أقلام فكرية

فانون وأرنديت.. من أجل رؤية تركيبة عن العنف

بمناسبة ذكرى وفاة فانون

أتناول آراء فانون في "معذّبو الأرض" من أجل تأويل آرائه بوصفها مكمّلة لآراء أرنديت عن العنف مع أنّ فانون لم يذكر أرنديت التي كانت على معرفة تامّة بتأثيره الواسع، وربّما لم يكن يعرف بوجودها أصلاً. فالشّعبيّة التي حظيَ بها كتاب "معذبو الأرض" بين القرّاء والدّارسين حول العالم كانت من محفّزات أرنديت على كتابة مقالتها "في العنف" التي قُرِأت كثيرًا باعتبارها نقداً لتمجيد العنف من قبل فانون، فقد كتبت أرنديت في هامش مقالتها موضّحة سبب مناقشتها لكتاب "معذبو الأرض" فقالت: "أعود إلى هذا العمل لتأثيره الكبير على أجيال من الدّارسين. وعلى كلّ حال، فقد أبدى فانون شكوكاً فيما يتعلّق بالعنف أكثر من إعجابه به، ويبدو أنّ الفصل الذي قُرِئ من الكتاب بشكل واسع هو الفصل الأوّل المتعلّق بالعنف فقطّ. حيث يرى فانون أنّه إذا لم تُقاوم الوحشيّة المحضة والشّاملة فورًا فإنّها تدمّر أيّ تحرّك من أجل التّحرّر في غضون أسابيع".[1]

لم تتحرّ أرنديت رأيها النّقديّ على أهمّيّته، بل على العكس من ذلك ظلّت تقتبس من كتاب فانون ما تعتبره تمجِيدا للعنف ويدمجه بالسّلطة،[2]حتى إنّها سخرت من بعض فقراته التي أوردها فانون عن "الأفكار والانفعالات، والتي كان يأمل منها ماركس إطلاق الثّورة مرّة واحدة وإلى الأبد".[3] لذلك تجدها قد أكّدت أنّ فانون مدفوع بكراهية عميقة للمجتمع البرجوازيّ مثل سوريل (Sorel) وبارتون (Barton)، وأنّ هذا العنف الجمعيّ الذي يحتفي به هو الشّكل الأكثر خطورة.[4] لقد لاحظت وهي محقّة أنّ أوّل ما يختفي في العمل المسلّح كما في العمل الثّوريّ هو قيمة الفرد لتحلّ محلّه قيمة الجماعة بديلًا في محاولة لشدّ تماسك الجماعة بمشاعر تثبّت قوّتها.. إنّ الجماعة التي تهدف إلى البحث عن أمنها الخاصّ في كلّ أعمالها الإجراميّة أو السّياسيّة، من المؤكّد أنّها سوف تطلب من الفرد أن يقوم بأعمال إجباريّة لحرق جسوره مع المجتمع قبل أن تعترف به ضمن عناصرها".[5]

