أقلام فكرية

العنف بين فقدان المعنى وامتلائه

تكشف العلاقة بين العنف والمعنى عن أحد أوجه العنف وسماته المميزة. إن المقصود بالمعنى هنا ما يرتبط بالشخص نفسه، أيّ الطريقة التي يعيً ويتدبر بها تجربته وخبراته، مساره، وموقفه. ومن هنا قد تكون حالة الخيبة والاحباط التي يشعر بها الشخص من مسببات العنف، ولكن قد يختزل هذا تفسير العنف بوصفه رد فعل من قبل الشخص الذي يقوم بذلك من أجل الوصول الى حالة من التوازن النفسي. لذا فإنه من الأهمية الإلتفات الى السياق السياسي والأحوال الإقتصادية والأوضاع الإجتماعية التي يعيش في وسطها الشخص ويعمل، بالإضافة، إلى التحوًلات التي تخضع لذلك السياق. لذا لا يمكن إقتصار ديناميكيات العنف على ما يتعلق بمسعى الشخص وقدراته على تحديد موقفه داخل هذا النوع أو ذاك من العلاقات، إذ يندرج العنف داخل إستمرارية ثقافية وتربوية أيضًا.

يحتاج الشخص الى تبرير العنف أمام نفسه وأمام الآخرين، وبهذه الحالة لا يكون العنف بدون معنى، بل بالعكس قد يبدو مفرط المعنى، ممتلئ المعنى، وكامل المعنى. أي إذا كان العنف بذاته يعبر عن فقدان المعنى فإنه ليس كذلك بالنسبة لمرتكبيه. يترافق العنف الجماعي، على الرغم من فقدان المعنى، غالباً مع سرديات متنوعه تملأ أي عجز في المعنى، وتتمثل أبرزها في الوعي الأسطوري أيديولوجيًا و دينيًا.

يتفجر العنف في المجتمعات ذات البنى التقليدية والداخلة قسرًا في سياق العولمة عندما يجد الفرد أو الجماعة صعوبة في التوفيق في الممارسة بين عناصر المعنى التي تمتلكها والتي هي ليست بعيدة عن الواقع المخترق من قبل العولمة فقــط، ولكنها مناقضة له. فيصبح العنف تعبير ملموس عن الوعي الأسطوري، هذا الوعي الذي يسمح بإندماج التمثلات والتخيلات والمعاني المتعارضة، والمتضاربة، والمتناقضة معاً، وعندها يكون هذا الوعي والعنف وجهان لعملة واحدة. أيّ أن هذا الوعي يقدم تمثلًا خياليًا ليوفق بين عناصر لا يمكن أن تندمج في الواقع التاريخي والإجتماعي، وهذا ينطبق تماماً على تجليّات الوعي الايديولوجي كفكرة خاطئة بالمعنى الذي اشار اليه دوركهايم.

يمكن للأعتقاد الديني في توظيفه السياسي أن يتحول الى عنف غير مقيد، من خلال إضفاء معنى على الفعل لا يقتصر على العالم الواقعي كما هو موجود ولكنه يوحد آمال وقناعات تتعلق بهذا العالم والعالم الآخر. لهذه الآمال والقناعات دوراً كبيراً في تفجر العنف السياسي. فإمتلاء المعنى الذي يوفره الإعتقاد الديني يمنح الفاعل قوة وشرعية غير محدودة بوصفها صادرة عن " حكم إلهي".

علينا إدراك أن ترجيح إحتمال تفجر العنف يكون كبيراً عندما تصبح المحافظة على السلم الأهلي والإجتماعي والإقتصادي صعبة في ظل تراجع العلاقات الإجتماعية، والسياسية، والثقافية أمام هيمنة منطق القطيعة والتمزق وفقدان المعنى، وعندما تنهار بنية العلاقات أمام فرط وإمتلاء المعاني إلى ما بعد السياسية. لا يمكن إعتبار العنف منتجًا للمجتمع ولا بأيّ شكل من الأشكال، ولكن تعبير صارخ عن نقص وعجز وإنحطاط المجتمع. لا يمكن أن يُنتِج العنف إلا الشر ويبقى السؤال الكبير، ما إذا كان يمكن مقاتلته بالخير أم لا، وكيف نفعل ذلك؟

