أقلام فكرية

الأكاديمي والمجتمع.. قراءة في التأثير والتفاعلات

تتعدد الثنائيات التي تتضمن مفردة (المجتمع) فالدين والمجتمع أو رجل الدين والمجتمع تعد ثنائية جدلية، والدولة والمجتمع كذلك، وتحظى ثنائية الأكاديمي والمجتمع بأهمية بالغة أيضا لأسباب متعددة منها أهمية الاكاديمي كعنصر نخبوي يمثل الطبقة الفكرية للمجتمع، ومنها العلاقة الهامة التي تنشأ بين الاكاديمي والمجتمع.

ان فلسفة وجود الجامعة تقوم على أساس البحث العلمي وتطويره واستحصال النتائج العلمي حسب التخصص من جهة، وعلى خدمة المجتمع وحل مشكلاته من جهة أخرى، وهو ما يحدد طبيعة الوظيفة الملقاة على عاتق الجامعة، إذ تسهم الجامعة في رفد المجتمع بالكفاءات والنخب على تنوع تخصصاتها، وتشارك الدولة في أداء مهامها بنحو يراعي قيمة التخصص الذي يتحمل مسؤولية إدارة الدولة وتنفيذ خططها التنموية على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والخدمية.

إن الذي يرسم وظيفة الاكاديمي في المجتمع هو رسالة الجامعة وفلسفة وجودها القائم على عنصري البحث العلمي وخدمة المجتمع، ومع تحديد العنصر الاول (البحث العلمي) بنحو دقيق وممنهج فإن خدمة المجتمع عنوان عائم اليوم تحدده الظروف المتقلبة نسبيا، وهو ما يشكل تحديا أمام الأكاديمي ومدى تأثيره الاجتماعي.

وبالنظر الى طبيعة المشكلات التي يعانيها المجتمع يتضح مدى حاجة المجتمع الى مختلف التخصصات الانسانية والعلمية، وإذا كانت الجامعة قد خططت مسبقا لتوظيف ذلك الهدف (خدمة المجتمع) وتوفرت لديها الإمكانات التي تتيح لها التأثير والفاعلية فإن الهدف يصبح في مجال التنفيذ، لكن العقبات متعددة، وإذا عدنا إلى التركيب الذاتي الذي يتمتع به الأكاديمي فلا شك (أن هناك صفات ينبغي أن يتحلى بها الكادر العلمي، فالأستاذ الجامعي لابد أن يكون منزّها من كل العاهات النفسية الاخلاقية التي قد نجدها في الناس الذين هم أقل درجة من الوعي والدور المجتمعي، لأن الاستاذ الجامعي مثال ونموذج للآخر، في القول والفكر والعمل، أما أن يشترك النموذج الجامعي في خلق وترسيخ الظواهر المرفوضة، فهذا دليل قاطع على أنه لا ينتمي بروحه وأعمالة لمنظومة الجهد الجامعي البنّاء، بل هو دخيل على هذه المنظومة، ويسيء لها، لذا مطلوب أن تتدخل الوزارة المعنية ورئاسات الجامعات في عملية تصحيح شاملة ودائمة، وعدالة قائمة، وترسيخ للدور الرائد للجامعات في بناء الدولة والمجتمع، وقد يكون هذا الهدف صعب التحقيق ما لم يكن هناك اهتمام كبير في دعم الاستاذ الجامعي معنويا وعلميا وماديا ليكون هو ركيزة التقدم المجتمعي أولا لينعكس ذلك على تقدم الدولة في المجالات السياسية والاقتصادية كافة)1 .

ان العلاقة بين بيئات العلم وبقية البيئات المتنوعة تبقى في طور التعقيد لكونها تنفعل بعامل البنية من جهة وعامل التفاعلات والعلاقات من جهة أخرى، والفكر الذي يصوغ تلك العلاقة هو ذاته من طرف بيئة العلم بطبيعة الحال، لذا فإن عامل البنية والذي يقصد منه طبيعة التركيب العلمي والفكري له أثره في مجال ترسيم العلاقة بين بيئة العلم والبيئات الأخرى، فالتخصصات الأكاديمية متعددة وهذا التعدد يفضي الى تفاوت في نسبة التفاعل مع متطلبات المجتمع، سواء على مستوى التخصصات الانسانية او التخصصات العلمية.

