أقلام فكرية

رعب العلاقات.. كيف تؤدي الارتباطات الى ذوبان الذات؟

بعد النمو الانفجاري في التفكير البيئي، اصبحت فكرة الاعتمادية المتبادلة شائعة في كل مكان من العالم. اساس الفكرة هو اننا بطريقة ما "مترابطون بشكل دائم"مع بعضنا البعض، ومع الكائنات الحية الاخرى والبيئة بشكليها المادي والرقمي. ما يشار اليه ضمنا هنا ان فكرة الترابط هي شيء جيد وجميل. كوننا في ارتباط يجعلنا أقوى وأكثر صحة وأشد تفاعلا. لكن هناك تحت هذه الفكرة الايجابية تختبئ رؤية مظلمة – وهي ان كوننا مترابطين بشكل وثيق يمثل رعبا وجوديا. كونك مرتبط بالمعنى القوي للارتباط بالآخر،يهدد ما يجب ان تكون عليه الذات وما يعني ان يكون عليه الفرد. هذا الجانب المظلم من الترابط المتبادل ينكشف عندما نرى ان ذلك الترابط يعني أكثر من مجرد ارتباط.

الشكل الأول: الرؤية المتفائلة

العديد من النظريات الايكولوجية والاجتماعية ترى ان التفكير العلائقي له تأثير على فهم طبيعة وقيمة الذات الفردية. فمثلا، لو نظرنا للافراد مترابطين، عندئذ سيصبح تقييم الآخرين شرطا ضروريا لتقييم الفرد بالذات. هذا التفكير هو في لب المشاريع النسوية التي تسعى للتوفيق بين ما كان يُرى كمشاريع "ذكورية" للاستقلالية والهوية والفردية من جهة والمشاريع النسوية الأكثر علائقية وترابطا.التفكير حول الفرد يأخذ على الأقل ثلاثة أشكال رئيسية.

 الشكل الاول هو الفردية القوية.

 هذه الرؤية تؤمن ان الافراد يشبهون كرات البليارد: منعزلين، منفصلين وكيانات قائمة بذاتها،يقف بعضها مقابل البعض الآخر. هذه الرؤية كانت سائدة خصيصا في التيار الرئيسي للفلسفة الغربية، الذي مال لتمجيد القدرة على اتخاذ القرارات العقلانية المستقلة فوق كل القدرات الانسانية الاخرى. هذه الفردانية تسللت الى فهمنا للكائنات الاخرى ايضا. انها مكنّتنا للاعتقاد اننا نستطيع فهم أي كائن حي فقط عبر عزله وفحص وظائفه الداخلية.الفردانية القوية جرى تحدّيها بانتظام وعلى نطاق واسع.

الشكل الثاني: العلاقات التأسيسية

 هذه الرؤية للفرد حسب الابستيمولوجيين النسويين امثال انيت باير،اني دونشن،جون كرستمن، تدافع عن الدور التأسيسي الذي تلعبه العلاقات الاجتماعية في تأطير ما نحن عليه وما نعرفه حول العالم. طبقا لهذه الرؤية، نحن كافراد نعتمد بطريقة ما على علاقاتنا الاجتماعية. واذا كانت العلاقات الاجتماعية تأسيسية لطبيعة الكائن الحي، عندئذ فان أي كائن يدخل في علاقة اجتماعية ينطبع بتلك العلاقات. لا توجد حيوانات مثل البشر تتكون وتتحدد بعلاقاتها الاجتماعية.

 الشكل الثالث: الرؤية البيئية

هذا الشكل من التفكير حول الفرد ينظر وراء الترابطات الاجتماعية وبعمومية اكثر الى الترابطات البيئية. واذا كانت الاعتمادية المتبادلة كانت يُنظر اليها في الأصل كعلاقات اجتماعية، فان التفكير العلائقي البيئي كان له وجود طويل ومستمر.

مثالان، احدهما خارجي والثاني داخلي، سيكون لهما دور توضيحي هنا. الايكولوجي والموسيقي بيرني كراش Bernie Krause ينقل قصة عن مجموعة من الفيلة في الملاوي،في مكان يسمى سنغاباي. الخصائص الجيولوجية في منطقة باي مكنت المجموعة من تطوير لهجة خاصة بها عبر دمج أصداء من جدران الجرف الصخري ضمن اتصالاتها. طبقا لكراش، فرادة بيئة المجموعة تعني انه لا جماعة اخرى من الفيلة على الارض تشترك بهذه اللهجة. اذا كانت العلاقات الاجتماعية والبيئية خارجية، فان العلاقات الميكروبية داخلية. الاجساد الانسانية مصنوعة من خلايا وأجزاء ميكروبية بكميات متساوية تقريبا. العلاقات الوثيقة بين كل فرد وميكروباته تجعل هناك امكانية للقدرات الفسيلوجية التي ليست نتاجا لتطور كائن انساني،ان تؤثر على نحافة او بدانة الاشخاص.

