أقلام فكرية

قراءة نقديّة لمنتخبات الأصول الفلسفيّة

هناك كتابات فلسفية مصدرية لا يمكن لباحث في مجال الفلسفة أن يتخطاها مثل: كتاب الحروف للفارابي، وكتاب تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد، وكتاب الأورجانون الجديد لفرنسيس بيكون، وكتاب المقال في المنهج لديكارت، وكتاب مبادئ الفلسفة لديكارت أيضاً، ناهيك عن مصادر آراء ابن رشد الفلسفية، ومحاولة في الفهم الإنساني لجون لوك، وكتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال لابن رشد، وبرجسون وكتابه التطور الخالق، ومقالات الإسلاميين للأشعري، وغيرها الكثير والكثير.

تتضمّن موضوعات ومباحث في المصادر الفلسفية، وتحتوي على فصول تجمع بين طياتها أهم الأصول الفلسفية التي لا يمكن لباحث في مجال الفلسفة أن يستغنى عنها بوجه من الوجوه؛ فهى تعرّفنا أولاً مصادر تفكير الفيلسوف في الإسلام بوجه عام، ثم مصادر تفكيره إذا كان من غير المسلمين .. من أين أخذ أفكاره الفلسفية ومن أين استقاها؟ ثم كيف وظفها؟ وكيف تعامل مع الأفكار الغريبة عن الثقافة الإسلامية فيما لو كان الفيلسوف يدين بالإسلام؟ وكيف نشأت لديه الفكرة التي إذا ما قرأناها عنده قلنا على الفور إنها فكرة فلسفية من شأنها أن تؤثر في غيره من الفلاسفة والمفكرين جيلاً وراء جيل؟ وهل بمستطاع الفيلسوف أن ينشئ الفكرة إنشاءً من تلقاء ذاته دون أن يعتمد على أفكار من سبقوه أم أنه يأخذها ويتأمل فيها، ثم ينقدها، ويضيف عليها، من ثمّ، جديداً لم يكن موجوداً من قبل؟ كيف تمثل العالم بالنسبة للفيلسوف؟ وما هي المعرفة بالنسبة له؟ ما جذورها وجذوعها وفروعها وأغصانها إذا ما كانت الفلسفة شجرة كما شبهها ديكارت، وما مكانة العالم الطبيعي والعلوي منها، وما مكانة الأخلاق؟

أي النهجين أقرب إلى عمل الفيلسوف؟ وإلى أي مدى بإمكانه التعامل مع الأنساق الفلسفية القديمة؟ وما هى درجة تأثره بها، وتأثيرها عليه، وتأثيرها فيمن بعده؟ وكيف يبدع الفيلسوف جديداً وهو مأخوذ ـ بادئ ذي بدء ـ بما سبقه إليه غيره من تفكير فلسفي، ومن إنتاج علمي، ومن تراث حضاري على وجه العموم؟

البحث في المصادر بحث فلسفي بامتياز؛ لا يتقرّر إلا وتتقرر معه خصائص التفكير الفلسفي من حيث النقد، ومن جهة العلم، ومن واقع التنوير والتفكير، ومن امتثال الأخلاق، ومن استخلاص النتائج من مقدمات مفروضةٍ يستنها العقل وفق قواعد وشروط مقبولة بادئ ذي بدء. والبحث في المصادر ضرورة منهجية لمعرفة قضية التأثير والتأثر بين الأفكار المتنوعة، والآراء الفلسفية المتشابكة؛ وللفصل بين النظائر والأشباه عبر تاريخ الذهن البشري ومحاولات العقل تجاه النظر في المعقول.

ما من باحث في مجال الفلسفة على وجه الخصوص إلا ويذكر كتاب "الحروف" للفارابي، فيلسوف المشرق العربي، فهو مصدر فلسفي بامتياز، ، بل هو أكبر مصنفات أبي نصر الفارابي وأعظمها غناء للمهتمين بدراسة الفكر العربي عامة، والفلسفة الإسلامية خاصة، كتبه إمام المنطقيين في عصر بلغ فيه الفكر العربي أوجه في تفهم أمور العلم واللغة وضرورة التعبير الصحيح عن ما ينظر الإنسان فيه ويعقله، فلا يستغني عن قراءته من يشتغل في تأريخ الفلسفة واللغة، وهو يجمع إلى جانب النظرات الفلسفية الثاقبة جوانب من اللغة، وخصائصها ومقرراتها، وأثرها على التفكير، وأثر التفكير الفلسفي عليها.

