أقلام فكرية

الفلسفة السياسية.. لماذا يحتاج السياسيون الى رؤية فلسفية؟

تدرس العلوم السياسية الحكومات بجميع أشكالها ومظاهرها، النظرية منها والعملية. هذه العلوم كانت في وقت ما فرعا من الفلسفة، وحاليا تُعتبر كعلم اجتماعي. معظم الجامعات العريقة لديها مدارس منفصلة وأقسام ومراكز بحوث مخصصة لدراسة الموضوعات الأساسية للعلوم السياسية. ان تاريخ الحقل وُجد منذ ظهور الانسانية، جذوره في التفكير الغربي عادة تتجسد في أعمال افلاطون (في الجمهورية) وارسطو (في السياسة).

فروع العلوم السياسية

للعلوم السياسية عدد كبير من الفروع. البعض منها نظري، بما فيها الفلسفة السياسية، الاقتصاد السياسي، او تاريخ الحكومة، بينما فروع اخرى ذات سمات مختلطة، مثل حقوق الانسان، السياسات المقارنة، الادارة العامة، الاتصالات السياسية، وعمليات الصراع. اخيرا، بعض الفروع تنخرط بكثافة في تطبيق العلوم السياسية، مثل التعليم على اساس الجالية، السياسة الحضرية، سياسات الرؤساء والمدراء التنفيذيين. ان أي شهادة جامعية في العلوم السياسية تتطلب توازنا في الكورسات المتصلة بتلك الموضوعات، لكن النجاح الذي حظيت به العلوم السياسية في التاريخ الحديث للتعليم العالي هو ايضا نتيجة لطبيعتها المتعددة الحقول.

الفلسفة السياسية

ماهو التنظيم السياسي الأكثر ملائمة لمجتمع معين؟ هل هناك شكل مثالي للحكومة تميل نحوه كل المجتمعات الانسانية ، واذا كان هناك شكل فما هو؟ ما هي المبادئ التي تحفز القائد السياسي؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت منطلق التفكير في الفلسفة السياسية. طبقا للرؤية الفلسفية اليونانية القديمة، كان الهدف الفلسفي النهائي هو السعي الى هيكل اكثر ملائمة للدولة. يرى افلاطون وارسطو، ان الفرد يجد الخير الحقيقي فقط في المجتمع المنظم سياسيا وبشكل جيد. بالنسبة لإفلاطون، الشكل الأفضل للدولة هو ان تعمل بشكل مطابق لروح الانسان.

نظرية افلاطون في الدولة المثالية

بعد ان طور افلاطون وصفا عاما لهيكل المجتمع المثالي اكّد بان الوظائف الملائمة التي تقوم بها مختلف الطبقات، والتي تعمل مجتمعة نحو الخير العام، توفر توضيحا ملائما للحاجة لتطوير فضائل او نوعيات اجتماعية هامة. هذه الفضائل هي:

1- بما ان الحكام مسؤولون عن اتخاذ قرارات لحكم كامل المدينة، هم يجب ان تكون لديهم فضيلة الحكمة والقدرة على فهم الواقع وعمل أحكام صائبة.

2- الجنود مسؤولون عن الدفاع عن المدينة ضد الهجمات الخارجية والأعداء في الداخل،  وهم يحتاجون الى فضيلة الشجاعة والرغبة في تنفيذ واجباتهم تجاه الأخطار دون اعتبار للمخاطر الفردية.

3- يجب ان يخضع باقي الناس في المدينة لقادتهم بدلا من السير وراء مصالحهم الخاصة، لذا يجب ان يعكسوا فضيلة الإعتدال وخضوع رغباتهم الفردية الى أهداف عليا.

عندما تؤدي أي من هذه الطبقات دورها بشكل ملائم ولا تستحوذ على وظائف الطبقات الاخرى فان كامل المدينة حسب افلاطون ستعمل بانسيابية وانسجام كاملين وهذه هي العدالة الحقيقية (الجمهورية 433E).

لهذا نستطيع فهم جميع الفضائل عبر النظر الى الكيفية التي تتجسد بها في تنظيم المدينة المثالية:

الحكام – قرارات حكيمة

الجنود – أفعال شجاعة

الفلاحون والتجار والناس الآخرون – قرارات معتدلة

العدالة ذاتها ليست مسؤولية حصرية لأي من طبقات المواطنين وانما هي تبرز من العلاقات المترابطة المنسجمة لكل مكوّن من المجتمع مع المكونات الاخرى. سنرى الآن كيف ان افلاطون طبّق هذا التصور للفضائل على حياة الانسان الفرد.

الفضائل في الروح الانسانية

لنتذكر ان الخطة الاساسية للجمهورية هي رسم تشابه منهجي بين عملية المجتمع ككل وحياة اي انسان فيه كفرد. لذا فان افلاطون افترض ان الناس يعرضون نفس الخصائص، ويؤدون نفس الوظائف، ويجسدون نفس الفضائل التي تؤديها الدولة. تطبيق التشابه بهذه الطريقة يفترض ان اي واحد في المجتمع هو، كالدولة،  كلّ معقد صُنع من عدة أجزاء متميزة، كل جزء له دوره الخاص. لكن افلاطون جادل بان هناك ما يكفي من الدليل حول هذا في حياتنا اليومية. عندما تواجهنا عدة خيارات حول ما يجب ان نعمل،  نشعر ان الرغبات المتضادة تسحبنا في اتجاهات مختلفة، وان التوضيح الطبيعي لهذه الظاهرة هو ان نميز بين عناصر مختلفة في ذواتنا (الجمهورية 436B).

وهكذا يحصل التشابه. الى جانب الجسم المادي الذي يتطابق مع الارض والأبنية والمصادر المادية الاخرى،  يؤكد افلاطون ان كل انسان ينطوي على ثلاث أرواح تتطابق مع ثلاث طبقات من المواطنين داخل الدولة، كل واحدة من تلك لأرواح تساهم بطريقتها الخاصة في نجاح الفرد ككل.

1- الروح العاقلة (الذهن او التفكير) هي الجزء المفكر في كل واحد منّا،  وهو الذي يميز الحقيقي من المظهر، يحكم على ما هو حقيقي وما هو زائف، ويتخذ قرارات حكيمة يمكن بموجبها ان تُعاش الحياة الانسانية بشكل أكثر ملائمة.

2- الروح الروحانية (الرغبة او الخيار الواعي)، هي الجزء النشط، ووظيفته تنفيذ أوامر العقل في الحياة العملية، والتنفيذ الشجاع لكل ما يراه الفكر هو الأفضل.

3- واخيرا، الروح الشهوية (العواطف او النزوات) هي ذلك الجزء الموجود فينا والذي يرغب ويشعر بعدة أشياء، معظمها يؤجل في مواجهة السعي العقلاني اذا اريد لنا انجاز مقدار جيد من الانضباط الذاتي.

وفق رؤية افلاطون ان الانسان يُقال عادل عندما تؤدي أجزاء الروح الثلاثة فيه وظائفها الصحيحة بانسجام مع بعضها لأجل خير الانسان ككل.

الروح العاقلة (التفكير)  = الحكمة

الروح الروحانية (الارادة) = الشجاعة

الروح الشهوية (الشعور) = الاعتدال

في نهاية الجزء الرابع، يحاول افلاطون توضيح ان عدالة الفرد هي مرآة للعدالة السياسية، حيث ان الروح لدى كل فرد تتكون من ثلاثة أجزاء تتقابل مع ثلاث طبقات في المجتمع. هناك الجزء العقلي من الروح الذي يبحث عن الحقيقة وهو مسؤول عن ميولنا الفلسفية. وهناك الجزء الروحاني والذي يرغب بالشرف وهو مسؤول عن شعورنا بالغضب والاستياء. وهناك الجزء الشهواني والذي يرغب بجميع انواع الاشياء، وفي مقدمتها النقود لأنها تُستعمل لإشباع جميع الرغبات الاساسية. ان الفرد العادل يمكن تعريفه بشكل مماثل للمجتمع العادل، الأجزاء الثلاثة من روحه تنجز علاقات القوة والنفوذ الضرورية لكل جزء. في الفرد العادل، يكون الجزء العقلاني من الروح هو الذي يحكم، اما الجزء الروحاني من الروح يساعد هذا الجزء الحاكم،  واخيرا الجزء الشهواني فهو يخضع ويتبع ما تمليه قيادة العقل. بتعبير آخر في الفرد العادل تهدف كامل الروح الى انجاز رغبات الجزء العقلي مثلما في المجتمع العادل تهدف كامل الجماعة الى انجاز رغبات الحاكم.

التوازي بين المجتمع العادل والفرد العادل يذهب اكثر عمقا عندما تخضع كل واحدة من الطبقات الثلاث في المجتمع لسيطرة أحد الأجزاء الثلاثة من الروح. المنتجون يخضعون لسيطرة شهواتهم تجاه النقود والمتعة والكماليات. المحاربون يخضعون لسيطرة أرواحهم التي تجعلهم شجعانا. الحكام تسيطر عليهم ملكاتهم العقلية ويكافحون لأجل الحكمة. الفلاسفة يشكلون الطبقة الوحيدة من الناس الذين يحوزون على المعرفة وهم الأكثر عدالة. روحهم تسعى، اكثر من غيرهم لإنجاز رغبات الجزء العقلي. يستمر افلاطون في الجدال بانه مع ان كل من الأنواع الرئيسية الثلاثة (حب النقود، وحب الشرف، وحب الحقيقة) لهم تصوراتهم للمتعة والحياة الخيرة، لكن الفيلسوف وحده يستطيع الحكم لأنه مارس جميع الأنواع الثلاثة من الخير.

ارسطو كان اكثر من افلاطون في التأكيد على الاعتمادية المتبادلة بين الفرد والدولة. انها تتجسد في تركيبنا البايولوجي للانخراط في عيش اجتماعي. نحن نستطيع بلوغ ادراك تام لأنفسنا كبشر فقط ضمن مجتمع مُدار جيدا. الناس هم "حيوانات سياسية".

معظم الفلاسفة الغربيين والقادة السياسيين اتخذوا من افلاطون وارسطو كنموذج لهم لصياغة رؤاهم وافكارهم السياسية. من بين الأمثلة الأكثر شهرة هو التجريبي البريطاني توماس هوبز (1588-1679) و ميكافيلي (1469-1527) وغيرهم كثيرون.

***

حاتم حميد محسن

....................

المصادر:

1- Plato: The state and the soul, philosophy pages, Britannica

2- The Republic Plato, sparkNote, sparknotes philosophy study guides

3- Political science.ThoughtC.Nov, 5, 2019.

 

في المثقف اليوم