أقلام فكرية

اقتصاديات الكلام

تسود المجتمعاتِ العالقة في تاريخها، ومنها مجتمعنا، حالةٌ من الشغف بالكلام، تصل لدى البعض حد الهذيان. يتكلمُ الكلُّ في كلِّ شيء، بعض الزعماء السياسيين يتحدث في: الفلسفة واللاهوت والفقه والتفسير والأدب والفن والتاريخ والسياسة والاقتصاد... وغيرها. يولع بتكرار أسماء فلاسفة ومفكرين وأدباء وفنانين، لا يعرف عنهم في الغالب شيئًا يتجاوز الاسم، وربما يتلفظ الاسم خطأ. وحين يشير إلى معلومة تتصل بهم، غالبًا ما يخطئ فيها،كما سمعت ذلك عدة مرات.كأن السلطة السياسية تفوّض صاحبها التحدث بكلِّ شيء عن كل شيء، وكأن ما تراكم من معارف بشرية في تاريخ العلم المتواصل آلاف السنين، يمنح فجأة سلةَ العلوم والمعارف والفنون والآداب لمن أضحى متسيّدًا على كرسي السلطة، بوصفه "الرجل الضرورة"، حسبما كان يُصطلَح على صدام حسين، الذي يحلم بعض رجالنا بمحاكاته.

لم ينتفع سياسيونا، الذين عاش معظمهم في الغرب، ويفترض أنهم تشبعوا بمناخات الديمقراطيات الحديثة في تلك البلدان، واكتشفوا شيئًا من قيمة التخصص وأهميته في تطور البشرية، وامتدادها عموديًا، واتساعها أفقيًا. لم ينتفعوا من خبرة العصر في ضرورة احترام التخصص، والحذر من التعالُم والحذلقة الفارغة بمقام أهل العلم، ومن المعلوم أن المتحدثين في الفضائيات اليوم تتجه أحاديثهم لمختلف الناس، بمعنى أنهم يتحدثون دائمًا في مقام أهل العلم والخبراء.

لم يتعلم هؤلاء أن المجتمعات المتقدمة تفكّر أكثر مما تتكلم، وتعمل أكثر مما تتحدث، وتصمت أكثر مما تهذر، وعادة ما يقتصر المتحدث السياسي في تلك المجتمعات على اختصاصه، وعادة ما يعود الى الخبراء فيما لا خبرة له فيه، ويقتصد بما هو مطلوب من كلام، بلا ضوضاء وضجيج.

نحن ننهمك بتعويض الفعل بالثرثرة، واستبدال التفكير بالهذيان، حتى لو شئنا أن نفكّر فإنا نغرق في بحر الألفاظ، ولا نذهب للتفكير بـعمق في المفاهيم. مؤسساتنا التربوية والتعليمية والدينية والثقافية والإعلامية والاجتماعية، تنهمك في بناء كياناتها بالشعارات والألفاظ، وتقيِّم مكاسبها وتختبر نجاحاتها في سياق ما تحقّقه من مهرجانات واحتفالات ومارثونات وشعارات، وما تراكمه من عبارات وكلمات، من دون أن تنظر فيما تقدّمه من منجزات حقيقية على الأرض.كثرة الكلام في السياسة، بلا مواقف وطنية صادقة، يزيّف الحياة السياسية، ويهدم الدول، ويضيّع الأوطان.كثرة الكلام في الدين، بلا حياة روحية وضمير أخلاقي يقظ، يستفز الناس ويقودهم إلى النفور من الدين.

 إننا مدعوون جميعا الى حماية الأجيال الجديدة من داء الثرثرة المتفشية في مجتمعنا، وإعادة الاعتبار للصمت والتأمل والتفكير، وكلّ ما تتوغل معه الذات في عالمها الجواني، وتسبر أغوارَها العميقة، وتستكشف آفاقها البالغة الخصوبة والثراء. هناك حاجة ملحة لتنمية ثقافة ما يمكن تسميته بـ "اقتصاديات الكلام"، التي تعالج ما يتصل بكمية الكلام وكيفيته، وشكله ومضمونه، وكل ما له علاقة بذلك، مثل: أنماط إنتاجه، ورأسماله، وادخاره، وقيمته، وريعه، وتداوله، وسوقه، وتسويقه، وغير ذلك من اقتصادياته. وكل ما يُمكّننا من إتقان ما ينبغي وما لا ينبغي قوله وتداوله من ألفاظ، وما يمنحنا القدرةَ على الكفِّ عن الشقشقات اللغوية والرطانات اللفظية والكلمات المفرَغة من أي مضمون، فيما هو شفاهي، أو ما هو مكتوب.

من الضروري أن تستوعب خططُ وبرامج التربية والتعليم في مجتمعاتنا تدريس "اقتصاديات الكلام"،  و "فن الإصغاء"، وأن تهتم بالتدريب عليهما في برامجها التربوية والتعليمية، وفي مراحل التعليم الأساسي خاصة، منذ مرحلة رياض الأطفال الى نهاية التعليم الثانوي، ذلك أن "اقتصاديات الكلام"،  و"فن الإصغاء" ضرورة تربوية تعليمية وذوقية وروحية وأخلاقية وعقلية، تفرضها حالة انهيار القلب والروح والذوق والعقل، في فضاء ضجيج هذيان وهذر: معظم السياسيين، وبعض رجال الدين، والكثير من الإعلاميين، وجماعة ممن يسمون أنفسهم بالشعراء والأدباء والمثقفين.

إن فنَ الإصغاء يعني إرادةَ التعلّم، وعدمَ الاستخفاف بعقل وشخصية المتحدّث، وإرادة التنوع الديني والثقافي، وإرادة الصواب، والخلاص من تكرار الأخطاء. فن الإصغاء يعني تذوق لذة الصمت، الصمت معلم من لا معلم له، الصمت نافذة الضوء لاستكشاف مديات الأنا الباطنية العميقة وإثرائها بالمعنى.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

 

 

في المثقف اليوم