هناك أفتراضات تكمن خلف أيً تحليل للعنف دائما، أفتراضات حول ما هي محركات الفعل البشري، وكيف ندرسه، وحول المصالح والحاجات والغرائز والبُنى والأختيار التي تفسر لماذا وكيف يلجأ الناس الى العنف. يتناول هذا الكتاب ظاهرة العنف، و يحتوي مجموعة دراسات منفصلة، ايً كل دراسة وحدة قائمة بذاتها ومكرسة لمناقشة مسألة العنف من زاوية معينة، لأن دراسات العنف حقل دراسات وليس أحد فروع المعرفة. هناك اعتقاد سائد على نطاق واسع بأن العنف ظاهرة اجتماعية معقدة لا يمكن فهمها وتفسيرها إلا من خلال مقاربة متعدد التخصصات. لذلك جاءت فصوبل هذا الكتاب تتناول العنف من وجهة نظر تخصصات عديدة في العلوم الأجتماعية والفلسفة.

بشكل عام العنف البشري ضد العقل لأفتقاره إلى الشرعية إلا في حالات العنف المضاد التي يضطر فيها شخص ما للدفاع عن نفسه، وهذا أحد أشكال العنف. ومما لا شك فيه لا يلجأ البشر إلى العنف فحسب بل يحاولون أيضا شرعتنه؛ إن لم يكن تماما، فعلى الأقل جزئيا. فلا يمكن إضفاء الشرعية على أي شيء بطريقة كاملة. وإذا حاول المرء مع ذلك ترشيد هذا العنف، فسوف تنشأ شكلا جديدا من أشكال العنف يستخدم باسم العقل وينجم عن نوع من المبالغة في الشرعية. يمكننا أن نتكلم عن "العنف المزدوج"، كما نتكلم عن الحقيقة المزدوجة. خذ على سبيل المثال، الحرب العادلة، والعنف الثوري، واحتكار الدولة للعنف المشروع، أو الاستخدام الشخصي أوالخاص للعنف في حالات الدفاع عن النفس. إن محاولة العنف المشروع تثير قلقنا لأن العناصرالتي تأتي معاً للوهلة الأولى لاتتوافق مع بعضها ولا يزال من غير المعقول الجمع بينها، أوتبقى من اللامفكر فيه . ومحاولة "التفكير في هذا اللامفكر فيه أو ما لا يمكن تصوره"، كما وصفته حنة أرندت يجهد العقل ويضغط عليه1، ولسنا متأكدين، ايضاُ، من أدعاء كانط أن الأخلاق تقاوم العنف2.  تتعقد مسألة العنف في محاولة بضفاء الشرعية عليه. وفي مواجهة جميع أشكال هذه الحلول الزائفة، سيكون من الأفضل التعامل مع العنف على أنه سؤال مفتوح.

تأتي مشكلة الطلاق الكبير بين العقل والعنف من حقيقة أن العقل والعنف لا يعيشان في عوالم مختلفة. تتصادم ادعاءات الحق والعقل وآثار العنف في هذا العالم الواحد. إذا كان العقل لا يريد أن يكون صالحاً وقانونيا فحسب، بل أن يبقى حياً ويدرك نفسه، فإنه لا يستطيع، أن يقيد نفسه بالقوى الناعمة الخاصة به. إن لجأ بكل قوة إلى العنف فذلك ليس من العدالة في حد ذاتها ويجب تبريره. علاوة على ذلك، فإن هذا الصراع لا يفصل عالمنا عن عالم الآخرين ولكن يمر من خلال وجود شخص ما. وبالتالي، فإن العقل، الذي يقوم بدحض العنف، يصل إلى العنف عندما يتعرض للتهديد. كونه غير قادر على تبرير العنف كعنف من أجل مصلحته، فإنه مضطر إلى تبريره في الإشارة إلى العنف الحاصل بالفعل. عندما يكون العنف مبرراً، يصبح مؤهلاً كـ "عنف مضاد"

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

............

1- Arendt, Hannah. On Violence. New York: Harcourt, Brace and World. 1969. P.6.

2- Kant, Immanuel. Anthropology from a pragmatic point of view]. 1968a. p.229.

 

في المثقف اليوم