واذا وقفنا عند عامل البنية العلمية وأثره في المجتمع، فيتصل بمشكلتين: الأولى (موت التخصصات).. فالتخصصات الجامعية تكتسب أهميتها اليوم من خلال مدى تأثيرها في سوق العمل، وهو ما خلق مشكلة لبعض منها على هذا الصعيد، فالجانب الانساني منها بات يعاني من الخمول على مستوى الحضور الفاعل في أداء مؤسسات الدولة والمجتمع، بسبب طبيعة فعل الدولة وتوظيفها للطاقات العلمية، لكن ذلك لا يلغي أهمية أي تخصص انساني أو علمي، وبالنتيجة فإن فاعلية التخصصات التي لا تحظى بسوق عمل فعلي تبقى رهينة الظروف المناسبة التي تستقطب تلك التخصصات، والثانية: (مشكلة التلقي)، فالأكاديمي يعرض أفكاره بلغة وخطاب علمي أو نخبوي لا يتلقاه المجتمع بيسر، وثمة حواجز من المفردات والمصطلحات التي تعقد المشهد على الأفراد متوسطي التعليم، وهذه من المشكلات القديمة والحديثة، و يعود مدى الفارق في لغة التعبير بين الأكاديمي والمجتمع، الى طبيعة بيئة العلم التي تجعل من خطاب الأكاديمي خطاب نخبوي لا يصل الى بسطاء الناس، مما يشكل عقبة أمام التلقي الاجتماعي لما يقدمه الأكاديمي من وجهات نظر تصب في خدمة المجتمع، لذا بات من الضروري ان يصوغ الأكاديمي خطابه بما يناسب مستوى تفكير المجتمع، ويعود سبب ذلك الى ضعف حضور الاكاديمي في المجتمع، ومدى العزلة التي يعيشها نسبيا عن المجتمع، بسبب عدم تصدره للمشهد الريادي الذي ينبغي أن توليه الدولة إليه، فمتى ما كان حضوره منظما ومعد له مسبقا كان التفاعل أيسر، فالعزلة والقطيعة تفضي إلى غربة ما بين الأكاديمي والمجتمع، فالنزول بالأكاديمي الى مستوى التلقي الاجتماعي والصعود بالمجتمع الى مستوى الخطاب الأكاديمي يعدان من وظائف التخطيط المؤسساتي للدولة، فهي ليست مشكلة بنيوية بين الطرفين بقدر ماهي هي مشكلة تفاعل وتواصل.

و يبقى عامل التفاعلات والعلاقات بين الاكاديمي والمجتمع يؤثر أيضا بنسبة ما رغم ما يواجه من تحديات أولها كون التركيب الفكري الذي يوجه تلك التفاعلات ناتج عن طرف واحد من جهة الأكاديمي، فهو فقط من يدير تلك العلاقات وعلى عاتقه يبقى نجاح العلقة والتفاعل والتأثير، فضلا عن قصور الامكانات المتاحة لدى الاكاديمي، إذ أن وسائل التأثير في أغلب البلدان العربية على الأقل بقيت في حدود عمل مؤسسات الدولة، ومدى ميل الدولة الى التكنوقراط يحدد من فاعلية الاكاديمي وحضوره في المجتمع.

ان وسائل التأثير والتفاعل التي تتطلبها العلاقة بين الأكاديمي والمجتمع تتفاوت في الحضور بحسب طبيعة الظروف، وفي العصر الراهن يمثل الاعلام وسيلة بالغة الأهمية في ابراز  دور الأكاديمي في المجتمع من خلال ما يوفر من فرص لتوظيف الجهد النخبوي في الساحة الإعلامية، كذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت في تقريب المسافات بين الأكاديمي والمجتمع، بالنحو الذي يتيح للأكاديمي تقديم وجهات نظره حول مشكلات المجتمع، كما يتضح دور مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات العلمية والثقافية في اشغال دور الوسط الناقل بين الأكاديمي والمجتمع، وهو من وسائل التأثير الفاعلة، على مستوى الندوات واللقاءات المعرفية الفاعلة في تشخيص مشكلات المجتمع ووضع أسس العلاج، فالإعلام من جهة وتلك المؤسسات من جهة أخرى كفيلان بوصل العلاقة بين النخب الفكرية وافراد المجتمع على تنوع مستوياتهم ومجالاتهم. 

***

ا.م.د أسعد عبد الرزاق الاسدي

كلية الفقه - جامعة الكوفة / العراق

.......................

1- الكادر الأكاديمي والارتقاء بالدولة والمجتمع، علي حسين عبيد، شبكة النبأ للمعلوماتية.

في المثقف اليوم