ومن جانب آخر؛ يجب أن يمعن النظر فيه، كما يقول ناشره لأول مره الدكتور محسن مهدي، "من يقصد فهم الصلة بين نموِّ العلوم واللغة التي بها يعبر عن العلوم، والمجتمع الذي تنمو فيه". 

من أجل ذلك؛ يلزم للدارس عناية الاطلاع على هذا الكتاب تفصيلاً؛ ليتعرّف باحث الفلسفة على أثر هذا الكتاب في عقول فلاسفة المشرق العربي وفلاسفة المغرب العربي بوجه خاص كيما يدرك أثره البالغ الممتد في الفكر الفلسفي على وجه العموم.

ولا يزال يبقى أثره خالداً على مرّ الأزمان، وبخاصة فيما اشتمل البحث فيه على الجوانب المنطقية واللغوية بالإضافة إلى المشكلات الفلسفية والقضايا الفكريّة.

غير أننا في هذا المقال نركز على نموذج فعال مؤثر من فلاسفة المغرب العربي وهو ابن رشد؛ خلال معالجته كتاب تفسير ما بعد الطبيعة، وهو كتاب الميتافيزيقا لأرسطو، ذلك الكتاب الذي قام ابن رشد بشرحه وتفسير مشكلاته. وقد تمكن ابن رشد الفيلسوف العربي المسلم من إضافة آراء خلال شروحه وتفاسيره لم يكن أرسطو يتحدث فيها بالكيفية التي استطاع ابن رشد الحديث عنها خلال الشرح الضافي الدقيق والتحليل المنطقي الصائب المقنع، وخلال تفسيره الذي ضمنه رأيه الخاص.

أضاف ابن رشد من خلال الشروح بعداً ذاتياً على تفسير ما بعد الطبيعة، أي الميتافيزيقا لأرسطو، فهو لم يقتصر على الشرح وكفى؛ بل تصرف في النص ليستخرج منه رأياً جديداً يعبر به عن رؤيته الفلسفية. فكانت هذه اللفتة سمة منهجية في شروح وتفاسير وتلاخيص ابن رشد على آثار العقلية اليونانية، وأرسطو خاصّة.

إذا تصفح القارئ بالتحليل كتاب تفسير ما بعد الطبيعة، والمقالات الإحدى عشر التي تضمّنها هذا الكتاب، وألمّ بمنتخبات من هذا التفسير الذي قدّمه ابن رشد؛ بقصد بيان طريقته في التفسير، تبين له تلك الطريقة التي تجمع بين تفسير اللفظ، وتفسير المعنى، وتفسير الفكرة الفلسفية التي ينطوي عليها المعنى.

وظهر له القصد المباشر من وراء ذلك؛ وهو محاولة المقارنة بين طريقته في التفسير وطريقته في التأليف، أو بين نهجه في الشرح والتفسير ونهجه في التصنيف والتأليف؛ لأن المقارنة توضح للقارئ آراءً جديدة يقولها ابن رشد في الشروح والتفسيرات، ولم يقل بها في المصنفات التي قام بتأليفها، حتى إذا تمت المقارنة على الوجه الأكمل، أستطاع الباحث استخلاص مذهبه الفلسفي مكتملاً من خلال البحث في هذين الجانبين : جانب الشروح وجانب التآليف.

ولم يكتمل مذهب ابن رشد وافياً على الحقيقة إلا بالإطلاع على هذين الجانبين اطلاعاً يتيح المقارنة، ويستوجب المُفاضلة، ويقر في النهاية بالإنصاف.

إنّه قد تبيّن لنا خلال الاطلاع على عمل ابن رشد أننا بإزاء فلسفة عقلية وضعت جذور الاستنارة في الحضارة العربية والإسلامية ممثلة في عقل ابن رشد، فيلسوف المغرب العربي، وأحد حملة مشاعل الحضارة الإسلامية. وقد أظهرنا خلال قيام ابن رشد بتفسير كتاب ما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقا لأرسطو، أظهر صدارة هذا الفيلسوف ومصدريته في مجال الفكر العربي الإسلامي، وأن تفسيره لكتاب ما بعد الطبيعة، إنما هو في الأصل يعد مصدراً فلسفياً عظيماً لا من حيث اعتباره أثراً من آثار فلسفة أرسطو فقط، ولكن من حيث إنه درّة فلسفية من درر ابن رشد، إذْ ذَاَكَ نقرأ أرسطو بعقل ابن رشد، ونرى فلسفة أرسطو بارزة من بين سطور فيلسوفنا العربي.