وتأسيسا على ما ذكر، قد تبدو وجهات نظر أرنديت وفانون متعارضة، إذا قبلنا بتحليل أرنديت للسّلطة والعنف فإنّ التّعارض ذاك يبدو تفنيدًا قويّا لوجهة نظر فانون. لكن يكشف الفحص الدّقيق عن أنّ الأمور ليست حتميّة وبهذا الوضوح الذي تبدو عليه للوهلة الأولى، إذ يكمّل أحدهما ما اعترى تحليل الآخر من نقص. لا أقصد بهذا الموقف تأهيل خطاب فانون الاستفزازيّ ولا تلطيف نقد أرنديت للعنف الثّوريّ؛ بقدر ماهو استكشاف مواقع القوّة والضّعف في تحليل كلّ منهما، أذ يُمَكِّنُ من فهم جدليّة العلاقة المعقّدة بين العنف واللاّعنف والسّلطة بشكل أفضل. فإذا تأمّلنا الفقرات التي أوردتها أرنديت من كتابات فانون وجدناها تؤكّد على معنى الغضب العفويّ، وعن عنف من تمّ إذلالهم بالاحتلال وظُلِموا وجُرِّدوا من إنسانيّتهم من قبل المحتلّ. وحول هذا تعقّب بالقول: "أن يكون العنف أمرا ينتج عن الغضب مسألة يتّفق عليها الجميع، ومن شأن الغضب ـحقّا أن يكون لاعقلانيًا ولا مُرضيًا. ولكن أليس هذا حال كافّة العواطف البشريّة الأخرى؟ ليس الغضب بأيّ حال من الأحوال ردّ فعل تلقائيّ إزاء أوضاع اجتماعيّة قد تبدو غير قابلة للتّغيير. بل إنّ الغضب يظهر فقطّ حينما يتعذّر حدوث تبدّل في الأوضاع، فنحن نتصرّف بغضب حينما يخدش حسّ العدالة لدينا. وردّ الفعل هذا ليس من شأنه بأيّ حال من الأحوال أن يعكس شعورنا الشّخصيّ عندما نتعرّض للظّلم، هذا ما يبرهن عليه تاريخ الثّورات جميعا".[6]وبهذا تعرض أرنديت نقطة أخرى "في مواجهة أحداث وشروط اجتماعيّة مثيرة للغضب، حيث يكون ثمّة إغراء كبير بضرورة اللّجوء إلى العنف بسبب قدرته التّدميريّة وميزته كعمل فوريّ. إنّ التّحرّك بسرعة مدروسة يتناقض تمامًا مع انتفاضة الغضب والعنف، وهو ما لا يجعل منه عملاً لاعقلانيًّا على الإطلاق، بل على العكس من ذلك، فإنّنا نلاحظ في الحياة الخاصّة كما في الحياة العامّة، أنّ ثمّة أوضاعا تكون فيها القدرة التّدميريّة  للعنف هي التّرياق الوحيد... إنّ العنف في ظروف معيّنة أي ذلك الفعل المنجز من دون استشارة العقل، من دون كلام، ومن دون إعمال الفكر في النّتائج يصبح هو الوسيلة الوحيدة لإعادة التّوازن لميزان العدالة. في هذا المعنى يُصبح من الواضح أنّ الغضب والعنف الذي قد يواكبه أحيانًا ينتميان إلى العواطف الإنسانيّة "الطّبيعيّة"، أمّا شفاء الإنسان منهما فلا يعني شيئا آخر غير نزع الإنسانيّة عنه".[7] بالرّغم من إعجاب أرنديت بفلسفة غاندي وباستعماله لإستراتيجيّة اللاّعنف في مواجهة الاحتلال إلاّ أنّها لم تكن مع اللاّعنف وتبرّر موقفها بالقول: "عند حصول المجابهة أو المواجهة المباشرة بين العنف والسّلطة لا يمكن لأحد أن يشكّ فيما سوف تتمخّض عنه المجابهة. فلو أنّ إستراتيجيّة غاندي النّاجحة والقويّة التي قامت على مبدأ المقاومة اللاّعنفيّة وجدت نفسها مضطرّة لمجابهة روسيا ستالين مثلا، أو ألمانيا هتلر، أو يابان ما قبل الحرب بدلا من إنكلترا فمن المؤكّد أنّ النّتيجة ما كان أبدا من شأنها أن تكون رحيل الاستعمار عن الهند، بل كانت ستحدث مجزرة رهيبة وخضوع عامّ".[8] ويرى فانون نفس رأي أرنديت أنّ الإستراتيجيّة السلميّة على الطّريقة الغانديّة ليس لها فرص نجاح في مستعمرات أفريقيّة لاسيما الجزائر؛ لأنّ فرنسا كانت مصمّمة على استعمال كافّة الوسائل الممكنة لإبقائها تحت الاحتلال، وأنّ محاولات بعض الجزائريّين لأن يكونوا "معتدلين وعقلانيّين" لم تنجح إلاّ في تقوية النّفوذ الفرنسيّ. إنّ الأطروحة الأساس في "معذبو الأرض" المقاومة المسلّحة هي الطّريقة الوحيدة لتحطيم النّظام الكولونياليّ.

ومن اللاّفت فعلا إشارة أرنديت في مقالتها "في العنف" إلى تورّط أمريكا في حرب فيتنام، "فلقد شاهد العالم كيف استطاع الفيتناميّون تحييد التّفوّق الأمريكيّ الهائل في العدّة والعتاد ووسائل العنف الرّهيب وأساليبه في حرب غير متوازنة لا يملكون فيها العتاد اللاّزم بصفوف منظّمة بشكل محكم جعل قوّتها الميدانيّة أكبر. من المؤكّد أنّ هذا الدّرس المستفاد من تاريخ حرب العصابات أضحى قديما قدم هزيمة جيش نابليون في إسبانيا المعروف حتى ذلك الحين بالجيش الذي لا يُقهر"،[9] وما ذلك إلاّ بفعل ما أحرزت الإستراتيجيّات والتّكتيكات الحربيّة من تطوّر، وما أنجز في مجال العتاد واللّوجيستيك من تقدّم تقنيّ مهول. وبنفس اللّهجة أشار فانون إلى أنّ حرب العصابات التي خاضها الجزائريّون ضدّ الاحتلال الفرنسيّ من جهة، تفيد الدّرس ذاته في كيفيّة تحييد "تفوّق العدوّ" وهزيمته بعد تعطيل قدرته على امتلاك أدوات العنف واستعمالها أو إدارتها في المعركة، وتؤكّد من جهة ثانية انتصار القوّة على العنف. فقد استطاع الجزائريّون بصلابة العزيمة وقوّة التّصميم إحراز النّصر وتحقيق الاستقلال على الرّغم من نجاح الفرنسيّين في تحطيم جبهة التّحرير الوطنيّ.

