أقلام فكرية

نقد ايديولوجيا العنف الجماعي

الجماعات والأفراد: الأهداف والضّحايا

إنّ مفاهيم الذّنب الجماعيّ، العقاب الجماعيّ والعنف الجماعيّ سؤال يثير القلق لدى الجماعات والأفراد لما تنطوي عليه من مقولات خاطئة لا تساعد على تفسير العلاقة داخل المجتمع بين العناصر التي تؤلّف تشكيلاته[1]، إذ يسود الاعتقاد أنّ الفرد إنّما هو جزء من الكلّ وهو بطبيعته اعتقاد لا يفسّر شيئا. كما قد تفسّر العلاقة بين الفرد والجماعة بأنّها عضويّة أو علاقة تمثيل، فيصبح السّؤال متمحورا حول ماهية تلك العضويّة وذلك التّمثيل، وتصير هذه القضايا الشّائكة من ضمن مفاتيح فهم العنف الجماعيّ. تختلف الأيديولوجيّات المرتبطة بالعنف الجماعيّ في الإجابة عن هذه الأسئلة، ومن الواضح أنّ لكيفيّة الرّدّ عليها عواقب على الضّحايا وبالتّالي على تحديد المسؤول عن العنف عندما تقدّم إجابات غارقة في الأيديولوجيا لا تميّز بين هدف العنف وضحاياه. مثلا قد يكون هدف الهجوم بالقنابل على قرية هو تدمير قيادة منظّمة إرهابيّة أو تحطيم قدرة الإرهابيّين الذين يتمترسون بها على القتال، أو على شنّ غارات وتدبير عمليّات مباغتة، لكنّ أغلب الضّحايا هم من غير الإرهابيّين. فالدّفع بالمبرّر المنطقيّ لتفسير حادث عنيف يحظى فيه تحديد الأهداف بالأولويّة على تحديد الضّحايا، ليجعل المستهدفين به هم المجموعة بأكملها من الرّجال والنّساء والأطفال يثير حوله الشّكوك ويجعله غائما وغير واضح بشكل كاف، غير مبرّر بمسوغات مقنعة لما يترتّب عنه من "إشعال خاطئ" وينتهي إليه من إضرار بالأبرياء والعزّل، وأحيانا بأطراف أخرى لا صلة لها بالفعل العنيف. وعلى هذا الأساس يقع فهم العنف الجماعيّ موقعا بالغ الأهمّيّة في رسم خطّة الرّدّ والتّصدّي لخطر الإرهاب. وعلى هذا الأساس أيضا تُبْرِز عمليّة تحديد الأهداف واختيار الضّحايا الدّور الهامّ للإطار الأيديولوجيّ في تشكيل أعمال العنف الجماعيّ، من حيث هي خطوة تسعى إلى توفير الغطاء المنطقيّ والمبرّر الأخلاقيّ لذلك العنف، وجزء يقوم على ركنيّة الأيديولوجيا والوعي الأيديولوجيّ في سلوك جماعة تستهدف بالعنف غيرها.

إنّ التّعريف التّقليديّ للعنف على العموم يأخذ نموذج العنف الفرديّ معيارا في الفهم والتّفسير، وهو ما يشوّش تصوّر العنف بعامّة، ويعيق وضع تعريف خاصّ ومنضبط للعنف الجماعيّ. أمّا النّظريّات التي تتبنّى التّفسير الذّرائعيّ أو تأخذ بوجهة النّظر "الإجرائيّة" في تعريف العنف فإنّها تعتبر بعض العنف مبرّرا وبعضه الآخر غير مبرّر حين تستعمل مفهوم الحرب أساسا للتّفسير، مع أنّ هذا المفهوم لا يفي بوصف وتعليل السّمات الغريبة للعنف الجماعيّ.

يتفق الجميع تقريبا على أنّ العنف عموما ينطوي بطبيعته على تصرّفات متطرّفة تؤدّي إلى التّدمير المفرط للمقدّرات المادّيّة والرّمزيّة، وإلى إصابات بالغة في العتاد ومن ثمّة في الأرواح والأجساد. إذ أنّ الهدف المقصود من وراء إعمال العنف هو التّدمير وما ينتج عنه من آثار جانبيّة، لاسيما منها تلك التي تكون غير محدودة وغير قابلة للاستدراك مثل القتل والتّشويه وتحطيم الممتلكات وانتهاك الأعراض والمقدّسات. إنّها القصد المتوخّى من إعمال العنف ونتيجته الفعليّة التي لا يمكن للعنف أن يظهر أو يتحقّق وجوده في ظلّ غيابها وانتفاء آثارها الملموسة. إذ لا يمكن من النّاحية النّظريّة عدّ أيّ سلوك على العنف، أو توصيفه بأنّه سلوك بغيض يعادي المجتمع طالما أنّه لا ينطوي على تدمير مادّيّ أو رمزيّ ملموس ولا يخلّف أيّ آثار تؤدي المستهدف به، إذ لا يكون هناك عنف إذا لم يحدث أيّ ضرر مادّيّ أو معنويّ لشخص ما بطريقة ما حتى وإن كانت بدائيّة.

لا يقلّ الجانب النّفسيّ للعنف أهمّيّة عن الجانب الماديّ، فقد يدمّر أشياء ذات قيمة رمزيّة كالمراقد والمزارات، أو يستهدف قيما معنويّة كالشّرف، أو ينال من هوّيّة الأشخاص وممتلكاتهم من الأشياء غير الهامّة القابلة للاستبدال أو الأشياء القيّمة التي لا يمكن الاستغناء عنها. بالإضافة إلى أرواح الأشخاص وأعضائهم، أو حياتهم ونمط معيشتهم. وبالمعنى النّموذجيّ فإنّ العنف يهدف إلى تدمير كاملٍ لحياة الأشخاص وقيمهم وشخصيّاتهم. إنّ هذه الجوانب هي أساسيّة لفهم العنف حيث إنّ أي نظريّة لا تنصّ على تدميريّته المطلقة تعتبر قاصرة عن أن تفي ببيان معناه والكشف عن دوافعه وعواقبه في سياق أيّة مناقشة، وسأحاول فيما يلي أن أبيّن كيف يعتبر التّدمير بهذا المعنى المطلق عنصرا رئيسا في العنف الجماعي.

الأساس الأيديولوجيّ للعنف الجماعيّ

قد يغيب الغضب الذّاتيّ في حالات عنف جماعيّ من غير المحتمل أن يكون انطلاقه عفويّا، لأنّ العنف الجماعيّ كما أوضحت أرندت[2] وويلمان ودوبكوسكي،[3] لا يمكن أن يكون إلاّ مخطّطا ومنظّما ينجزه محرّضون يعرفون كيف يقتربون من أهدافهم المروعة بطريقة "احترافيّة" يتعلّقون بها كمهمّة يتعيّن القيام بها بثقة بعيدا عن الميل العاطفيّ.

لذلك لا يمكن فهم العنف الجماعيّ دون فهم الرّموز وتفكيك دلالاتها، وبشكل عامّ ينبغي أن يكون واضحا أنّ سلسلة من أفعال رمزيّة ومن علاقات يستند تحديدها وتأطيرها إلى الجهاز المفاهيميّ الأيديولوجيّ تنشأ بموازاة مع انطلاق العنف الجماعيّ.

تستعمل "الأيديولوجيا" غطاء ذرائعيّا في الحجاج دفاعا عن هوّيّة الجماعة، عقيدتها، قيمها العامّة وعن مصالحها الفئويّة التي يشترك فيها الأعضاء. وتستعمل قاعدة للأعمال والمشاريع، وأساسا للأعراف والمؤسّسات والسّياسات.[4] فيقترب معنى الأيديولوجيا المقصود هنا ممّا يسمّيه دوركهايم "العقل الجماعيّ".[5] وتميل الأيديولوجيات بهذا المعنى أيضا إلى تحديد مجموعات تعلن عن نفسها من خلالها. وبحسب بارسونز فإنّ "تشكيل أيديولوجيّة ما يوجد ميزة إضافية تنشئ مستوى من الالتزام القيميّ ومن الإيمان بالانتماء للجماعة".[6]

وكما تمّت مناقشته أعلاه، فإنّ وجود جماعة أساس ذلك العنف الذي يمكن أن تمارسته لحماية قيمها، ولما يعنيه في حالات محدّدة تنفيذ تلك القيم والدّفاع عنها بوصفها دالّة رمزيّة في أيديولوجيّتها. لأنّ العنف الجماعيّ سلوك موجّه ضدّ الغيريّة يناهض مشروعا يقع خارج حدود الهوّيّة الخاصّة ينظر إليه الفاعل الفرديّ بوصفه عضوا في جماعة وليس باعتباره ذاتا مفردة أو شخصيّة مستقلّة. ولأنّ أهداف العنف الجماعيّ ودوافعه تتميّز عن أهداف ودوافع الأفراد التي قد تكون شخصية وغير مشتركة مع الآخرين. ويمكن الفصل بين الأمرين بملاحظة الاختلاف الواضح عند المقارنة بين دوافع تفجير إرهابي قام به مجرمون متطرّفون وبين سرقة قام بها أحد الجناة.

*** 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.........................

[1] May, L, The Morality of Groups. Notre Dame, Ind, University of Notre Dame, 1987.

[2] Arendt, H., Eichmann in Jeusalm, New York,Viking Press, 1963.

[3] Walliman and Dobkowski, Genocide and The Modern Age,: Etiology and Case Studies of Mass Death, New York, Greenwood Press. 1987.

[4]  لتعريف مماثل انظر:

Parsons, T.,The Social System, New York, Free Press, 1951, PP. 348-51.

 ولوصف عام لنظريات الايديولوجيا انظر:

Mclellan, D., Ideology, Minneapolis, Minn, University of Minnesota Press, 1986,

[5]  يعرّفه دوركهايم "كوعي جماعي" يتشكل من "مجموعة المعتقدات والمشاعر المشتركة بين الأفراد العاديين في مجتمع واحد والذي يشكل ويحدد  نظام حياتهم الخاصة". مقتبس من:

Lukes, S., Emile Durkheim: His Life and Work, Stanford, Calif, University of California Press, 1985.P. 4.

[6] Parsons, T.,The Social System, New York, Free Press, 1951, PP.349.

في المثقف اليوم