أقلام فكرية

في اليوم العالمي للفلسفة: فلسفة السؤال ورحلة الرجوع للأمام (2)

ما برحت أناملي ومداد قلمي وسطور الأرواق، تستوقفني عن المضيّ في السرد والحكي عن تلك الأطوار التي مرت بها المعارف الفلسفية، لتسألني عن تلك الرحلة، ومن أين نبدأها للوصول إلى المقصد هل ما نرجوه في الذهاب أم الإياب؟ ويشكو صرير قلمي من ذلك التيه الذي مشينا إليه مُرغمين رغم وضوح السبيل وهو على النقيض ممّا نحن فيه. 

فأجبتهم جميعاً أن طالب الوصال لا يُعييه طول السير ولا يضنيه كثرة الترحال؛ فالعشق وحده يُهديه، ودفء اللقاء يُرضيه.

ونعود للسرد للوقوف على ما كنا فيه.

لم تكن فترة الستينات من القرن العشرين تمثل مرحلة بؤس الفلسفة في البرامج الدراسية للمرحلة الثانوية؛ لهشاشة بنيتها المعرفية التي كانت تقدّم في الكتاب المقرر فحسب؛ بل كان هناك عوامل أخرى أعتقد أنه من الواجب الإشارة إليها، والتحري عن مدى تأثيرها في العقل الجمعي الناشئ، أي في شبيبة المستقبل.

فتحدثنا الوقائع التاريخية أن المعارف الفلسفية قد أُدرجت في المقررات الدراسية للمرحلة الثانوية منذ عام 1925م، وكانت مقتصرة على تدريس مادة الأخلاق والمنطق، وانضم إليهما علم النفس وذلك بصورة هامشية، ولم تُخصص لهذه المعارف سوى حصّة واحدة أسبوعياً. وكانت فلسفة الأخلاق تلقى للطلاب في صورة نصائح وحكم وعظات، وهي أقرب في بنيتها السردية إلى التربية الدينية. أمّا مادة المنطق فقد صيغ مضمونها هى الأخرى بأسلوب يتوائم مع مادة علم النفس.

وفي عام 1933م أجتهد المعنيون المستنيرون بدراسة الفلسفة النظريّة في المرحلة الثانوية؛ فخصصّوا لها كتاباً دراسياً؛ لتوضيح أهمية الفلسفة لتبرأة معارفها من تهمة الإلحاد التي صدت الرأي العام التابع عن دراستها، كما عُنيا مؤلفا الكتاب بتوضيح أن الدين الإسلامي ليس ضد دراسة الفلسفة، وأن المنتسبين للدين هم الذين أشاعوا ذلك بين العوام في مقدمة الكتاب المقرر المعنون بـ (تاريخ الفلسفة) لـ محمد على مصطفى، وأحمد عبده خيرالدين. وذلك بقولهما (مضى على المناهج الدراسة العالية في مصر زمن، كانت فيه ناقصة، لخلوها من الفلسفة، ويخيل إلينا أن هذا النقص يرجع إلى عدة أسباب:

- منها أن التعليم كان في يد نفر من رجال الدين، الذين يمقتون الفلسفة، ويحرمون على الناس دراستها، لما بينها وبين العقائد الدينية من ظاهر الخلاف ... على أن الدين الإسلامي لا يعادي الفلسفة في شيء؛ فقد خاطب العقل وحض على النظر في ملكوت السموات والأرض، وأنتهج القرآن منهجاً لم تألفه الكُتب قبله ولا بعده، فاستنهض الأفكار، وطالب أولى البصر من بني الإنسان بالإمعان في البحث والجري وراء الحقيقة حتى ينكشف لهم بعض الأسرار التي أودعها الخالق في خلقه. وتآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدّس على لسان نبي مُرسل بتصريح لا يقبل التأويل، واستقر بين المسلمين كافة إلا من لا ثقة بعقله ولا بدينه ... نعم أعتمد الإسلام على العقل ورفع بذلك من شأن الإنسان، وعلمه أن يهتدى بنور العلم ويسترشد بدلائل الكون، ويعتبر بما فيه من أحداث، وطالب الناس بأن يتدبروا في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار... ومنها: أن العقول كانت لم تصل إلى مستوى تشعر فيه بضرورة الفلسفة، وبأنها من وسائل الثقافة العامة، ورقي المدارك وشحذ المواهب، وتوسيع الأفق العقلي، وأساس النهوض، يضاف إلى هذا، أن كلمة الفلسفة من الكلمات التي أُسيء استعمالها في الوقت الحاضر؛ فإنّ نفراً من الناس لا يستعملها إلا في المناقشات الخالية، التي لا تجدي نفعاً، ويزعمون أن الفيلسوف هو الرجل المُغرم بضروب من الخيال، الذي أعمته الأوهام والأحلام عن إدراك الحقائق ... والحق أن الفلسفة والحياة أمران متلازمان ... فالفلسفة هي الشمس تنبعث منها الحرارة والنور والحياة إلى سائر العلوم ... وتاريخ الفلسفة جديرٌ بالدراسة إذْ يرينا صورة واضحة عن نشوء العقل، ونضوج الفكر، ويعرض علينا النظريات المختلفة التي أجهد الفلاسفة عقولهم في الوصول إليها، ويبيّن مبلغ تأثير هذه النظريات في حياة الأفراد والجماعات، ويكشف لنا الحُجب عن كثير من أسرار الكون وما فيه من إبداع في الصنعة، وانسجام في التأليف، ويرشدنا إلى طريق السعادة، ويبعث في نفوسنا رغبة صادقة في إتّباع سنن أولئك العلماء، الذين وقفوا حياتهم للعلم، ونصبوا أنفسهم لنشر المبادئ وتعليم الناس، مهما لقوا في ذلك من محنة وأذى، وهو الذي يهذب من نفوسنا، ويوسّع نطاق عقولنا، وينمي فينا كثيراً من العواطف الطيبة، ومنها محبة الخير للناس عامة، ويقدرنا على إدراك الخدمات الجليلة، التي يؤديها إلينا العلماء في البلاد المختلفة، وإنْ تباينت مذاهبهم وتعددت نحلهم).

ويصرح إبراهيم مدكور ويوسف كرم في مقدّمة كتابهما (دورس في تاريخ الفلسفة) عام 1940م، بأن معارفنا الفلسفية لا تتوائم مع واقعنا والأحداث التي طرأت على مجتمعنا؛ الأمر الذي يستجوب معه تطوير دروسنا الفلسفية التي يدرسها شبيبتنا صناع المستقبل (فإنّا لا نستطيع أن نشيد بناء استقلالنا الفكري إلا إن دعمناه على أساس متين في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي. وبديهي أن هاتين المرحلتين هما وسيلة التكوين الشعبي والثقافة العامة ... ولقد كان حظ الفلسفة في هذا التغيير الأخير أن بُعثت من مرقدها، ورد إليها بعض من حقها، ومُنحت قسطاً من الأهمية، فعُدّل منهج ما كان يُدرس من موادها، وأضيفت إليه مادة جديدة هي تاريخ الفلسفة. وفي رأينا أن هذه المادة أسهل على البادئين وإلى عقولهم أقرب؛ وكثيراً ما يُستعان بالتاريخ والقصة على توضيح ما غمض من الأفكار، وتذليل ما صعب من الآراء والنظريات. هذا إلى أن تاريخ الفلسفة عرضٌ لمشكلاتها وبيانٌ للأدوار التي مرّت بها، ففي دراسته ما يسمح لنا بالإلمام بالمسائل الفلسفية المختلفة - منطقية كانت أو أخلاقية، سيكولوجية كانت أو ميتافيزيقية - ومتابعتها في لحظات نهوضها وتقدّمها أو ضعفها أو انحطاطها. وكم تكسبنا هذه الدراسة دقة في الحكم، ومهارة في النقد، وسعة في النظر، تمكننا من الإحاطة بأطراف الأشياء المختلفة والموازنة بين الآراء المتعارضة، وكل تلك أسلحة ضرورية للسير في حياتنا الملآى بمتنوع الميول والنزعات، ومتباين الأفكار والاتجاهات).