لا أريد قصر الأمر هنا على عقد مثل هذه المقارنات، فهناك فقرات عديدة عند أرنديت تكشف عن ذلك التّشابه الكبير بينها وبين فانون. وما أريده بالأحرى هو توضيح:

ـ كيف أنّ البنية العامّة لحججهما تكمّل بعضها، وأنّ أرنديت برّرت العنف في بعض الظّروف.

ـ أنّ تبريرها للعنف " سيبدو أقلّ مصداقيّة بمقدار ما تبدو الأهداف المستقبليّة المتوخّاة بعيدة في الزّمن، إذ لا يماري أحد في ضرورة استعمال العنف في حالة الدّفاع المشروع عن النّفس عندما لا يكون الخطر باديًا فقطّ بل حتميًّا فتكون الغاية مبرّرة للوسيلة بجلاء".[10]

ـ أنّ ملاحظاتها حول هذا التّبرير كانت سطحيّة وناقصة لاسيما عند وضع ملاحظاتها حول تبرير العنف إلى جانب تمييزها بين التّحرّر والحرّيّة. فإذا كان التّحرّر شرطاً ضروريّاً للحرّيّات العامّة، فإنّ الكفاح من أجل التّحرّر الذي يستخدم العنف ويتضمّنه ممكن التّبرير على الأقلّ بالنّسبة لأولئك الذين ينشدون الحصول على الحرّيّة. إذ لا يقتصر التّحرّر فقطّ على تحقيق التخلّص من الجوع والسّخرة والعمل الذي لا يطاق، وإنّما يتضمّن أيضا القضاء المبرم على اضطهاد الحكومات، وطغيان الأنظمة الشّموليّة، وعلى الاحتلال الذي يستهدف تحطيم قدرة الأهالي ونهب خيرات البلد. علينا أن ندرك أنّ الثّورة تسبقها حرب التّحرير، فالثورة الأمريكيّة التي استشهدت بها أرنديت مثالًا للثّورة الحديثة، والتي قصرت هدفها على تحقيق الحرّيّات العامّة قد سبقتها حرب تحرير لازمها العنف مثل كلّ الحروب.

يسوق "معذّبو الأرض" مجموعة من الحجج التي تسعى لأن تثبت أنّ التّحرّر من الاحتلال وعنف المحتلّ لا يمكن أن يُنجَز إلاّ من خلال الكفاح المسلّح الذي تعتبره أرنديت السّبيل الممكن والوحيد لحصول المضطهدين على الحرّيّة التي تمجّدها كثيرا. وقد برّرت عند وصولها إلى نيويورك بداية الأربعينيّات في موقف تاريخيّ مختلف عنف الكفاح المسلّح داعية إلى تشكيل جيش من يهود العالم لقتال هتلر والقضاء على النّازية.[11]ويكشف التّشابه اللاّفت بين الحجج التي طوّرها كلّ من أرنديت وفانون أنّه في ظلّ ظروف تاريخيّة معيّنة يكون عنف الكفاح المسلّح مبرّراً لمقاومة العدوّ. فهناك شواهد عديدة تؤكّد أنّه لولا عنف المقاومة وكفاحها المسلّح لما بادر الفرنسيّون إلى الاعتراف بالاستقلال الجزائر لاسيما بعد أن كشفت الأوضاع عن سعي أصحاب الأقدام السّود وأنصارهم في الجيش الفرنسيّ إلى تخريب قرار ديغول بالموافقة على استقلالها بعد اتفاقات إيفان.

يبدو خطاب فانون وكأنّه احتفاء غير مقيّد بالعنف، وهو ما جعله عرضة لانتقاد شديد من قبل أرنديت. لكن ينبغي التّمييز هنا بين ما قام به "معذّبو الأرض" من دور استفزازيّ وتحريضيّ، وبين الحجّة الأساس التي يعرضها فانون على طول الكتاب في انتقاد العنف، والتي يمكن نسبتها إليه بعد أن اتّخذ نقده للعنف ثلاثة أوجه:

ـ وجه يكشف عن فهم عميق للعنف الكولونياليّ.

ـ وجه ثانٍ يعتبر النّقد ممارسة ثوريّة مطلوبة لتحطيم العنف الكولونياليّ وإنجاز التّحرّر الفعليّ.

ـ وجه ثالث يجعل النّقد دعوة إلى وضع حدود للعنف.

لقد ركّز فانون على تحليل وإدانة العنف الكولونياليّ في المقام الأوّل، وكان التّحرّر هو اهتمامه الرّئيس، ولم يكن يعني عنده التّحرّر مجرّد الاستقلال الوطنيّ فحسب، وإن كان يعتبر الاستقلال شرطا ضروريّا للتّحرّر. ففي معرض تحليله الذي غطّى معظم صفحات الكتاب يتناول معيقات التّحرّر، والطّرق التي تتمّ بها خيانة الكفاح من أجل التّحرّر، ومن هنا كان نقده للقيادات البعيدة عن هموم الشعب وتطلّعاته لاذعا، ولم تكن إدانته للبرجوازيّة التي تبنت أسوأ وجوه الذّهنيّة الكولونياليّة عديمة الفائدة.[12] قد نعثر بالكاد على تفسير معنى التّحرّر عند فانون من خلال تلميحات قليلة، لكنّها نكتشف صلته القويّة بأفق مفهوم السّلطة والحرّيّة العامّة عند أرنديت، نجد فانون يؤكّد على دور التّعليم في التّنميّة البشريّة وعلى أهمّيّة مؤسّسة الحزب كوسيلة من وسائل المجتمع الأصيلة في تكوين المواطن وتأهيله للمشاركة الفاعلة في إدارة الشّأن العامّ[13]، باعتبار أنّ الحزب ليس سلطة ولكنّه منظّمة تتطلب الحرّيّة وأقصى درجات النّشاط والمشاركة لكي يمارس المواطنون من خلالها سلطتهم وإرادتهم.[14] لم يرسم فانون صورة للمجتمع الجديد الذي يتصوّره أو يطمح إليه لأنه يرى أنّ المجتمع الذي يأمل سينشأ حتما عند تحطيم النّظام الكولونياليّ وهزيمة عنفه، لذلك نجده يتحدّث عن "إنسانيّة جديدة" وعن "تاريخ جديد للبشريّة". أمّا أرنديت فهي ترى أنّ الثّورة تعتبر بداية عهد جديد تدشّن نظاما عالميّا جديدا، وبذلك يكسر فانون كما أرنديت حلقة العنف والعنف المضادّ مادام هدف الثّورة لديهما هو الحرّيّة أو التّحرّر. ورغم تكامل الأطروحتين فإنّني لا أتصوّر إمكانيّة التّوفيق بين فانون وأرنديت، لأنّ الأوّل لم يهتمّ بتطوير حجّة شاملة حول علاقة السّلطة بالعنف وإن أثبت بالشّكل الملموس لماذا يكون النّضال المسلّح ضروريا للتّغلّب على النّظام الكولونياليّ فكان بذلك على وعي بخطورة استمرار دائرة العنف. فمن يعانون اضطهاد الاحتلال يحلمون أساساً بالتّخلص من كابوسه المذلّ والمظلم، ويسعون إلى استبداله بنظام وطنيّ ورشيد مع أنّ الاستقلال ليس هو الهدف النّهائيّ لكفاحهم لوعيهم المبكّر بخطورة هيمنة العقليّة الكولونياليّة على "القيادات المحلّيّة"، وبدورها المدمّر في استمرار العنف والإبقاء على الاحتلال بشكل مطوّر وجديد. من هنا تبدو رؤية فانون عن التّحرّر قريبة جدًّا مما أسمته أرنديت "روح الثّورة" التي تتجلّى بالحرّيّة العامّة، وهو ما يضع أرنديت موضع المصحّح لمواقف فانون خصوصا بتحذيرها من الإسراف في العنف وعدم السّعي إلى تقييده. ففي ظلّ التّاريخ الحديث الذي تميّزت كثير من وقائعه بشيوع الإساءة بتبرير العنف فإنّ التّسليم بظروف محدّدة تُبرّرُ العنف يُثير السّؤال عن تلك الإكراهات التي تبرّر استعماله وعمّن يحدّدها. ولا أعتقد أنّ هناك قاعدة أو طريقة نظريّة مجرّدة للجواب عن السّؤال: متى يكون العنف مبرّراً؟ وأسمح لنفسي بالتّشكيك في إمكانيّة الاحتكام إلى أيً حجّة تقوم دليلا على ذلك دون أن يساء استعمالها. فحتى ذريعة الدّفاع عن النّفس لا تسلم دائما من إساءة الاستعمال؛ وأقوى شاهد على ذلك هو استعمال ألإدارة الأمريكيّة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مبرّر الدّفاع عن النّفس في ترتيب ذرائع كاذبة لشنّ العدوان خارج كلّ شرعيّة أو مشروعيّة على الشّعوب تحت مسمّى الحرب الاستباقيّة، وقد كان العراق في مقدّم تلك الدّول التي تعرّضت للعدوان، فبعدما دمّر الاحتلال الأمريكيّ جميع بنياتها التّحتيّة بحجّة امتلاك أسلحة الدّمار الشّامل، اتّضح لاحقًا كذب هذه الحجّة/المبرّر لكن بعد فوات الأوان. ومن ثمّة فإنّ تأكيد أرنديت على ما يتطلّب تبرير العنف من حكمة وحسن تمييز يُمسك بزمام الظّروف الواقعيّة الملموسة، ويقدّم أسباباً محدّدة مفيد يمكن اعتباره جوهر السّياسة من حيث هي إقناع عقليّ ينتج عن نقاش عامّ مفتوح وجدّي يسمح بتبادل الآراء حول قضايا الشّأن العامّ، ويتفحّص بدقّة وجهات النّظر المختلفة يُقَدَم لها شرحاً وتقييماً من قبل المشاركين في محاولة لاختبارها قبل اتّخاذ أيّ قرار خطير قد يتعلّق بالتورّط في العنف، وهو ما يبيّن أنّ خلق فضاء عامّ يخوّل سلطة تنتج عن المشاركة وتستند إليها مسألة حيويّة جدًّا خصوصا وأنّ تغييب المجتمع وتعطيل فاعليّته يترك المجال مفتوحًا يتحكّم به العنف والعنف المضادّ. وباعتماد هذا المنظور فإنّ تطوير فانون لحجّة سياسيّة تبرّر الكفاح المسلّح ضدّ النّظام الكولونياليّ ترك المجال مفتوحًا لإمكانيّة مواجهة الاعتراض ليس لقصور فيها ولكن بالأحرى لجدّيّتها؛ ففي الحجّة السّياسيّة لا مهرب من الاعتراف بإمكانيّة الخطأ وعدم اليقين، فبصرف النّظر عمّا تقدمه الحجّة من تبرير مقنع وقويّ يبقى من المحتمل أو المرجّح أن تكون هناك عواقب غير متوقّعه قد تتطلب مراجعة للأحكام السّياسية. وإذا ما استدعينا بنيامين هنا فإنّه سيخبرنا أنّ هناك حالات استثنائيّة قد نقرر فيها تجاهل وصيّة: "لا تقتل" لأنّه على الأشخاص كما على المجتمعات أن تواجه تلك المواقف بنفسها، وأن يأخذ الجميع على عاتقه مسؤوليّة تجاهل هذه الوصيّة. ويمكن في هذا السّياق أيضا الاستفادة من دعوة أرنديت إلى فتح نقاش عامّ، ومن تحذيرها من أنّه إذا فشلت السّياسة والسّلطة فإنّه لا يبقى للانفعالات قيود تكبح استعمال العنف.

***

د. علي رسول الربيعي

.....................

[1] Arendt.,Crises of the Republic, New York: Harcourt Brace & World, 1972, p.116.

[2] Ardith, On Voilence.p. 71.

[3] Ardith, On Voilence, p.122.

[4] Ardith, On Voilence, p.164.

[5] Arendt, Crises of the Republic, p. 164.

[6] أرنديت، في العنف، ص 56.

[7] أرنديت، حنة: في العنف ص 57

[8] أرنديت، حنة: في العنف، ص  47- 48

[9] أرنديت، حنة: في العنف ص 45 .

[10] أرنديت، حنة: في العنف ص 46 .

[11] Arendt, The Jewish Writing, New York, Schocken Book, 2007, p137.

[12] Fanon,F,. The Wretched of the Earth, trans, Richard Philcox, New York, Grove Press, 2004,P.180.

[13] Fanon,TheWretched of the Earth, p.124.

[14] Fanon,The Wretched of the Earth, p.128.

 

 

في المثقف اليوم