أقلام فكرية

الوجودية كحركة انسانوية

في عام 1946 كتب سارتر كتابا صغير الحجم بعنوان (الوجودية هي انسانوية) Existentialism is a Humanism(1) طرح فيه الادّعاءات الرئيسية لوجوديته، ودافع عن هذه الادّعاءات امام الانتقادات الموجّهة ضدها.

يطرح سارتر اثنين من الادّعاءات الأساسية:

1- ان الله قد اختفى ولم يعد موجودا وهذا له انعكاس على الطريقة التي نعيش بها.

2- ان جميع الادّعاءات حول الانسانية والعالم يجب ان تبدأ بالتجربة الانسانية.

في ضوء هذين الادّعائين، يستنتج سارتر ان "الوجود يسبق الماهية او الجوهر". هو يعني بهذا ان الكائن البشري ليس له أي هدف سابق للوجود "ماهية" ليس من صنعه الخاص. لنستكشف هذين الادّعائين بتفصيل اكثر. اذا كنا نفكر بالاشياء المصنّعة يوميا – لنقل الكرسي نحن نستطيع ان نرى انه صُنع من خصائص معينة لكي يحقق هدفا معينا: كشيء نجلس عليه. صانع الكرسي، حتى قبل ان يذهب لصناعته، لديه سلفا في ذهنه صورة لما يريد للكرسي ان يكون عليها، وهي نوع الصفات التي يريدها للكرسي. هذه المجموعة المعينة من الصفات توجد في ذهن الصانع قبل ان يوجد الكرسي. سارتر يعتقد اننا عندما نقول ان الناس لديهم جوهر معين، نحن انما نضع افتراضا باننا، مثل الكرسي، صُنعنا طبقا لمجموعة معينة من الصفات لكي ننجز غرضا معينا. بكلمة اخرى،نحن نفترض اننا حتى قبل ان نولد فان ما نحن عليه او (جوهرنا) يوجد سلفا في ذهن صانعنا الماورائي والذي هو الله.

ولكن اذا كان الله مضى ولم يعد موجودا، فان هذا الافتراض لا يمكن ان يكون صحيحا. لذا، فان سارتر بما انه ملحد، سيقول ان الوجود يسبق الماهية . خلافا للكرسي، نحن لم نأت الى الوجود ومعنا صفات معينة لكي ننجز بعض الأهداف،وانما المسؤولية تقع كليا علينا كأفراد لوضع هدف لأنفسنا. في غياب الصانع الماورائي، نحن نصنع أنفسنا.

ولكن كيف، نتعامل مع أنفسنا بدون بصمة الصانع؟ بالنسبة لسارتر، الجواب على هذا السؤال هو ما يعرّف الوجودية كفلسفة للفعل. نحن نعيش من خلال حريتنا في الرغبة بالإختيار. هذا يقودنا الى الادّعاء الثاني الرئيسي لسارتر، بأن كل الادّعاءات حول الانسانية والعالم يجب ان تبدأ بالتجربة الانسانية.

 قبل هذا بثلاثة قرون استنتج ديكارت اننا اشياء مفكرة: "انا افكر اذاً انا موجود". بالنسبة لسارتر ذاتية الانسان – تجربتنا المُعاشة – هي التي تدعم ادّعائه باننا لدينا حرية اختيار الفعل. يقول سارتر ان تجربتنا المُعاشة تبيّن لنا اننا دائما احرار في اختيار الفعل هذا او ذاك. لو تصوّرنا الخيار القادم الذي نتخذه: نحن نستطيع التوقف عن قراءة هذا المقال، او نستمر، او نتناول كأس ماء، اصطحاب الكلب، تناول آيس كريم وغيره. المسألة هي ان حياتنا دائما مملوءة بالإمكانات، واننا احرار في اختيار ما نرغب منها.

هذا يقودنا الى المسألة الأخلاقية لسارتر وهي اننا عبر اختيار هذا او ذاك، نحن في نفس الوقت نختار مجموعة القيم المقبولة التي نعبّر عنها بخياراتنا. هذا بالنسبة لسارتر بسبب اننا لا نستطيع اختيار شيء لانراه جيدا، ولذلك فان كل اختيار هو ايضا تأكيد لقيمة ما نختار. هذا النوع من المزيج من القيم المختلفة واجه انتقادات لكونه كما يبدو فرداني (يؤمن بالفردية). ولكن سارتر يرى ان حريتنا لا تأتي بدون مسؤولية لأن كل الخيارات لها نتائج، وان دفاعه ضد انتقادات الوجودية باعتبارها فردانية متطرفة هو دفاع راديكالي بان خيارات الفرد تشرّع للانسانية ككل. اعتقد سارتر اننا عند اختيار هذا او ذاك، نحن في نفس الوقت نؤكد صوابية ذلك الخيار لبقية الانسانية. بهذه الطريقة، يكون الناس  ليسو فقط  مسؤولين فقط عن صنع أنفسهم، بل هم مسؤولون ايضا عن تعريف الانسانية ككل.

في عالم ما وراء الله، الانسان وحده يستطيع اختيار ما يريد لوجوده. في الحقيقة، يقول سارتر اننا"محكوم علينا لنكون احرارا". حريتنا هي أشبه بعقوبة لأننا لا نستطيع الهروب من الاختيار، ولا الهروب من المسؤولية التي تأتي من امتلاك تلك القابلية. نحن لا نستطيع إنكار المسؤولية الثقيلة التي ترافق حريتنا في الإختيار.

***

حاتم حميد محسن

...................

الهوامش

(1) هناك فرق بين الانسانية humanity التي تشير الى طبيعة الانسان او عرق الانسان، والانسانوية humanism التي هي موقف فلسفي يؤكد على الإمكانية الفردية والاجتماعية للكائن البشري، انها ترى الانسان نقطة البدء في التحقيق الفلسفي والأخلاقي. تؤمن الانسانوية بان المعرفة والقيم يجب ان تأتي من تجربة الانسان ومن التفكير العلمي والعقلاني، وليس من الدين او من الماورائي. الانسانويون يدعون الى حقوق الانسان وحرية الكلام والسياسات التقدمية والديمقراطية. هم يعلنون ان الدين ليس شرطا مسبقا للاخلاق ويعارضون التشابك الحاد للدين مع التعليم والدولة.

 

في المثقف اليوم