وجاء في مقدمة كتاب (مشكلات فلسفية) المقرّر على السنة النهائية في التعليم الثانوي عام 1954م لـ إبراهيم عبدالمجيد اللبان، وتوفيق الطويل، ومحمد حسن ظاظا، وعبده فراج: (أن غاية هذا الكتاب إزالة الغموض الذي يلابس مفهوم الفلسفة في أذهان من يجهلونها. ألقينا في مدخله بعض الضوء الذي ينير الطريق إلى فروع الفلسفة ومجالاتها وتخيرنا في أبوابه نماذج لمشكلات فلسفية تتصل بحياة الإنسان في كل زمان ومكان، وتوخينا الأمانة في عرضها وبيان الحلول التي قُدِمت لها، راجين أن تثير في الذهن معاني تساعد على تكوين المواطن الصالح، وبهذا نساهم - ولو بقدر ضئيل- في تحقيق الهدف الذي تتوخّاه السياسية التعليمية المصرية في عهدنا الجديد).

وحسبي أن أوضح علة إيراد هذه النقول بنصّها من مصادرها الأولى التي كُتبت فيها للوقوف على عدّة مسائل تبرر دعوتي إلى ضرورة الرجوع إليها إذا ما أردنا تطوير مقرراتنا الدراسية في المرحلة الثانويّة.

تلك هي إجابتي عن الأسئلة المطروحة. ثم جاء دوري لأتساءل: ألم تبرر هذه النقول الغاية الحقيقة للفلسفة ووظيفتها؟ ألم تكشف الواقعات عن مواطن بؤس الفلسفة المتمثلة في طورها التلقيني في نهاية العشرينات من القرن الماضي؟ وهل هناك شك في أن فترة الستينيات تمثل طور جنوح الفلسفة عن مقصدها وعزوفها عن رسالتها؟ وكيف لا وقد استحالت المعارف الفلسفية إلى معارف هشّة إذا ما قُرنت بزخم التوجيه السياسي، وتراجع العديد من الأقلام عن البوح بخطورة هجر المعارف الفلسفية وتربية الطلاب على النقد والمراجعة والتحرر من قيد التلقين الذي أصاب المُقررات الفلسفية الدراسية في مقتل؟ ونتسأل من جديد: ألسنا في حاجة للرجوع إلى الفترة الممتدة من (1935م إلى 1955م) لإحياء الدراسات الفلسفية في مقرراتنا الدراسية؛ لتتواصل مع الدراسات الجامعية المرجوة؟ ألسنا في حاجة لإعادة دراسة مبحث فلسفة القيم لنقوّم أخلاقنا التي هوت إلى دَرك العُريّ وانعدام الحياء والكذب والحقد والعنف والتطرف بأوسع معانيه، وانحطت أذواقنا بداية من لغة الحوار، ومروراً بأغانينا وما نشاهده من أفلام ومهرجانات، وانتهاءً بما نُبيحه على شبكات التواصل؟ ألسنا في حاجة لإيقاظ وعينا القومي والتمسك بهويتنا المصريّة وانتمائنا وولائنا بالأصيل من ثقافتنا؟ ألسنا في عوز لرأي عام قائد يستأنس الربط بين ما أنقطع بين خطاباتنا ومشروعنا الحضاري الذي أُتهم بالعجز والقصور عن بلوغ مقصدنا من التقدم والرقي؟ ألسنا في حاجة إلى إحياء رسالة الفلسفة في منابرنا الثقافية وكل معاهدنا التعليمية؛ فالتفسير والتبرير هو ضالتنا التي افتقدناها لمخاطبة الجمهور وتوعيته وتبصيره وتوجيهه؟ ألسنا في حاجة أيضاً للثورات الفكرية الهادئة التي تنشد التغيير لإصلاح ما فسد، وشحذ الهمم والبناء وهدم كل أوكار التخلف والتطرف والفساد والإرهاب؟

وللحديث بقيّة لإكمال ما بدأناه عن سرد واقعات رحلتنا النقدية لأطوار معارفنا الفلسفية في الثمانينات من القرن الماضي.

***

بقلم: د. عصمت نصّار

في المثقف اليوم