أقلام فكرية

رؤية الفلاسفة للتكنلوجيا.. مارتن هايدجر مثالا

هايدجر الذي هو من أبرز الفلاسفة المؤثرين في القرن العشرين، كانت التكنلوجيا عنصرا هاما في عمله، فهو يرى التكنلوجيا عاملا مهما في فهم زماننا الحالي. كتابه بالذات (السؤال المتعلق في التكنلوجيا،1954"الطبعة الانجليزية 1977" كان هاما جدا في فلسفة التكنلوجيا.

ثلاثة ادّعاءات

تحليل هايدجر للتكنلوجيا يتألف من ثلاثة ادّعاءات:

1- التكنلوجيا ليست أداة، انها طريقة لفهم العالم

2- التكنلوجيا ليست نشاط انساني، وانما هي تتطور الى ماوراء سيطرة الانسان

3- التكنلوجيا هي ذروة الخطر، خطورتها هي اننا يجب ان نرى العالم فقط من خلال التفكير التكنلوجي.

لماذا التكنلوجيا غير محايدة؟

يعارض هايدجر بقوة الرؤية بان التكنلوجيا "وسيلة لغاية" او هي "نشاط انساني". هذان الاتجاهان، اللذان يسميهما هايدجر على التوالي بالتعريف "الأداتي" و "الانثروبولوجي" هما في الحقيقة صائبان، لكنهما لايذهبان عميقا بما يكفي،حين يقول، هما لايزالان لم تتأكد حقيقتهما بعد.

يشير هايدجر جازما الى ان الاشياء التكنلوجية هي وسائل لغايات، وهي بُنيت واديرت بواسطة الكائن البشري، لكن جوهر التكنلوجيا هو شيء آخر مختلف تماما. مثلما ان جوهر الشجرة هو ذاته ليس الشجرة،  كذلك جوهر التكنلوجيا ليس أي شيء تكنلوجي. ماذا لو كانت التكنلوجيا لا وسيلة لغاية ولا نشاط انساني؟ التكنلوجيا طبقا لهايدجر يجب ان تُفهم كـ "طريقة للكشف" a way of revealing(هايدجر 1977،12). "الكشف" هو احد المصطلحات التي طورها هايدجر لكي يجعل بالامكان الاعتقاد بما لم يُعتقد به بعد. انه ترجمة للكلمة اليونانية aletheuein التي تعني "يكتشف"- تكشف ما كان مستتراً. هايدجر يرى الترجمة الأكثر دقة للمصطلح هي "عدم الإخفاء".

كيف يمكن ان تكون التكنلوجيا "طريقة للكشف"؟

ما علاقة هذا بالتكنلوجيا؟ وماذا يعني هايدجر عندما يقول ان التكنلوجيا"طريقة للكشف"؟ الجواب على هذه الاسئلة يتطلب التفاتة قصيرة لكنها هامة. مانسميه "حقيقة" reality طبقا لهايدجر هو ليس معطى بنفس الطريقة في كل الاوقات وفي كل الثقافات (seubold 1986,35-6).

"الحقيقة" ليست شيئا مطلقا يمكن للانسان معرفته تماما وابدا، انها نسبية بالمعنى الحرفي للكلمة، أي، انها توجد فقط في علاقات. لهذا،الحقيقة "في ذاتها"، لايمكن الوصول اليها من جانب الانسان.

هذا يعني حسب تعبير هايدجر  ان كل شيء نتصوره او نعتقد به او نتفاعل معه "يخرج" من الكتمان الى الكشف ".عبر الدخول بعلاقة معينة مع الحقيقة، "تُكشف" الحقيقة بطريقة محددة. ومن هنا تأتي التكنلوجيا، طالما هي طريقة تصف زماننا بالكشف . التكنلوجيا تجسد طريقة محددة لكشف العالم،كشف يمارس فيه الانسان السيطرة على الواقع. وبينما اليونانيون القدماء لاحظوا "صنع" الشيء كـ "إعانة للشيء للمجيء للوجود" – كما يوضح هايدجر عبر تحليل النصوص الكلاسيكية والكلمات – لكن التكنلوجيا الحديثة هي بدلا من ذلك "تُجبر على الوجود". التكنلوجيا تكشف العالم كمادة خام، متوفرة للانتاج والاستغلال.

لماذا التكنلوجيا ليست فعالية انسانية؟

طبقا لهايدجر، هناك شيء خاطئ في الثقافة التكنلوجية الحديثة التي نعيش في ظلها اليوم. في "عصرنا التكنلوجي" يمكن ان يُعرض الواقع فقط كمادة خام (كـ"احتياط دائم")(1). هذا الوضع لم يأت بفعل الانسان،حيث ان الطريقة التكنلوجية للكشف لم يتم اختيارها من جانب الانسان، وانما،فهمنا للعالم – وفهمنا لـ "الوجود"، يتطور عبر العصور. في زماننا الحالي يتخذ "الوجود" سمة "اطار " تكنلوجي،  فيه يقترب الانسان للعالم بطريقة مهيمنة.

هذا الفهم التكنلوجي لـ "الوجود"، حسب هايدجر، يُرى كأقصى درجات الخطورة لأن الانسان سيفسر نفسه ايضا كمادة خام. وان الرغبة التكنلوجية بالسيطرة لا تترك لنا مهربا. عندما نتحرك قدما نحو تفسير جديد للوجود، هذا بذاته سوف يكون تدخّلا تكنلوجيا، أي، نحن نستغل استخدامنا،ونمارس سلطة على طريقتنا في ممارسة السيطرة. وهذا سوف يعيد التأكيد على التفسير التكنلوجي للوجود. كل محاولة للهروب من التكنلوجيا ستعيدنا مجددا اليها . الطريقة الوحيدة بالنسبة لهايدجر هي "الرغبة بان لا نرغب". نحن نحتاج ان نفتح امكانيات الوثوق بالتكنلوجيا دون ان نصبح عبيدا لها وان نراها كتجسيد لفهم الوجود.

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) عندما يقول هايدجر ان التكنلوجيا تكشف لنا الاشياء كـ "احتياطي دائم"، هو يعني ان كل ما يُفرض علينا او يتحدانا سيكون مصدر منتظم للتطبيقات التكنلوجية، التي بدورها نأخذها كمصدر لإستعمال آخر، وهكذا الى ما لا نهاية.

 

في المثقف اليوم