الايكولوجيون الميكروبيون حتى عندما يعترفون بعلاقات الاعتمادية، فان لغتهم تؤيد الفردية في التمييز بين جسم الانسان والميكروبات التي تعيش فيه او فوقه. هنا رؤية لكينونتين متميزتين، "لفردين" اثنين  يعملان مجتمعان نحو غاية مشتركة وهي الصحة .

في ضوء كل ما تقدم نستطيع القول ان الفرد الانساني يتشكل بالعلاقات بين ميكروباته وبنائه الخلوي، بالاضافة الى علاقاته الخارجية الاجتماعية و البيئية. نحن معتمدون على ارتباطاتنا. هناك جمال في هذه الرؤية الايجابية للاعتمادية الايكولوجية. انها تتحدى الفردية الانعزالية للحداثة الغربية بينما تحافظ على الهوية والفرادة. انها تعكس ارتباط عميق بالعالم الحي حولنا،تحدد وتحافظ على منْ نحن. بفضل هذه الرؤية، نستطيع امتلاك علاقاتنا وإنهائها ايضا.

الترابط ليس اعتمادية متبادلة

رغم اننا نرتاح في كوننا مترابطين interconnected بقوة في هذه الطريقة، لكن الاعتمادية المتبادلة interdependence تعني اننا بطريقة او باخرى معتمدون . ومع استمرار الثقافة الايكولوجية في التطور من خلال التحقيق العلمي والتقدم التكنلوجي، فهي بشكل متزايد تقبل ليس فقط علاقات الاعتمادية التي نحن مرتاحون بها سلفا، وانما ايضا علاقاتنا الاعتمادية المتبادلة. وكلما اعترفنا اكثر بالفرق بين الترابط والاعتمادية ، كلما اصبحنا غير مرتاحين. الاختلافات تتحدى ما تسميه الفيلسوفة لوران كود Lorraine Code بخيالنا الاجتماعي. العلاقات الاعتمادية هي تلك التي تربط فردين متميزين الى بعضهما. عندما تحدّث المفكرون النسويون عن "علاقات اجتماعية تأسيسية"، هم تركوا ضمنا الافتراض بان الفرد يقف وحيدا. نعم الافراد يتفاعلون ويؤثرون على آخرين ، ولكن لايزالون يشبهون كثيرا كرات البليارد في الفردية القوية.

الاعتمادية المتبادلة تعرض منظورا مختلفا جدا، تدعونا للتفكير بان وجودنا ذاته يعتمد على علاقات معينة. هذا هو الخوف الذي تعرب عنه البايولوجية كريتي شارم Kriti Sharma في مقدمة كتابها اللامع (الاعتمادية المتبادلة،2015)، مجادلة بانه رغم ان المصطلح استُعمل في عدد هائل من الطرق، لكنه بالاساس يدور حول هذا السؤال الوجودي  - حول ماذا أكون.

تعتقد شارما ان فهم الاعتمادية المتبادلة يتطلب تحولين اثنين متميزين في خيالنا الاجتماعي. الاول هي تصفه كـ حركة"بسيطة" من النظر الى الاشياء في عزلة الى النظر الى الاشياء في تفاعل. هذا التحول هو محبوب، ربما اول ما اتخذه المفكرون النسويون في تحدي الفردية القوية، والآن يتم تبنّيه تقريبا من جانب كل فرد. من الصعب تصور فيلسوف قادر على تجاهل الدليل الواسع والمقنع في الطرق التي نعمل بها في التفاعل بدلا من العزلة. المثال الرئيسي على هذا هو عمل علم النفس الاخلاقي الذي قلب جذريا الرؤية التقليدية في الاخلاق التي تفضل كثيرا العقل على حساب العواطف.

اذا كان التحول الاول للكاتبة مرغوب، فان الثاني اكثر أهمية. هي تدعو للتحرك من النظر الى الاشياء في تفاعل الى النظر الى الاشياء كمتأسسة بشكل متبادل. بهذا هي تعني ان الاشياء توجد دائما فقط نتيجة لإعتماديتها التبادلية.

الرؤية المظلمة

التحول الأول هو سهل من حيث المقارنة لأنه لا يطلب منا ان نغير رؤيتنا للعالم. لكن التحول الثاني يشير لمشكلة غير مريحة  وهي مشكلة قديمة: كيف يمكن لهوية شيء ما ان تعتمد على علاقات تأسيسية اما في الداخل او في الخارج؟ الفيلسوف اليوناني بلوتارخس plutarch عرض مشكلة كهذه في حكايته عن سفينة ثيسوس. طبقا له، بعد ان رجع ثيسوس بعد ذبح الوحش،احتفظ الاثنيون بسفينته لتنير الأجيال القادمة. هم بانتظام اخذوا منها الالواح القديمة والمسامير الصدئة واستبدلوها باخرى جديدة وقوية حتى لم يتبق أي شيء من السفينة . فهل لازالت السفينة أصلية؟ ان لم تكن كذلك، متى تتوقف عن ان تكون سفينة اصلية؟ بلوراش يصف هذا المثال الذي أورده الفلاسفة ، بعضهم اعتقد ان السفينة بقيت كما هي، آخرون عارضوا ذلك. (يجب الاشارة الى ان جميع المواد الخلوية في أجسامنا هي ايضا تُستبدل كليا في كل سبع سنوات).

الاعتمادية المتبادلة تفتح امكانية التغيير الراديكالي في الأنظمة المترابطة ديناميكيا بطريقة مشابهة، لأن تلك التي نرتبط بها بشكل متبادل هي ذاتها تتغير. التحولات الراديكالية في علاقاتنا – الاجتماعية والبيئية وحتى الميكروبية – تغيّرنا جذريا. لكن هذا يعني ان الذات المستقرة المعزولة ربما ليست اكثر من خيال نافع. هناك حالة ظلام . العلاقات التي نأخذها ابتداءً كأساس لبنائنا،لكي تساعد في خياراتنا الحرة وذات القيمة الاخلاقية، هي بدلا من ذلك تجعلنا مشروطين كليا، معتمدين تماما في هويتنا على العالم المتحول حولنا. لو نقبل اننا معتمدين في علاقاتنا، هذا يُضعف مفاهيم الذات والفرد والهوية التي تأسسنا عليها. واخيرا ماذا تبقى؟ ماذا لو لم يكن هناك أي شيء ابدا كشيء يجب ان يكون فردا مستقلا وحرا ؟ الوجودية قامت على هذا النوع من الرعب: سارتر نظر اليها اولاً في جذور شجرة الكستناء، وشعر بالغثيان في كونه غير مرحب به.

ما نقوله ان التحول المفاهيمي من الارتباط الى الاعتمادية يحوّل الطرق التي نتصور بها ما يجب ان يكون عليه الفرد، و الذات، ونتيجة هذا التحول هو تتابع في التأثيرات العملية التي لا نستطيع نتوقعها جيدا لكن نستطيع فقط نتصورها كرعب.عالم تتآكل فيه فكرة الفرد التي ترسخ احترام الاستقلالية. أي شخص سيرغب بهذا العالم الجديد الشجاع؟

الجانب المظلم للاعتمادية المتبادلة يستلهم كثيرا من البايولوجيا الناشئة. اذا كان البعض يرى العلاقات المتبادلة  والتفاعلية، هناك آخرون يرون انحلال الذات و علم الطفيليات. لو ترافق هذا مع مخاوف الفردية الناجمة من التكنلوجيا الرقمية فان الصورة تبدو اكثر ظلاما. لم تعد الذات بطريقة ما معزولة وداخلية ومستقرة، وانما بدلا من ذلك هي ديناميكية و ومعلنة وخارجية – اُبلغت واصطبغت بتكنلوجيات هائلة تسيطر علينا بشكل متزايد بطرق صريحة وضمنية، ابستمية وأخلاقية. نحن نمدد ذاتنا بطرق لانفهمها تماما، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي التي تخبرنا اننا نحتاج الكثير من الأصدقاء ، ومن خلال البنوك البايولوجية التي تجعلنا نعتقد اننا نحتاج معرفة تاريخنا الوراثي، ومن خلال أسواق الاستهلاك التي تخبرنا عن ماذا نريد ومتى نريد.

هذه التمددات توعد (وفق الرؤية الايجابية) وتهدد (وفق الرؤية السلبية) باعادة صياغتنا وإعادة تكويننا وتأسيسنا. لو نظرنا الى هذه التحديات للذات كتحديات للترابط،عندئذ نحن نحافظ على اساس في الفرد، مركز في شبكة الارتباطات. عندما يُرى الفرد كمعتمد حقا على علاقاته، فان تحوّلا سريعا في طبيعة تلك العلاقات يمكن ان يحوّل راديكاليا ليس فقط الكيفية التي يتم بها تصوّر الفرد، وانما ما هية الفرد. هذه التحولات يمكن ان تكون مرعبة.

***

حاتم حميد محسن

.....................

The Horror of Relations, philosophy Now, Oct/Nov 2022

 

في المثقف اليوم