أقلام فكرية

السؤال الثيولوجي والتواضع في معرفة الله

يميل الفلاسفة عادة للتفكير حول ما يمكن معرفته. ومن المهم ايضا النظر في عكس ذلك، اي، بما لا يمكن معرفته – حول ما اذا كانت هناك حقائق معينة وراء حدود فهمنا البشري. نحن نتحدث هنا عن "معرفة المجهول"، أي، أشياء نحن نعرف اننا لا نعرفها، او اننا ببساطة لا نستطيع معرفتها. المسائل الفلسفية تتباين، من معرفة طبيعة الأشياء كما هي او "الاشياء بذاتها" بدلا من مجرد ظهورها، الى معرفة طبيعة الذهن وعلاقته بالجسم، وحتى الطبيعة ووجود الله.

نحن هنا ننظر بالسؤال الثيولوجي، وكيف يمكن رؤية الموقف من الله من خلال التواضع والاعتراف بمحدودية المرء. هل الرؤية تبيّن تواضعا كبيرا للقبول باننا لا نستطيع معرفة وجود الله والطبيعة؟ ام ان التواضع الكبير يحصل من خلال الاعتراف بان للوجود معنى اكثر من المعنى لدينا كبشر، وهناك ربما يوجد كائن كبير جدا يتجاوز حياتنا الأرضية؟ يجب ان نتذكر اولاً بان التواضع كقيمة، ليس جيدا بلا قيد او شرط. يجب ان نكون حذرين في الكيفية التي يُسوّق ويُباع بها التواضع لنا، وكيف يمكن ان يكون سلاحا لغايات خبيثة من جانب اولئك الذين في السلطة. فمثلا، ترسيخ قيم التواضع والتضحية الذاتية يمكن ان يخلق الاحترام والطاعة امام القيادات الدكتاتورية. لكن فيما يتعلق بادعاءات المعرفة، فان التواضع له منفعة كبيرة، كونه يساعدنا في التفكير الهادف والدقيق في أي الأفكار يمكن إعتبارها آمنة، وبالتالي يعطينا معنى أفضل لما نعرف، منْ نحن، وما هو مكاننا في العالم.

إمكانية التواضع الثيولوجي

القديس انسلم (1093-1109) أكد على عدم القدرة على وصف الله، أي، بمعنى ان طبيعة الله لا يمكن إبلاغها بما يكفي. لكن هذا يقودنا الى مشكلة. بالتأكيد، اذا كان الله لا يمكن تصوره بالضبط، فهل هناك معنى للحديث عن الله؟ تاريخيا، الثيولوجيون ادّعوا مختلف انواع الاشياء حول الله، أي، انه جوهر ومتجاوز وقاهر وخالد وغير ذلك. ولكن اذا كان الله يفوق الوصف، او تعجز الكلمات عن وصفه عندئذ هذا لابد ان يتضمن ان الشيء الذي يجري وصفه لا يمكن فهمه بالكلمات التي تصفه؟ اذا كان الله غير قابل للوصف، هذا يعني، اننا على الأقل لا نستطيع التحدث عنه بشكل دقيق. هذا يعني ان الله يمكن فقط التحدث عنه مجازيا او من خلال المقارنة، وهذا يجسد محدودية ممكنة في الكيفية التي تتمكن بها اللغة من فهم جوهر الإله في ذاته.

الثيولوجي المسيحي المعاصر سيمون كف simon cuff يجادل بان الحديث عن الله يصبح ضبابيا ومتناقضا عند عدم الاعتراف بصفة الله الأساسية وهي "البساطة". الله يُفترض ان لا يشبه الأشياء التي نصادفها في الخلق والتي تتكون من أجزاء. الله ببساطة واحد. وبدلا من استكشاف كل صفة للاله انفراديا، او محاولة معرفة كيف تتعايش الصفات مع بعضها في كائن واحد، يرى كف في كتابه (فقط الله ينقذنا،2020) اننا يجب ان نتذكر شمولية الله، واننا عندما نتكلم عن صفات الله فهذه فقط مقارنات. صفات الرحمة، اليقظة، الغضب،المعاناة، التسامح، مثلا، متحدة في الله بدون تناقض، حتى عندما تكون فينا منفصلة ومختلفة. هذه الرؤية ليست بدون دعم من ثيولوجيين مثل توما الاكويني (1225-1274) الذي جادل باننا نفترض ان الصفة المنسوبة لله هي نفس تلك المنسوبة للانسان، هذ مفهوم وثني لله. لذا فان احدى طرق ممارسة التواضع الابستيمولوجي هي ان نفهم ان الله لايمكن التحدث عنه بنفس السهولة اللغوية المستخدمة في المسائل الأرضية، او حتى امكانية تصوّره بشكل تام. بعمل كهذا نحن نعترف بمحدوديتنا الانسانية. وهناك بُعد ثيولوجي آخر للتواضع يكشف انه اذا كان الله موجودا عندئذ فان الانسان لن يكون أعظم مخلوق. هذا "التواضع الميتافيزيقي" او تواضع الفرد امام الله، ينطوي على الاعتراف باننا عند المقارنة مع خالق الكون نحن لسنا اكثر من مجرد غبار او رماد . هذا النوع من التواضع ينعكس بما يضعه العديد من المسيحيين من صليب على جباههم: "تذكّر انك تراب وانك الى التراب ستعود". لممارسة التواضع الثيولوجي هو ان تمارس الوداعة امام القوة الاسطورية لله. هذا ينعكس في الطقوس الشائعة للصلاة حيث تشابك الايدي والركوع والسجود كله يجسد فعل الاحترام في حضرة الله.

أحد القيود في الادّعاء بان الايمان بالله قد ينطوي على تواضع هو ادّعاء المؤمن بان الانسان صُنع في صورة الله. لماذا نحن جرى اختيارنا ؟ لماذا خلق الله الانسان على صورته بدلا من أي مخلوق آخر؟ الفيلسوف اليوناني القديم اكسيفونس xenophanes يتأمل في هذه الفكرة الأخيرة ساخرا: "اذا كانت لدى الأبقار والخيول او الاسود ايدي وبوسعها الرسم، لكانت الخيول رسمت أشكال الاله على شكل خيول، ولرسمت الابقار شكل الاله مثل الابقار،جاعلة أجسامها مشابهة تماما لشكلها هي". لكي نتحدى موقف المؤمن يمكننا السؤال، هل حقا الانسانية  خُلقت في صورة الله بدلا من العكس؟

تواضع اللاادرية

بينما يبدو هناك عناصر لموقف المؤمن  تبرر نوعا من التواضع، خاصة في المعنى الميتافيزيقي، هناك ايضا يبدو بعض التصادم بين التزام المؤمن بالله وبين قيمة التواضع. التواضع يستلزم اولا الاعتراف بحدود المرء – يقبل على سبيل المثال القول انه سريع الغضب، ليس جيدا في الحديث امام العامة، او لديه ذوق سيء في تلفزيون الصباح. غير ان المؤمن الذي يدّعي مؤكدا ان هناك اله. تبرز هنا قضية ابستيمولوجية في اظهار كيف يمكن للمرء معرفة ان هناك اله، وكيف انه كشف عقائد معينة لمؤمنيه. يرى البعض ان، اللاادرية هي الجواب الاكثر ملائمة وتواضعا، لهذا، تؤكد ان لا احد يعرف. المؤمن يعتقد بينما اللاادري اكثر ترددا ويأخذ جانب الحذر والشك. من وجهة نظر التواضع، اللاادري هو في موقف آمن: المؤمن يدّعي حيازة المعرفة بينما اللادري يعترف فقط بجهله. من الصعب الدفاع عن الادّعاء بالمعرفة بدلا من عدم المعرفة، ولذا فان ادّعاء المؤمن يبدو غير منسجم مع التواضع.

بالطبع، ليس من الضروري ان يهرب الملحد بسهولة، خاصة الملحد القوي او المعتدل الذي يدّعي اليقين او القريب من اليقين حول عدم وجود الله. بالنهاية، هومثل المؤمن،ادّعائه هو ادّعاء بالمعرفة. هذا الادّعاء الذي يمكن في أوقات معينة ان يعكس، ايمانا عميقا لاجدال فيه في عقل الانسان جرى استطلاعه بكثافة من جانب جون غراي John Gray (1942)، الذي جادل ضد غطرسة بعض أشكال التفاؤل الانساني. غراي يسلط الضوء على العقيدة الراسخة الموجودة في عدة أديان ولكن ايضا في الانسانوية  humanism بان البشرية قادرة او ستكون قادرة على السيطرة على مصيرها. يبدو ان لا احتمال للانسانية انها سوف تغير نفسها علميا، وبهذا تعيد بناء مصيرها. غير ان هذا سوف لن يكون طريقة في اتّباع خطة عقلانية دقيقة ومقصودة وانما عبر تغيير متقطع لقوى مختلفة تتصارع للهيمنة بما فيها عوامل سياسية وثقافية واقتصادية. العديد من المفكرين الدينيين البارزين، هم كما الانسانويين، يضعون الانسانية فوق الحيوانات الاخرى، كنوع يستطيع السيطرة على قدره. ولكن في النهاية، نحن كنوع، قد نُوضع جانبا بفعل عودة القوى الطبيعية تماما مثل أي من الانواع الاخرى. ماريا مدغلي Mary Midgley (1919-2018) تفكر في استعمال العقل ومحدودياته الممكنة عندما  تؤكد انها تهم منْ يطرح الأسئلة. هي تؤكد على ان الفلسفة تتم بواسطة كائنات متطورة اجتماعيا ذات تاريخ تطوري، ارتبطت بكوكبنا وليس بواسطة التفكير المجرد او المكائن. هذا يعني ان العقل ليس المطلق الثابت الذي عادة يجري الايمان به، وانما هو يحاك ويُنقى بواسطة منظورنا الانساني وعواطفنا. وهكذا، طبقا للكاتبة، الفرد العقلاني ليس فقط شخصا ذكيا، بل هو شخص نظّم أفكاره في شيء ككُل منسجم في عالمنا القليل الأناقة والصراحة.

لا نحاول ان نكون اله

قصة برج بابل في سفر التكوين توفر تأملا مبكرا حول الحاجة للتواضع. العرق الانساني المتّحد ينتهي في ارض شينار في السنوات التي أعقبت الطوفان العظيم. الناس مجتمعون قرروا بناء مدينة ذات برج شاهق يكفي للوصول للسماء. الله أربك الخطة بإحداث التباس في لغة العمال بحيث لم يعودوا يفهمون بعضهم، وان الناس في المدينة تفرقوا حول العالم. تسمية المدينة بـ "بابل" جاءت من فعل balal في التوراة، يعني الالتباس او الخلط.

مهندسو برج بابل عوقبوا لمحاولتهم الوصول الى مكانة ليست لهم في كونهم متساوون مع الله. القصة تحثنا لنتذكر مكاننا، ولا نذهب وراء مكانتنا الانطولوجية. شيء موازي لذلك يمكن طرحه في الطموح المفرط في قصة بابل وإعلان اللاشك في ادّعائاتنا بالمعرفة حول وجود الله او عدم وجوده.

في محاولتنا تبنّي الحقائق حول طبيعة الله وما يريد الله ويرغب، نحن نطرح ادّعاءات حول شيء من المفارقة ان كائن يشبه الله هو وحده يستطيع معرفته. نحن يمكن ان نسمي هذه "مفارقة معرفة الله". وحسب تعبير كانط، نحن نستطيع معرفة الله كفكرة او مفهوم يظهر لنا لكننا لا نستطيع معرفة جوهر الله ذاته.

قصة بابل تُظهر محاولات الانسان لتجاوز مكانته الانطولوجية. نحن نسعى الى تجاوز مشابه في ادّعاء المعرفة بوجود الله او عدم وجوده. نحن نحاول تجاوز حدودنا الابستيمولوجية في السؤال الميتافيزيقي الكبير جدا، والذي في الحقيقة لايمكن الاجابة عليه. هذا ربما يشكل برج بابل لنا مع الكثير من الصبغة الابستمية له وهذا السمو في مكانتنا يمكن ان يوجد في كل من الايمان والالحاد.

الجواب الجيد لهذا هو القبول بالانغلاق المعرفي بشأن الادّعاءات حول الله: نقبل ان ذهننا الانساني غير قادر هيكليا على حل المشكلة. هذا لا يعني ان الحديث عن الله بلا معنى وانما ان الثيولوجي عليه ان يقيل نفسه ليحصل على شكل ديني للحياة بدلا من ادّعاء شكل جريء من المطابقة للحقيقة حول القضية.

هذا ايضا له مضامين عن افكار الله التي يشكلها المؤمنون. عبادة الاصنام تشير ضمنا الى تقديس شيء ما غير الله واعتباره كما لو كان اله. البروتستانت في القرن السادس عشر كانو دائما قلقين من الاصنام، هي كانت تصرف الانتباه عن النجم الحقيقي للعرض. لكن اذا كان الله موجودا حقا، عندئذ تكون فكرة كل مؤمن عن الله هي عبادة أصنام لأنها محدودة. ما نعنيه بهذا هو ان كل فكرة عن الله هي فقط فكرة. لنحصل على جوهر الله علينا ان نكون بمثابة الله. لذا لكي نمارس فضيلة التواضع الثيولوجي نحن يجب ان نقبل اننا نستطيع فقط ان نشكل مفهوما وثنيا عن الله. المسيحيون والمؤمنون الآخرون لا يستطيعون امتلاك كلا الطريقتين. هم اما يتخلصون من فضيلة التواضع ويدّعون ان مفهومهم عن الله ليس وثنيا، او انهم يحتفظون بالتواضع الابستمي  ويقبلون بأن أفكارهم عن الله هي فقط تمثلات غير تامة.

عندما تحاول جعل القطة واعية بشيء ما عبر الاشارة له باصبعك، هي عادة تهتم بالاصبع وليس بالشيء الذي يشير له الاصبع. بالنسبة لله، الناس يشبهون القطط: هم يلتصقون بالاصبع "فكرة عن الله" لايدركون انهم بذلك لا يستطيعون فهم الشيء الحقيقي، وهو الله ذاته. نحن نهتم بالتمثيلات عن الله التي نؤسسها، ومع ذلك نفشل في الاعتراف بانها مجرد واجهات لا تحتوي على أي محتوى مبرر مطلق بالطريقة التي يدّعي بها العديد من المؤمنين. نحن ببساطة لانحوز على القدرات لفهم الشيء في ذاته. لنكون واقعيين، الادّعاءات الحقيقية حول الله هي محاولة ان نكون الله.

عند الادّعاء بحزم ان "الله موجود" نحن نسعى وبجرأة للذهاب الى حيث لايستطيع الانسان الذهاب اليه: نحن نحاول تخطّي حدودنا الابستمية. عندما نقول ان الله موجود نحن نؤكد ان كائنا عليما مثل الله هو فقط يمكنه معرفة ذلك . لذا، اذا كان الله موجودا عندئذ الله فقط يستطيع معرفة ان الله موجود. وكما تخبرنا قصة برج بابل، نحن يجب ان نتوقف عن وضع أنفسنا وراء مكانتنا، في هذه الحالة ليس للخوف مما يفعله الله وانما للحفاظ على التواضع الابستمي وعدم الذهاب وراء ما يمكن ان يُعرف. لذا، فان الجواب على السؤال هل الله موجود؟ حسبما يذكر استاذ الفلسفة Benedict o Connell هو ان الله وحده يعرف ذلك.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم