أقلام فكرية

العلاقة المعقدة بين الهوية الدينية والعلمانية (1)

المقدمة النظرية: لقد أصبحت وجهة نظر العلوم الاجتماعية حول العلاقة بين الحداثة والدين تحضى بشعبية كبيرة وشائعة للغاية في العقود الماضية في ما قدمت من تفسيرلأسباب تهميش التحديث وسياسة العلمانية المؤمن والتشجيع على نمو التعصب. وتبرر الاستياء من الشكل السائد الذي تفرضه الحداثة والعلمانية على مجتمعات عالم الجنوب ما كان يعرف بالعالم الثالث . قد تكون هناك بعض الأسباب الوجيهة لتاييد هذا الراي، لكنني أعتقد أن بعضها ليس جديرا بأن يؤخذ بجدية.

أحاول التركيز على هذه هي الأسباب. لذلك، لست معنيًا بالجزء التفسيري الذي تقدمه وجهة النظر هذه حول هذه  المسألة ولا بجميع المبررات التي تقدمها لأثام وجنح الحداثة ولكن فقط بتلك التي أجدها غير مقنعة. اسمحوا لي قبل أن أتعمق في هذه المسألة أن أشير إلى بعض أسباب عدم ارتياحي بوجهة النظر هذه. أجد من البداية، أنها تعاني من متلازمة هم – نحن المفرطة. إنها تسخر من تقسيمات الحداثة دون أدنى وعي  برؤيتها المتصدعة هي ذاتها. إنها مهووسة بروحانية الدين التقليدي ولكنها تحجب الجذور الروحية للحداثة بلا خجل. إنها شديد الحساسية لعلاقات السلطة والثروة والامتياز بالعلمانية ولكن ليس  عند ممثلي الخطاب الديني. إنها تتتأرجح بين نقاء محفوف بالمخاطر تفقد فيه القيمة كل أهميتها حتى عندما يكون تلوثها بالسلطة قليلًاً ونسبية متوترة تكون فيها القيم العليًا أساسًا عاديًا ورغبات متواضعة. باختصار، اكتشفت في هذا التفكير اندفاع بسيط ومفرط ويسبب عواقب وخيمة.

يجد أولئك الذين لديهم هوية علمانية حديثة أنفسهم معزولين بشكل متزايد، ليس من قبل المتدينين الجدد (كالإسلاميين، ومن يسمون أنفسهم بالمثقف الديني) والمناهضين للعلمانية فقط ولكن من قبل الكثير من العلمانيين الآخرين الذين في السلطة ايضًا. بالكاد يشعر إن أولئك العلمانيين أنهم في وطنهم وسط الطوفان الحالي من الهستيريا الدينية في أغلب البلاد العربية والإسلامية. يجد أولئك الذين لديهم هوية علمانية حديثة انفسهم محبوسين بين العلمانيين في السلطة والمتدينين الذين يرغبون في اغتصاب هذه السلطة منهم. بالإضافة الى ذلك، يبدو لي أنه من بين أولئك الذين يتعرضون للتهديد، هناك أيضًا بعض المؤمنين الذين لا يمكنهم التماهي مع ما يمكن تسميته بعلمانيي السلطة أو الحاكمين في الدولة ولا مع الأيديولوجيين الدينيين الجدد والمتدينين المتشددين التقليديين. لماذا يتعرض بعض العلمانيين والمؤمنين للتهديد بالتساوي بينما بأن جميع العلمانيين والمؤمنين منقسمون أساسًا في عصرنا؟ إن الانقسام بين العلماني والديني في العالم العربي/ الإسلامي كانه مؤسسات ثقافية. فهل حان الوقت لتحدي ذلك؟ هل يمكن أن توجد بعض أنواع العلمانية التي تشترك في الدين أكثر من علماني السلطة؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل الهوية الحديثة العلمانية تعارض دائمًا الهوية الدينية؟

أعتقد أننا لا نستطيع البدء في الإجابة على هذه الأسئلة ما لم يكن لدينا بعض الفهم لما يعنية أمتلاك هوية على الأطلاق. لذلك، اضع بداية السؤال وبنوع من التجريد: ما معنى أن يكون لديك هوية؟ أقدم أولاً إطارًا عامًا للإجابة عن هذا السؤال ثم زعم أنه توجد بداخله أربع طرق لصياغة مفاهيم الهوية على الأقل. ثم اضع هذا الإطار موضع التنفيذ، فأسأل ما هو معنى أن يكون لديك هوية دينية وما إذا كانت مختلفة عن الأشكال الأخرى للهويات الثقافية. هل الهوية الدينية مثل أي هوية ثقافية أخرى أم أنها تمتلك بنية متميزة وخاصة بها؟ هل يمكن تصنيفها ضمن المفهوم العام للهوية الثقافية أم أنها مختلفة بما يكفي عن الهويات الثقافية الأخرى لتتطلب معاملة خاصة؟ أخيرًا، أستكشف العلاقة الموجودة بين الهويات الدينية والحديثة والعلمانية. إن ادعائي الرئيس، هو أن بعض أشكال الهويات العلمانية تشترك مع بعض الأشكال من الهويات الدينية أكثر مما تشترك فيه مع اعضاء جماعتهم، وأن الثقافة المشتركة تتخطى  الفجوة  الأنقسام المألوف بين الديني والعلماني.

ما معنى أن تمتلك هوية؟

إن الشائع في المنطق هو أن مفهوم الهوية له علاقة بالتطابق أوالتماثل: هوية الشيء هي تطابقه مع نفسه. على الرغم من أنه صحيحًا الادعاء بأن أي شيء هو نفسه مع نفسه في أي لحظة، فمن الصواب أيضًا أنه يصبح مختلفًا - في اللحظة التالية تمامًا عما كان عليه- منذ لحظة فقط. إذا كان على كائن ما الاحتفاظ بهويته، والبقاء كما هو مع نفسه، فيجب أن يقاوم الطرق العديدة التي تهدد تغيير صفته أو شخصيته. إذن، يرتبط سؤال الهوية بالسؤال: ما الذي يحافظ على الشيء نفسه على الرغم من التغييرات العديدة التي يتعرض لها بمرور الوقت؟

إنه يرتبط بسؤال آخر أيضًا: مثلما يكون الشيء متطابقًا مع نفسه فقط إذا ظل كما هو مع مرور الوقت، لذلك يمكن تحديده بشيء آخر بشرط أن تكون الميزات التي يمتلكها هي نفسها الموجودة عند الآخرين. يمكن تمييز شيئين متطابقين إذا كان لهما السمات نفسها. ولكن إذا كانت قابلة للأدراك والتمييز، فما الذي يجمعها تحت الوصف نفسه؟ ما الذي يوحد الشيء مع الأشياء الأخرى على الرغم من اختلافه الظاهري والجلي معهم؟ إذن، ترتبط مشكلة الهوية بمشكلة الثبات في مواجهة التحولات والوحدة داخل التنوع.

ومع ذلك، من المستحيل أن يظل أيً شيء أو كائن كما هو نفسه من جميع النواحي طوال الوقت. المطالبة بذلك هو فرض لشرط صارم بحيث لا يمكن لأي كائن أن يفي به. إنه يجعل أي كائن غير قادر على الاحتفاظ بهويته طوال الوقت. فيمكن أن يظل متطابقًا مع نفسه لبعض الوقت والنواحي وليس جميعها. وبالمثل، إذا كان التشابه طوال الوقت لأي مجموعة من سمات كائن ما كافياً لهويته، فسيظل كل شيء متطابقًا مع نفسه دائمًا، وإذا لم يفقد أي شيء أو كائن هويته، فلن تظهر مشكلة الهوية في المقام الأول. إن القول بأن الشيء ظل كما هو مع نفسه طوال الوقت يكون  تعبيرا مختزلًا أومقتضبًا دائمًا: لقد ظل الشيء كما هو مع نفسه طوال الوقت في بعض النواحي التي تتصل به. فيتم بناء معيار الصلة في تعبير الهوية.

ينطبق هذا بالقدر نفسه على هوية الشيء مع الأشياء الأخرى. هناك في لحظة معينة  هناك عدد من النواحي التي يكون فيها الشيء هو نفسه مع أشياء أخرى وعدد من النواحي الأخرى يختلف فيها. إن الحديث عن مطابقة شيء ما مع شيء آخر أمر له معنى ضمن مجال مختار مسبقًا فقط؛ وترتبط الهوية بشكل حاسم ببعض المبادئ التي تتصل في هذا المجال. باختصار، يتطابق الشيء نفسه مع نفسه طوال الوقت، أو الشيء نفسه مع أشياء أخرى في أي وقت، فقط فيما يتعلق ببعض الميزات المختارة وفقًا لبعض المعايير التي تتصل به في هذا السياق.

إن تشابه السمات التي تتصل بالشئ طوال الوقت جزء لا يتجزأ من أي مفهوم للهوية. فللحصول على هوية، يجب أن يكون للشيء سمات تتصل به بشكل اساس ودائم.[1] إذا كان هذا ينطبق على هوية جميع الأشياء، فيجب أن يكون صحيحًا بالنسبة لهوية هذا الكيان الخاص، أيً الشخص البشري أو الذات ايضًا. يجب أن يكون الشخص من اجل امتلاك هوية البقاء كما هو نفسه طوال الوقت ومتطابقًا مع بعض سماته الدائمة التي يعتبرها خاصة به.

يتوافق هذا مع الحد الأدنى من الإحساس بالهوية الذي نعرفه جميعًا اي بفينومينولوجيا (ظواهرية) الهوية البسيطة. أن يكون لديك هوية هو ادراك وجود شيء ثابت في خضم التغيير والتنوع. وأن تكون موجودًا في مكان ما، لامتلاك إحساس ملموس بأنك في العالم. والأهم من ذلك أن يتم الحصول على هذا الشعور بالارتباط من خلال التعرف على شيء يبدو في ظاهره مختلفًا. يجب أن أكون قادرًا على تسميته بالأسم نفسه الذي أطلقه على نفسي، أو على الأقل أطلق عليه اسمي. التأكيد على أن الوحدة تستوعب وتجمع وتؤسس روابط بين أشياء متنوعة تتعمق إلى درجة أن النقطة الصغيرة تبقى تسمى باسم مختلف. وعلى العكس من ذلك، فإن فقدان هوية المرء يعني تجريد المرء من اتجاهاته والقدرة على رؤية مكانه، وأن يكون مفككًا، ومنفصلًا، ويشعر بعدم الأمان. إنه الفشل في اختيار أو اكتشاف شيء خاص به، وعدم القدرة على العثور على التشابه المناسب مع أي شيء.

ينشأ هذا مما قلته للتو، لا يمكن أن تكون الهوية الجسدية شرطًا كافيًا لهوية الشخص. فيجب أن تدوم بعض السمات الجسدية للشخص حتى يكون له هوية. لكن لا يمكن تحديد أي شخص بشكل شامل بجسده فقط. لا يمكن اختزال هوية الشخص في الهوية الجسدية. هذا لأن الشخص هو شخص بقدر ما يتمتع بصفات عقلية فقط. من المؤكد أن ستراوسون محق في النظر إلى الشخص ككيان يمكن أن تنسب إليه كل من الخصائص الجسدية وحالات الوعي.[2] تعتمد هوية الشخص ولو في حده الأدنى على هوية حالات وعيه - وهو شرط لإمكانية فينومينولوجيا الهوية الموصوفة في الفقرة السابقة.

لكن ماذا يمكن أن تعني هوية حالات الوعي؟ أن حالات الوعي نوعان. بادئ ذي بدء، توجد حالات مثل الأحاسيس، ويُقصد بها عمومًا المشاعر الجسدية مثل الألم والوخز والتي لا يمكن أن تحدث بدون حد أدنى من الوعي بالشئ. فالأسباب نفسها التي تجعل الجسد هو المعيار الوحيد للهوية الشخصية تنطبق على الأحاسيس تقريبا. لكن توجد معتقدات ورغبات أيضًا، أي تلك الحالات التي تتميز بما يسميه برينتانو `` القصدية ''. لا يمكن لأي شخص أن يمتلك كل معتقداته ورغباته دون حد أدنى من الوعي. فلكي تكون شخصًا لابد أن تكون مدركًا لبعض معتقداتك ورغباتك. لذلك، لكي يكون للشخص هوية من الضروري أن يكون قادرًا بوعي على التماهي مع بعض معتقداته ورغباته وأفعاله.

يمكن تصور المعتقدات والرغبات بطريقتين مختلفتين اختلافًا جوهريًا. يكفل قصدهم أنه يمتلك  محتوى بالضرورة. ولكن، قد يكون هذا المحتوى فرديًا بشكل مستقل تمامًا عن أي شيء خارجي للعقل الفردي أو قد يُنظر إليه على أنه يعتمد على البيئة الطبيعية والسياق الاجتماعي، ولا سيما الممارسات اللغوية للمجتمع. أجد أن النظرة الذرية والنفسية الأولى للمحتوى المتعمد غير مقنعة تمامًا. لا يمكنني هنا أن أخوض في أسباب رفضي للرأي االذري والنفسي، ولكن إذا كنت محقًا في ذلك، فيمكن القول، أن هوية الشخص تتشكل بواسطة اللغة التي يستعملها، ومن خلال مفرداته إلى حد بعيد، وذلك على افتراض مركزية المعتقدات والرغبات والأفعال بالنسبة لقضية الهوية الشخصية برمتها. وعليه يمكن القول أن هوية الشخص تحددها لغته.[3]

عندئذ يكون لدى الشخص المعتقدات والرغبات التي يمارسها بواسطة الكلمات التي يستعملها الى حد كبير. لا يستطيع التماهي مع معتقداته ورغباته دون التماهي مع الإطار المفاهيمي المتجسد في المفردات التي توفرها لغته. إن التماهي مع المعتقدات والرغبات مستحيل بدون اللغة لأنه لا يعرف ما تعنيه هذه المعتقدات والرغبات وبالتالي ما هيً إلاً إذا كانت لديه لغة. نظرًا لأن الدخول إلى عالم المعنى أمر حاسم لتكوين المعتقدات والرغبات فإن الهوية الشخصية مرتبطة بعالم المعاني.

علاوة على ذلك، لا يمكن عقد عالم المعاني هذا إلا مع الآخرين. إن التماهي مع المعتقدات والرغبات هو التماهي مع شيء اجتماعي، ومشاركته بالضرورة مع الآخرين. يتعرف الفرد البشري على هويته بمصطلحات محددة اجتماعيًا.[4] ونظرًا لأن هذه الرغبات والمعتقدات تظهر من خلال التفاعل مع الآخرين، فيمكننا القول أن هوية الشخص هي مسألة بناء اجتماعي إلى حد بعيد. تتطور الهويات  وتكتمل في المشاركة مع الآخرين. باختصار، أنا أعرّف نفسي بلغتي ومع أعضاء مجتمعي اللغوي. هذا هو السبب في أن يعرف المرء نفسه، كما يعرفه الآخرون، من خلال كونه موجودًا في عالم مشترك.[5]

يمكن توضيح هذا العالم المشترك للمعنى بشكل أكبر في إطار مرجعي مشترك مع الآخرين وشبكة مقاصد مشتركة. إن مشاركة مفردات مشتركة يعني أولاً وقبل كل شيء المشاركة في عالم مرجعي مشترك، أي أن المصطلحات المستعملة من قبلنا يجب أن تشير إلى نفس الكيانات. نحن لا نخترع أسماء للأشياء بمعزل عن بعضها البعض؛ بل إننا  ننجز أو نحقق هذا التصنيف معًا. فعندما أتعرف على عالم مشترك من المعنى، فأنني أنتمي إلى تقليد معين لرسم الفروق. هناك حد أدنى يمكنني من خلاله التعرف على نفسي ليس فقط بهذه الطريقة في تصنيف العالم ولكن مع كل أولئك الذين يشاركوني هذا التصنيف. علاوة على ذلك، نحن نمتلك شبكة مقاصد مشتركة ضرورية بنفس القدر لهويتنا أيضًا.

أعني أن المجتمع اللغوي من خلال امتلاك شبكة مقاصد مشتركة يشارك في المعنى بالمصطلحات التي يستعملها. بالطبع، لا يعني هذا أن كل كلمة في اللغة لها معنى واحد لجميع أعضاء المجتمع اللغوي. ولكن يشير الى أن معنى كل كلمة متاح من حيث المبدأ للجميع، وأنه حتى لو لم يتفقوا على معناها، لديهم الحد الأدنى من فهمها. وبسبب هذه الشبكة المشتركة نفهم بعضنا البعض أو نفهم أنفسنا بالفعل. هذا الفهم مهم لهويتي، ولإحساس التشابه مع نفسي ومع الآخرين. إن هويتي مرتبطة بهذا الفهم، بمخزون التفسيرات الذاتية المتاحة لي. هذا هو الفهم الذي يوفر الأرضية التي تقوم عليها أي وحدة وتضامن محددين، وهو أمر حاسم لتحديد وبناء هويتي مع الآخرين. قد لا يكون كل هذا واضحًا جدًا بالنسبة لي دائمًا، ولكن تواجه هذه المشكلة بشكل واضح عندما أكون وسط أولئك الذين لا أفهمهم. من المهم بالنسبة لهويتي أن أستمر في البقاء مع أولئك الذين أفهمهم، أو احتفظ بشبكة تكثيف مشتركة وإلا سأفقد الإحساس بهويتي.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..........................

[1] يقول روبرت بيلاه أن الهوية هي بيان لماهية الفرد أو المجموعة بشكل جوهري ودائم. ويقول إريكسون إن مصطلح "الهوية" يشير إلى التشابه المستمر مع الذات (التماثل الذاتي) والمشاركة المستمرة لبعض الخصائص الأساسية مع الآخرين. انظر كتابه :

The Problem of Ego Identity', in Maurice Stern, Arthur J. Vidlich, and D. Manning White (eds), Identity and Anxiety, Glencoe, Illinois: Free Press, 1960.

[2] Peter Strawson, Individuals, London and New York: Methuen, 1964, p.104.

[3] أتحدث هنا عن اللغة كتعبيرات تعتمد على الكلمات مع معاني ، لكنني أقصد توسيع هذه النقطة لتشمل أشكال التعبير المستقلة عن الكلمات أيضًا.

[4] P. Berger, The Social Construction of Reality, London: Penguin Books, 1967, p. 108.

[5] الهوية ، مع ارتباطاتها المناسبة بالواقع النفسي ، هي دائمًا هوية داخل عالم محدد مبني اجتماعياً.

 

في المثقف اليوم