أقلام فكرية

في فلسفة الجَمال:الجمالُ مَصدرُ سعادة الإنسان الحقيقيَّة

الجمالُ علمٌ من العلوم الفلسفية يبحثُ أساسًا في الفن والقيم الفنيّة التي تحكم التعبيرَ الفني وتُثير في الأفراد الإحساسَ بالجمال. وهو سرٌّ من الأسرار العُلويَّة، لا يدركه الإنسان بالنظر دونَ العقل. والجمالُ، عند الفلاسفة، صفةٌ تلحظ في الأشياء، وتبعث في النفس سرورًا ورضى. ومن صفاته ما يتعلَّقُ باللطف، وهو أحد المفاهيم الثلاثة التي تُنسب اليها أحكامُ القيم، وأعني الجمالَ والحقَّ والخير(1).

هل مِن تعريفٍ دقيق؟

قد يصعب على المرء وضعُ تعريف دقيق لعلم الجمال، ذلك لأنَّه جوهرٌ لامعٌ مُحاطٌ بأغشية عديدة، برَّاقة، تُبهر العيون وتأخذ بمجامع الألباب والجوارح، وأقولُ بالأحرى لأنَّه سرٌّ في ذاته لا يُدركه الاَّ العقل المُرهف بالمخيلة والأحاسيس. إن الجمال تعشقُه الروحُ لأنَّه فيضٌ منها وسرٌّ من أسرارها. وهو مسألة فطريَّة متأصِّلة في أعماق النفس البشرية، ولذا، بمنتهى التلقائية، نجدُ في كل إنسان ميل الى كل ما هو جميل، ونَفرٌ من كل ما هو قبيح. ويتمثل الميلاد الفطري للجمال في نفس كل انسان في اقتنائه الأشياء الجميلة التي تعكس عليه الشعور بالسعادة والسرور. وليس من خلاف بين البشر على حب الجمال أو عدم حبه، لأنَّه غريزة فطرية. لكن الاختلاف قد يكون في تذوُّقه، إذ يختلف ذا التذوُّق من فردٍ لآخر.

والجمالُ ليس بفن، بل هو يختلف عنه، إذ إن الفنَّ إما خلقٌ أو أعادةُ خلق، أي إبداع، ويتكوَّن من ماديٍّ محسوس، سواء بشكل لوحة فنيَّة، أو تمثال، أو قطعة موسيقيَّة، أو قصيدة شعريَّة. ومما لا شك فيه أنها جميعًا أعمالٌ فنيةٌ صُنعت ليتمتع بها الإنسان، وقد لمسَتها أحاسيس الإنسان، فجعلت منها فنًّا. فالفن بكل فروعه، جزءٌ من علم الجمال.

ويحتاج تذوق الجمال الى أساسيات يجب أن تتوفر في فكر كل إنسان. وبدون هذه الأساسيات، يبقى مفهوم الجمال ناقصًا.

يحتاجُ الجمال الى عقل صاف لتفهُّم أساسيَّاته. كما أنه يحتاجُ أحاسيسَ وعواطفَ مُرهَفَةً تغمرُ الإنسان في ما حوله من جمال طبيعي أو مصنوع، ويحتاجُ أيضا رؤيةً ثاقبة وعينًا ناشطة تتنقل من زاوية الى أخرى في اللوحة الفنية، أو في جمال الطبيعة، أو حتى في المقطوعة المسرحية، لتفرِّق بين الجميل والقبيح.

والقبيح هو عكس الجميل. وهو مقولة من مقولات الفن، ويُطلق على كل ما يبتعد عن الصورة الكاملة لنوعه، أو على كل منافر للذوق. غير أنه في وسع الفنان أن يصوِّر الشيء القبيح تصويرًا جميلاً يستحسنه الذوق، وتميل اليه النفس، وهذا ما يُعبَّر عنه بعبارة جمال القبح(2). والقبيح هو ما يتحرف عن  صورة تُعدُّ كاملة في نوعها فيبعث النفور، وإن كان منه ما يكتسب قيمة جمالية باعتباره عملاً فنيًّا(3).

أخيرًا، يحتاج الجمال الى اخلاقيَّات صافية وإيجابية في الإنسان ليرى في الجميل جمالاً. لأن الانسان الذي لا يمتلك هذه الصفات الأخلاقية لا يرى في الجميل إلاَّ قبحًا.

إرتباطٌ بالعقل والرُّوح

الجمالُ إذًا مرتبطٌ بالعقل والروح، وهو ما ورائي لأنَّ فيه خيالاً واسعًا ورؤيةً بعيدة، تأخذ الإنسان بعقله وأحاسيسه الى عالم الروح. والجمال مرآة لنفس الإنسان. فالفنان الذي يبدع في لوحاته الفنيّة، أو منحوتاته، يخرج ما في داخل روحه من عصارة وبراعة، ليقدمها الى العِيان. كذلك الشعر الذي يعتبر من الفنون الفطرية، فهو ليس من الفنون التحصيلية، بل هو من روعة الفنون الكتابيّة. فالشاعر يلعب بكلمات القصيدة، كما يلعب الفنان بريشته، فتأتي جماليَّة قصيدة الشاعر شاهدةً على ما في اختلاجاته الداخلية، من روحانية وأخلاق، إذ تجتمع فيها أسرار النفس الإنسانية وعلاقتها بسواها من الموجودات، من عواطف الحس ودواعيها، فيخرج من قريحته أسمى المعاني والخواطر، ليصبَّها  بإبداع  في أسلوبه الشعري، فتغدو قصيدة من قلمه منسَّقة في غاية الدقة والبراعة الأدبية. والذي يجمع الشاعر والنحات أو الرسام، هو إخراج ما في داخل الروح الى عالم الوجود، ليغدو من البدائع في الجمال.

كذلك الفنان الموسيقي، فهو يلعب بأوتار الآلات الموسيقية، فيحول أصواتها نغماتٍ تقعُ في الآذان، فتنقل السامع الى عالم الروح، وتُنسي الحزين حزنه، وتدخله الى عالم الفن، عالم الروح الماورائي.

إن تذوق الانسان كلَّ ما هو جميل يَرقي به الى الأحاسيس، ويهذِّب نفسه، ويبعث فيه الراحة والطمأنينة. كما ان الموسيقى الجميلة تخفف من وطأة قلقه وتوتره. وتجعل منه أكثر تفاؤلاً، وتبعده عن مشاعر الحزن والتشاؤم، كذلك الشعر يرفعه الى عالم الخيال، فيسافر بين الكواكب متنقِّلاً بخياله، وغائصًا بأحلامه.. إنه الجمال مصدر السعادة للإنسان، لما ينطوي عليه من مفاهيم أخلاقية عديدة تتصل بالخير والصدق والحب وغيرها من السلوكيات الإنسانية التي تكمن في باطن كل إنسان، فتنقله الى عالم الروح.

ويأتي عمل الفنان الرسام النحات، الشاعر، الكاتب المسرحي، الممثل... عملية انسجام  ترتكز على العمل الأخلاقي والاجتماعي. فيها الصعود والهبوط وفقًا لعامل الحدس الذي هو فوق الوعي والتربية. فالحدس الذوقي هو الذي يجعل الفنان ناجحًا وفق خطة عمل منسجمة، نابعة من عمق أعماقه.

ان الفنان يعيش عمله الفني بجميع أبعاده الجمالية والاخلاقية والإنسانية. وعيشه هذا ليس شطحة مثالية، بل واقعية أخلاقية فنيّة. فالفنان عندما يرى ما في العالم المحيط به، خيرًا وجمالاً، لا يفصل أبدًا بين الخير والجمال في نفسه وفي الطبيعة. وعندما يعبِّر عن روعة الحياة، فإنما يعبِّر أيضا عن حبه وتفاؤله، وعن إيمانه بأن الخير والجمال كانا منذ البداية. وما نسمِّيه مثاليةً في الجمال هو واقعٌ بالفعل، فما يكشف عنه إنسانٌ مُبدع من مُثُل يبقى أكثر صدقا ومشروعية من تلك الكلمات التي يتفوَّه بها كثيرٌ من الناس، والتي لا تمتُّ بصلة الى الأخلاق في علم الجمال.

الفنونُ البديعة والأخلاق

إن تأثير الفنون البديعة في الأخلاق لا يوِّلد فقط - عند الفنان - التخيلات البديعة والمعاني السامية والألفاظ العفيفة، ويحبِّب الجمالَ بكل انواعه، في العاقل وغير العاقل. بل ان هذا التأثير يشمل كل مَن تعاطى مادة من مواد الفن، أي انه يشمل الإنسانية برمَّتها. فالأخلاق لها دورها في علم الجمال إذ ترقي هذا العلم الى سلم المعارف البشرية، والأمثلة كثيرة على ذلك. فالاعتياد على المحاسن أيًّا كانت من مرئي او مسموع، تهذِّب الأخلاق في النفس البشرية، وتنمِّي الطباع على حب الجمال. فالجمال هو حقيقة أخلاقية ترتقي بالمبدع الى عالم الخير. وأخلاقية الفن تبدأ بالعفوية المبنية على الصدق والحدس البدائي، ومن ثَمَّ تنتهي بالواجب الداخلي للعطاء المستمر. والعطاء هو خلق واكتشاف للمُثُل الإنسانية، سواء في الطبيعة أو في الإنسان، أو في المادة. ونحن نرى ان كل عمل فني هو عمل أخلاقي مثالي يضع فيه الفنان المبدع كل ما في داخله من مثالية وأخلاقية، فيُخرج الى العِيان أصفى ما في داخله، ليغدو لوحة فنية، أو قطعة موسيقية، أو قصيدة شعرية.. محاطة بهالة أخلاقية لا يُدركها إلاَّ ذوو النفوس الصافية، العارفين قيمة الفن، والمحلِّقين في عالم المثل الماورائية. فالفنان بعمله الفني هذا، لا يبغي المنفعة الشخصية، بل يعبِّر عمَّا في داخله لأجل الآخرين، ليمتع الآخرين بلذة الجمال، بما أبدعه من جمال فني.

إن العمل الفني الإبداعي غيرُ طبيعي، هو كلٌّ بالكل، وأعني بذلك أن عمل الفنان، رسام، نحات، شاعر.. يستمد مقوماته الجمالية من العواطف الحارة التي يعانيها، وجمال هذه العواطف، أي سموها ونبلها، هو الذي يقرر إبداع وجماليَّة العمل الفني الذي يقوم بإبداعه. فالأخلاق في هذه الحالة تمثِّلُ الدور الأكبر في العمل الفني، إذ تجعل من الفنان بالضرورة إنسانًا، صاحب قيم ومبادئ أخلاقية. ونرى أن عكس ذلك هو عمل فني مَحشو بالقبح، حاول الفنان إظهاره بمظهر الجمال، ليغدو الى العِيان عمل فني جميل. والفنان المُبدع ليس معلما للأخلاق، بل هو كاشف لها في حياة الناس، وفي أعماق ضمائرهم. والفنان يستفيد من هذه العواطف النبيلة لإثارتها في نفس الإنسان، من دون وساطة منطقية إكراهية، إذ كثيرًا ما يؤدي الخير الموجَّه الى عكس الغرض. ومن هذا المنطلق، فإن أخلاقية الفن تعتمد على الشعور بالمسؤولية، وعلى الحرية وعلى تحقُّق الجمال، في الشكل والسلوك والأهداف. وتختلف المقاييس الأخلاقية أبعد الاختلاف، فبين ما تكون أخلاقية الفنان المُبدع صريحة وعارية عن كل تلبُّس، تبقى الأخلاق المبنية على العادات والتقاليد، ملتوية ومغلقة. وشعور الفنان المُبدع، نراه مغايرًا لهذه العادات والتقاليد. فمثلاً، عندما يصوِّر لنا لوحة عارية، إنَّما يريد أن يصوِّر لنا من خلالها حبَّ الحياة، وحبَّ الفضيلة، وحبَّ الآخرين. لا بل يصوِّر لنا الجمالَ برمَّته.

طبيعيٌّ ومَصنوع

ويختلفُ إدراكُ الجمال الطبيعي عن إدراك الجمال المصنوع، ذلك لأنه قائم وواضح منذ القدم، وحقيقته تظهر بوضوح في الطبيعة، لكونه ليس بثمرة الابتكار والإبداع الفني. فموضوعات الطبيعة، وإن كانت تثيرُ بهجة الإنسان وإعجابه، لا تكتسب قيمتها الجمالية إلاَّ من خلال الذوق الفني والرؤية المستمرة والدائمة لها. ومن خلال هذا التعبير الفني، يكتسب الجمال الطبيعي قيمة، فيُمسي موضوعًا للتذوق الفني. ومن هذا المنطلق أيضًا يمكن القول إن موضوع علم الجمال ليس هو الأشياء الجميلة التي نُدركها مباشرةً، بل هو أقرب ما يكون إلى تفسير التعبير الجميل، سواء كان طبيعيًّا او مستمَدًّا من حياة الإنسان. ومن هذا التعبير الفني يظهر إحساس الإنسان وذوقه، فيمكن لأي شيء جميل، سواء كان طبيعيًّا أو مصنوعًا أن يتحوَّل قيمةً جماليةً في نظر العِيان. وبالطبع، فإن إحساس الإنسان مجبولٌ بعقله وروحه، وبقيمته الأخلاقية. فكلُّ ما سبق مجتمعًا يكوِّنُ القيمة الجمالية لعِلم الجمال الطبيعي والصناعي.

ليست للجمال الطَّبيعيِّ مدارس

ليست للجمال الطبيعي مدارسُ فنية تصبغُه بمبادئ العلوم، فهو طبيعي بولادته الطبيعية، وخارج عن العلوم الفلسفية. وهو مصنوعٌ بقوة خارقة، البعض سمَّاها الله، والبعض الآخر سمَّاها القوى الطبيعية. ونحن نرى أنه، أيًّا كان الأمرُ، فإنَّ جمال الطبيعة قائمٌ بقوة خارقة الطبيعة، تذوَّقها الإنسان من خلال رؤيته الإنسانية المستمرة لها. هذه القوة حتمًا هي الله، هي علَّة العِلل كما سمّاها المعلِّم الأول، الفيلسوف أرسطو(4). ونرى أن الجمال الطبيعي هبة من هبات الله لمخلوقاته، لأنَّ الشيء الجميل يشعُّ حياة، والحياة هي هبة الله لمخلوقاته. ومن الجمال الطبيعي استمدَّ الإنسان لوحته الفنية، فرسم الجبال والوديان والأشجار. ومن خرير الماء وحفيف وورق الأشجار وصفير الهواء، استمدَّ الإنسان موسيقاه، فحوَّل هذه الأصوات مَعزوفاتٍ موسيقيَّة. وتأمل الإنسان بالجمال الطبيعي، ما ولَّد فيه أحاسيس أدبية، فراح يكتب أحاسيسه شعرًا، أبدع فيها وصفًا لجمال الكون وخالقه، مُستخدمًا في عمله هذا عقلَه وروحَه وقيمَه الأخلاقية، فأخرجها من عمق أعماق روحه ليحوَّلها جمالاً إبداعيًّا.

الجمالُ مصدرُ سعادة الإنسان الحقيقيَّة

إن الاحساس بالجمال الطبيعي والإبداعي هو نتيجة خبرة شعورية إيجابية. فإذا بحث الإنسان عن هذا الجمال وتذوَّقه، سيجد تأثيره على نفسه وشخصيته. فالجمال يُرَقِّي الإنسانَ بالأحاسيس ويهذِّبُ نفسَه، ويبعثُ فيه الراحة والطمأنينة. كما يخفِّفُ من وطأة توتُّره، ويجعل منه إنسانًا متفائلاً. إن الجمال مصدر السعادة الحقيقية للإنسان لِما ينطوي عليه من مفاهيم أخلاقية تتَّصل جميعها بالصدق والخير والحب... وغيرها من السلوكيات الإنسانية الحميدة. والسعادة هي شعور بالبهجة والاستمتاع، شعور بالشيء أو الإحساس به، هذا الشيء يتعدى، بل يسمو على مجرَّد الخوض في تجربة تعكس ذلك الشعور على الشخص. وهي حالة تجعل الإنسان يحكم على حياته بأنها جميلة خالية من الضغوط والآلام.

***

بقلم الدكتور جوزيف إلياس كحَّالة

...................

الحواشي:

1ـ صليبا جميل، المعجم الفلسفي، ج1، ص 407 وما بعد/المعجم الفلسفي، ص 62/وهبة مراد، المعجم الفلسفي، ص 248.

2ـ صليبا جميل، المعجم الفلسفي، ج2، ص 185-186.

3ـ المعجم الفلسفي، ص 146.

4ـ أرسطو فيلسوف يوناني، عاشَ ما بين العامَين 384 و322 ق.م. وتتلمذ على الفيلسوف أفلاطون، لكنَّه سبق معلِّمَه في العلوم والمعرفة، ولُقِّب بالمعلِّم الأوَّل. تتلمذ عليه الإسكندر المقدوني الكبير. وضعَ عددًا كبيرًا من المؤلَّفات في الفلسفة والرياضيَّات والشِّعر وعلم البيولوجيا وغيرها من العلوم، وعُرفَت تلك المؤلَّفات بالمجموعة الأرسطوطاليَّة.

في المثقف اليوم