وخلال شروح ابن رشد على فلسفة أرسطو وتفاسيره لكتبه الفلسفية المعتبرة، تبيّنت معالم فلسفته كونها علامة فكرية ظاهرة برزت في كل مقالة من المقالات التي اشتمل عليها كتاب تفسير ما بعد الطبيعة، فظهر الرأي الذي يوضح باليقين موقف ابن رشد في المسائل التي طرحها؛ فلم يكن إذْ ذَاَكَ بالشارح الذي يكتفي بمجرد الشرح التقليدي، ولكنه كان مضيفاً خلال الشرح آراءً جديدة ربما كان أرسطو لم يتطرق لها، ولم يكن يلتفت إليها. ومن أجل ذلك كان من الأهمية بمكان للتعرف على فلسفة ابن رشد، ضم الشروح والتفاسير إلى المؤلفات والتصانيف في وحدة واحدة ليس فيها انفصال ولا تجزء، بغية استخلاص هذا المذهب الفلسفي الأصيل.

فليس لباحث أن يقف محيطاً على وجه الدقة بتراث ابن رشد الفلسفي وهو لا يجمع وجاهة الرأي لديه بين الشرح والتفسير من جهة والتصنيف والتأليف من جهة أخرى؛ ليحيط بمذهب الفيلسوف العربي المسلم على وجه الدقة والأصالة.

ثم إننا إذا نحن رحنا نقتبس من ابن رشد منتخبات من نصوصه وأقواله سواء من تفسيره لكتاب ما بعد الطبيعة أو من كتاباته ومؤلفاته المصنفة؛ تبين لنا أيضاً أن الأولى؛ فلإظهار طريقته في الشرح والتفسير. وأمّا الثانية؛ فللتعرُّف على آرائه بالقياس إلى الشروح والتفاسير. ثم رأينا أن ما اقتبسناه من مقتطفات أقواله يُضاف إلى المباحث الميتافيزيقية التي نوّه إليها في تفسيره لكتاب ما بعد الطبيعة، ولا يمكن أن تعزل عنها بحال :

فكلامه عن الحركة، والأسباب، وحدود التأويل، والأدلة على وجود الله من طريق البرهان العقلي، وحديثه عن التصوف، وحديثه عن المعجزات، إنما هى كلها موضوعات ميتافيزيقية يحكمها التناول المنهجي الذي ارتضاه الفيلسوف. وتتصل شديد الصلة بالمسائل التي سبق طرحها بطريق أو بآخر في تفسير ما بعد الطبيعة.

ولم يكن من المتاح لدارس الفلسفة أن يغض النظر عن رأي ابن رشد من خلال أقواله نصّاً وحرفاً، في مباحثه لهذه المسألة أو تلك؛ لأن التأمل في النصوص القديمة مُلهم للعقل الحديث والمعاصر أن يستفيض ويتأسس على ركائز المعرفة ثم يجود بالإبداع والابتكار. ولولا ما كان استنّه ابن رشد من عكوف على مؤلفات أرسطو وشروحه لتراث اليونان، ما وُجدت لديه هذ النزعة العقلية قوية مبدعة صادقة ملهمة، وما كان تسنى له أن يكون جامعاً لوجاهة الرأي والرؤية، وهو سليل العلم ربيب الفقه، معطاء.

ولم يكن ميسوراً للباحث على وجه العموم أن يدرس آراء الفيلسوف القرطبي وهو لم يطلع على نصوصه الأصلية التي تشكل رؤيته الفلسفية ويُستخلص منها مذهبه؛ فتجيء أقواله نصوصاً لازمة لا بدّ منها في سياق التعرّف على رأيه ورؤيته في آن.

سيبقى معنا ابن رشد خالداً في رحلة البحث عن المصادر الفلسفية، ذلك الفيلسوف العبقري الذي شغل الدنيا وملأ عقول الناس علماً وفلسفة واستنارة، وهو مع ذلك نُكِبَ من جرّاء عمله العقلي نكبة سجلها تاريخ الجهاد الفكري والحضاري للحافظ على قيمة المعرفة العقليّة في مقابل ظلمات القهر والتسلط على العقول والضمائر في دنيا الجهالة والتخلف، لكن ابن رشد دام موصولاً بجهاد العقل والرأي، ومات ناكبوه في ظلمات التخبط والجهالة والضلال.

***

د. مجدي إبراهيم                            

  

في المثقف اليوم