ذو أهمية لدى عالم الفيزياء ألبرت أينشتين إلاَّ أن يركب ويجرب ويفكك طوال الوقت مفاهيم ونظريات وأفكاراً وتجارب لتفسير الطبيعة وإكتشاف القوانين. وكان يعابث النظريات الكبرى التي سبقته في فيزياء الكون من أجل اللذة المعرفية وتغيير صورة الحياة. وكان أينشين حين يجد صدوداً من الأفكار يلجأ إلى الموسيقى، فقد كان عازفاً ماهراً على ألة الكمان منذ طفولته. وليس خافياً علينا كون الموسيقى روحاً طفولياً أسطورياً يُوحد المتلقي بمتعة الوجود ونسغ الحياة. إذ تنقله إلى آفاق أخرى من اللذة الجمالية التي تعيد إليه الإندماج بالطبيعة واكتشاف المجهول. وأحيانا كان أينشتين في مرحلته العمرية هذه يلاعب الأطفال جالساً بينهم كالطفل الكبير ويخرج لهم لسانه كما حدث مع الاحتفال بعيد ميلاده وأحيانا كان يتلاعب بنظراته من وهناك كي يشعر بطفولة ممتدة لا تتوقف.

2- البهجة والسعادة: لا يستغرق الأطفال في ألعابهم وممارساتهم إلاَّ لتحصيل حالة من السعادة. فالنهاية بالنسبة إليهم هي نهاية سعيدة دوماً، كأنهم يعيشون حلماً لا يريدون الاستيقاظ من لذته. وهذا الفارق بين الأيديولوجيات والعقائد وبين روح الطفولة، فالعقائد ترتهن بغاية كئيبة تنتهي بالوبال على الإنسان، لأنها تتشكل بناء على طبيعة العقاب المختلط بها. فهي عقائد مسيَّسة في غالب الأحوال وبالتالي سيعيش الإنسان داخلها كابوساً لا يعي ولا يدرك كيفية الإستفاقة منها.

الفلسفة من تلك الجهة هي فن الضحك والابتسام العقلي. هل تستطيع أن تضحك بالعقل قبل الفم؟ وشرط لكي تخاطب الفلسفة الأطفال أن تضحك ملء شدقيها بطول التاريخ وعرضه. كيف تجد الفلسفة أفكاراً باسمة ومحركة لمخزون الشغف والإدهاش؟ فكل ما انتجته الفلسفة من أنساق وأفكار وتراثات مذهبية يمثل مدعاة للسخرية من وجهة نظر الطفولة، يا لهذه المهابة المرتفعة إلى حد الأسرار في كل ما تقول. فليس ثمة داعٍ لأنْ تنغلق عوالم الفلسفة على نفسها، لكي تصنع حياة موازية كأنها الدنيا والآخرة.

وبالتالي لا يجب على الفلسفة أن تجيش الأطفال في إهاب كئيب من الحكمة الصاردة عن الحياة، لكن عليها أن تسعدهم وأن تفتح آفاق الامتاع والجمال واللعب والمرح أمامهم. وهذا تحدي خطير للفلسفة قبل أن يكون موقفاً للأطفال. والطريق إلى ذلك يبدو واضحاً: أنْ تأخذ من ألسنة وحياة الأطفال الرؤى والرغبات والتصورات حول الكون والطبيعة والإنسان والمعارف، وأنْ تعطيها لهم بشكل جذاب ورائع، وأن تفجر لديهم ينابيع السعادة والخيال والأحلام.

***

د. سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم