أقلام فكرية

السؤال الأخلاقي الأول (3-3)

يعتقد كانط عند تناول مسألة ما إذا كان يمكن الوصول الى الخير الأسمى أنه من الضروري التخلص من الإجابات التي توحد بين الفضيلة والسعادة بطريقة تحليلية. يرى كانط أن المدارس الفلسفية الرواقية والأبيقورية بذلت جهودًا قوية في هذا الاتجاه.[1] فقد عرف الرواقيون السعادة بأنها الشعور بالرفاهية المصاحب لأداء الأعمال الفاضلة. وأكدوا أن الشخص المستقيم أخلاقيًا سعيد دائما لأن الفضيلة هي مكافأته. في المقابل، يُحرم الأشخاص الأشرار من الرضا الحقيقي ولن يكونوا سعداء أبدًا. وأسست، ايضا، فلسفة أبيقور ارتباطًا ضروريًا بين الفضيلة والسعادة. يؤكد كانط أن أبيقور غالبًا ما يُفسَّر خطأً على أنه متعصب فظ. صحيح أن أبيقور كان يعتقد أن على المرء أن يسعى وراء المتعة قبل كل شيء، لكنه كان يعتقد أيضًا أن أكثر الرضا أصالة وصقلًا هو ذلك المصاحب للسلوك الفاضل. وهكذا، في حين أنه قد يكون هو ومدرسته متجنيين بقلب الدوافع التي يجب أن توجه الحياة الأخلاقية، إلا أنهم مع ذلك يشاركون مع الرواقيين في الأحترام الكبير للأخلاق، ويعتقدون، مثلهم، أن الفضيلة هي مكافأة لها.

إذا قُبلت أي من هذه الآراء فسيُضمن إمكانية الوصول الى الخير الأسمى. لذلك، لن يكون أي شخص شرير سعيدًا حقًا وكل أولئك الفاضلين سيكونون سعداء تمامًا على الرغم من معاناتهم الظاهرة في بعض الأحيان. لكن يرفض كانط قبول هذه الحلول لمشكلة الخير الأسمى، لأن تخلط كل حجة من هذا القبيل بين السعادة وما يسميه " الرضا الذاتي".[2] هذا الأخير هو الشعور بالموافقة الذاتية والرضا الذي يصاحب الطاعة لأوامر الواجب. إنه شعور مهم في حد ذاته، لكنه ليس السعادة أو تلك الحالة التي يسير فيها كل شيء وفقًا لرغبة الفرد وإرادته. ويؤكد كانط أن السعادة هي التي تتحد مع الفضيلة في فكرة الخير الأسمى وليس الرضا الذاتي.

إذا عدنا للحظات إلى مناقشتنا السابقة للسؤال "لماذا يجب أن أكون أخلاقيًا؟" أعتقد أنه يمكننا رؤية صحة وجهة نظر كانط في هذه المرحلة. قد يبدو صحيحا وهو كذلك لأول وهلة وبلاشك في أن عقل كل فرد، في عمله غير المتحيز، يجب أن يسجل الموافقة عندما يخضع ذلك الفرد سعادته لطاعة للقواعد الأخلاقية. لأنه ليس وظيفة العقل المحايد تحديد هذه القواعد والأمر بطاعتها فقط، ولكن للتعبير عن الثناء لكل هؤلاء الأفراد (بما في ذلك الذات) الذين يفعلون عن طيب خاطر ما تتطلبه القواعد أيضًا. ولكن على الرغم من صحة هذا، وبقدر ما قد تبدو موافقة الفرد العقلاني، فإن الرفاهية التي تولدها هذه الموافقة لا يمكن قبولها كإجابة عن السؤال "لماذا يجب أن أكون أخلاقيًا؟" لأن هذه الموافقة مستمدة من العقل المحايد نفسه الذي يأمر الفرد بالتضحية بسعادته في المقام الأول. وإذا نظرنا إليها في ضوء عمليات العقل الكاملة، فإن هذه الموافقة والرضا الذي تولده هي غير جديرة بالثقة وإجابة غير مرضية لسؤال العقل. ما يريد الفرد معرفته ليس ما ما إذا كان العقل المحايد يوافق على ما يوافق عليه، ولكن أن سعادته، وقدرته على إشباع رغباته حقًا، لن تُحبط في النهاية بسبب الطاعة الأخلاقية. أعتقد أن هذا هو سبب رفض كانط قبول نوع الحل التحليلي لمشكلة الخير الأسمى الذي تمثله هذه الإجابات. ويلاحظ كانط في مرحلة ما من كتاباته أن "لا يوجد فرع من المعرفة يزخر كثيرًا في قضايا حشوية مثل الأخلاق، وتُقدم كإجابة للسؤال"،[3] فتفسر لنا هذه الملاحظة سبب رفضه هذه الإجابات.

يمكن أن نضيف بالمنطق نفسه أن حجة الحرية التي استخدمها كانط في اسس الأخلاق كإجابة على السؤال "لماذا يجب أن أكون أخلاقيًا؟" غير مقنعة ايضًا كما عرضها راولز في نظرية عن العدالة ردًا على سؤال مشابه.[4] تؤكد هذه الحجة على أن كون المرء أخلاقيًا يعني أن أفعاله غير حتمية وغير محكومة برغباته أو تحددها ميوله. واذا كان ذلك كذلك فاذن هو حر في أفعاله، وبما أن كل شخص يرغب بطبيعته في أن يكون حراً، فإن الحرية التي نختبرها في الأخلاق هي سبب لكون المرء أخلاقياً. لكن إذا نظرنا عن كثب، فإن هذه الحجة لا تصمد بطبيعة الحال. صحيح أن جميع الفاعلين العقلانيين يرغبون في أن يكونوا أحرارًا بالمعنى العام لهذا المصطلح. وصحيح أيضًا أن الحرية تعني التحرر من حكم أو ضرورة الاندفاع بالرغبة جزئيًا. لكن الحرية التي يريدها جميع الأفراد العقلانيين هي قبل كل شيء حرية السعي لتحقيق أقصى قدر من الإشباع لرغباتهم. تتطلب الحرية أن يتخلص المرء من حكم الضرورة والأندفاع بالغريزة لأن الحرية هي التي تمكنه من من الارتقاء فوق نزوة أو اندفاع اللحظة للسعي وراء غاياته الأكثر ديمومة وإرضاءً.[5] عندما يتم استخدام هذه الدلالات والفروق الدقيقة في الحرية لتبرير الحرية الأخلاقية، يتغير السياق الكامل لاستخدامها. لأن التحرر من الرغبة هنا ليست التحرر من واحد أو آخر من رغباتي الأكثر اندفاعًا بل هو تحرر ربما من كل رغباتي، أي من سعادتي. الحرية التي أتيحت لي ليست حرية إشباع بل تحرر من الرضا، "حرية مثل لموت".[6] وهكذا، على الرغم من جاذبيتها الأً أنها خادعة.

ليس من الصعب بالطبع فهم سبب ارتكاب هذا النوع من الاحتيال. نظرًا لأن عقلنا الأخلاقي المحايد هو توظيف جانب من عقلنا الاحترازي التدبيري (التداولي)، فإنه يستخدم جميع أساليب ومفاهيم هذا العقل بشكل طبيعي. ومع ذلك، أن وجهة نظري أنه عندما يقوم العقل الاحترازي التدبيري بمعاينة موقفه بموضوعية فقط، فإنه لا يمكن أن يتأثر بمداهنات العقل الأخلاقي. فلا تثبت موافقة العقل الأخلاقي ولا وعده بالحرية أنه مُرضٍ حقًا أو يدفع العقل الاحترازي التدبيري للتخلي عن ادعائه. لذا فإن كانط محق بالتأكيد في قوله إنها ليست فضيلة ولا نحتاج أيًا من مكوناتها الموصوفة تحليليًا لإثبات الإمكانية الحقيقية للخير الأسمى، بل السعادة هي بالاقتران مع الفضيلة. وهذه السعادة يجب أن تنبع من الفضيلة ليس منطقيًا/ تحليليًا ولكن واقعيًا ودائمًا كأساس لما يترتب على ذلك من نتيجة. يجب إظهار ارتباطها بالفضيلة دائمًا في التجربة الفعلية للفاعلين الأخلاقيين.

أصبحت معضلة الطاعة الأخلاقية كما يبدو أن كانط قد شيدها بالكامل الآن. كنت مقتنعًا في وقت سابق بالتعارض الظاهري بين العقل الأخلاقي والعقل الاحترازي التدبير، لكن كانط ألغى تلك المعارضة عن طريق مفهوم، الخير الأسمى الذي عليه إثبات إنجازه المحتمل واقعيًا الآن. لكن للوصول إلى هذه الصيغة للقضية، يبدو أن كانط لم يتقدم أكثر مما فعلناه سابقًا. لأنه في ضوء تجربتنا، يبدو أن العقل على خلاف مع نفسه تمامًا كما كان من قبل. يعبر كانط بطريقة معارضة فيما يسميه "التناقض" للعقل العملي الخالص عن المعضلة في شكلها النهائي. هناك، ووفقًا له، احتمالان للارتباط الواقعي والتجريبي بين الفضيلة والسعادة؛ إما أن تكون الرغبة في السعادة هي الدافع لقواعد الفضيلة، أو أن مبدأ الفضيلة يجب أن يكون السبب الأساس للسعادة. الأول مستحيل تمامًا، لأن القواعد التي تضع أساس الإرادة في الرغبة في السعادة ليست أخلاقية على الإطلاق ويمكن أن تكون أساسًا لعدم وجود فضيلة.

والثاني، مع ذلك، مستحيل أيضًا لأن لا تعتمد كل علاقة عملية بين الأسباب والنتائج في العالم لتحديد الإرادة على النوايا الأخلاقية للإرادة ولكن على معرفة القوانين الطبيعية والقدرة الجسدية في استخدامها لأغراضها؛ وبناءً عليه، لا يمكن توقع أي ارتباط ضروري وكافٍ للخير الأسمى، بين السعادة والفضيلة في العالم من خلال مراعاة القانون الأخلاقي. بما أن تعزيز الخير الأسمى، الذي يحتوي على هذا الارتباط في مفهومه هو، الآن، هدف ضروري لإرادتنا ومرتبط بشكل لا ينفصم مع القانون الأخلاقي، فإن -اي قول- استحالة الخيرالأسمى يجب أن تثبت زيف القانون الأخلاقي أيضًا. ثم إذا كان الخير الأسمى مستحيلًا وفقًا للقواعد العملية، فإن القانون الأخلاقي الذي يأمر بتعزيزه يجب أن يكون خياليًا، وموجهًا إلى غايات خيالية فارغة، وبالتالي خاطئًا بطبيعته،[7]

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

....................

[1] Kant, Critique of Pure Reason, p.111.

[2] Kant, Critique of Pure Reason, p.88.

[3]  Kant, Lecturer on Ethics, tr. Louis Infield, New York:

Harper & Row, 1963, p. 31

[4]  Kant, Foundations, pp. 74, 77.

[5] ما يسميه كانط الحرية "السلبية" لتمييزها عن الحرية "الإيجابية" أو التحديد عن طريق العقل الأخلاقي الخالص

Kant, The Metaphysical Elements of Justice, Part I of "Meta physics of Morals," tr. John Ladd (Indianapolis: Bobbs-Merrill, 1965 , p.13.

[6] عبارة سارتر المشهور في رواية الغثيان، ترجمة يوسف ادريس

[7] Kant, Critique of Practical Reason, tr. Lewis White Beck (Indianapolis: Bobbs-Merrill, 1956) p.113.

في المثقف اليوم