أقلام فكرية

القابلية للتصديق

لماذا نُصدّق الأكاذيب والشائعات؟ هل لأنَّها قابلة للتصديق هكذا رغم معرفتنا بها أم أنَّ هناك نقصّاً في خبراتنا ومعارفنا؟ هل ثمة عنصرٌ في الأكاذيب يُمررها على الوعي دون نقدٍ؟! للإجابة عن أسئلةٍ كهذه، يجب التأكيد على كلمة (القابلية ability)، فهي تعني الإمكانية الذاتية لتقبُل ما يُقال في وضع تلقٍ دون مُساءلةٍ. ولكن: هل تلك الإمكانية واعيةٌ ولديها المبررات الكافية لاتخاذ المواقف؟!

يعني مصطلحُ  القابلية لكذا...) إمكانيةَ عمل شيء ما له نتائج مؤثرة أو لا تؤثر. وأنَّ هناك أمراً معيناً يصل بالإنسان إلى تلك المرحلة، ويكون جزءاً من أفكاره ودافعاً من دوافعه المُلّحة. لكن وعي الإنسان القابل لتصديق الموضوعات المتداولة– سواء أكان متجسداً في شخصٍ أم جماعة – يدفعنا إلى التفرقةَ بين مستويين:

أولاً: هناك الإمكانية بوصفها مسارَ قضيةٍ أو موضوعٍ أو فكرةٍ أو خطابٍ. وهذا المسار موجود في المجتمعات تحت ضغوط الثقافة السائدة، والأخيرةُ في الحقيقة تحاول كوظيفة رمزية توجيه المسارات إلى خطابات معينةٍ بحسب السمات التكوينية لها. والتوجيةُ يجري بشكلٍّ تلقائي دون أن يشعر به الناسُ، ويختلف من سياق إلى غيره ويسهم هؤلاء الناس في صناعته بنصيب وافر من التداول والأخذ والطرح والرد. لدرجة أنك عندما تجري مسحاً للآراء المقبولة وهي ليست حقيقة، ستندهش من مقدار التضخُم والإضافات التي قيلت فيها وجعلتها عند هذا المستوى.

ثانياً: هناك القبول العام الذي يُوجّه هذه المعطيات صوبَ ناحيةٍ بعينها. أي عندما يتم قبول هذه الفكرة أو ذاك الخطاب، فإنّ القبول إشارة إلى جر الشيء المقبول إلى مستوى آخر من التأثير. إذ لا يخضع الشيء المقبول للفحص والنقد، ولكن من مرةٍ إلى أخرى، يمتثل الوعي لتلك العملية بشكل متواصل حتى يصبح وعياً مستلّباً.

وبالتالي قد تأتي المبررات التي سيتمّ بناءً عليها قبول الموضوعات والأقوال من عدمه. وسيأخذ القبولُ مجراه فارضاً وجوده على وجهات النظر المختلفة. إذن (فكرة القابلية) بمثابة إمكانيةِ السماح لما هو ممكن في (مستواه) إنتقالاً إلى (مستوى آخر)، فيصبح الممكنُ جزءاً من نظام المعرفة عموماً، حيث يكون الأنا أو الـ" نحن" لاعباً أساسياً في تلك العملية المتبادلة. فهما اللذان يفتحان الطريق لقبول الشائع والرائج على أنَّهما حقيقة. وبقدر ما تكون العلاقة بينهما قائمةً على الشفافية أو التسلُّط يأتي وعي الأفراد يقظاً أو غافلاً عما يدور حولهم.

وقد يتعامل الأفرادُ مع الأكاذيب والشائعات على أنها جزءٌ مما يقبله الإنسان وكفى. لأنَّ ملء العقل بما يشغل الفراغ الحاصل أمر لا تتركه أنظمة بعض المجتمعات للصدفة، فحركة الفكر تتطلب محتوى جديراً بالعقل. وفي حالة ما لم يوجد المحتوى اللائق، ستكون الشائعات هي الغذاء اليومي للناس. ولن يكون هناك حد فاصلٌّ بين الشائعات والواقع المعيش طالما لا يستطيع الناس التمييز. وتدريجياً يتحول الوعي إلى (وعاء عام) يتقبل مع يطرح له وقد يذبُل حتى الإضمحلال. وستظهر بالتأكيد أمراض فكرية شديدة الخطورة لدى الأفراد مثل: ضعف الفهم وتشوش التفكير وانخفاض الآمال والإكتفاء باليومي والعابر والإنشغال بالأشياء الهامشية وتسطيح الرؤى.

ولذلك لوجئنا إلى معانٍ تقترب من فكرة (قابلية التصديق) لنحدد مضمونها بالنسبة إلى الإنسان، لوجدناها مختلفةَ المعنى هكذا:

القدرة: إذ ليست القابلية للتصديق قدرةً بالمعنى المعروف، لأنَّ القدرة إمكانيات فاعلة active تتجسد في أعمال للذات، ويستطيع أنْ يحققها الإنسان مؤثراً في محيطه. فلئن كان هناك منْ له قدرة على صناعة شيءٍ أو إنتاج شيءٍ أو إنجاز شيءٍ آخر، فهذه الأعمال تتخلق في الواقع اعتماداً على ما يمتلكه الإنسان من قدرات ذاتية (معرفية – نفسية - فكرية- جسمية...)، بينما القابلية للتصديق إمكانية متوجهة إلى الذات، من الخارج إلى الداخل وتقتحم وجود الإنسان رأساً. وليس هذا فقط، بل تشكِّل بعضاً من طريقة تفكيره ورأيه ومواقفه إزاء الأشياء والأحداث والأشخاص.

التمكُّن: التمكُّن هو القدرة على إمتلاك ناصية شيء ما أو مهارة معينة أو معرفة محددة. وهو الوصول إلى مرحلة القبول بهذا الشيء، لدرجة أنَّه يصبح موضوعاً محدداً بالنسبة للذات المتمكنة. ولكن إتساقاً مع ما سبق لا يعد القابل للتصديق من  جنس هذا التمكُّن الخاص، لأنَّ التمكن جهد مبذول بوعيٍ تجاه ما نريد التمكُّن منه عاجلاً أم آجلاً.

الكفاءة: لا تعد القابلية للتصديق كفاءةً، فالكفاءة بمثابة إضافة وزيادة تمكنان شخصاً من إنجاز عملٍّ بعينه. وبالتالي حينما نقول: إنَّ شخصاً معيناً كفؤٌ لهذه المهمة يعنى كونه إنساناً فاعلاً وقادراً على إتمامها بنجاح. وكل ذلك لا يتوافر في معنى القابلية للتصديق من بداية الطريق.

الطاقة: وهي وسع الفرد لأنْ يتقبل شيئاً ما بناء على روية خاصة به وبناء على قدرات يتمتع بجوانبها الحيوية. والطاقة بذل الوسع لأجل بلوغ شيء معين، ومن أول وهلة لن يكون معنى طاقة الإنسان موازيا لقابلية التصديق. لأنَّ الإثنتين مختلفتان في البنية وفي طريقة العمل. فالقابلية للتصديق تلغي (طاقةَ الفرد) على الفعل، أي تجعل الإنسان دون طاقةٍ، وهي تنظر إليه باعتباره وجوداً سلبياً. مجرد تراكم بشري ليست له فاعلية خارج ذاته، وإلّا لما صدّق كل ما يقال له بالضرورة.

الحَوْل والطَّوْل: وهما كلمتان متميزتان في اللغة العربية، إذ يتم التصرف في الأمور والتأثير فيما يحيط بالإنسان. ومن حيث المبدأ، فإنَّ الذي يتميز بالحول والقوة يستطيع أنْ يكون رقماً صحيحاً في معادلة الواقع والحياة. ولكن يتبين أن القابلية للتصديق تسلبُ إنسانها تلك الخاصية، تجعله مجرد عرض فارغ ملقٍ على قارعة الآخرين.

ذلك إنَّ القابلية للتصديق تعود بالإنسان إلى كونّه كائناً منفعلاً، أي أنّ الإنسان عندما يكون لديه (قابلية للتصديق  believability) لا يتم الأمر منفصلاً عن تكوين فكري عام يدمجُه والموضوع القابل للتصديق جنباً إلى جنبٍ، بل يصبح الأمر من جملة الأشياء والموضوعات التي تجري في هذا الإتجاه. على سبيل المثال: لو قيلت شائعات أو أخبار متداولة عن شخصيةٍ مشهورةٍ نحن نعرفها، فإنَّ القابلية للتصديق تتوقف على المُناخ العام الذي يصوغ الأخبار، ويساعد على انتشارها وإطلاق بذورها قيد الريح. وتبدو العقول كأنها مستقبلات لخطاب موجودٍ بالفضاء الثقافي، وليس يحتاج أكثر من الوصُول إلى الأسماع حتى يصدق الناسُ ما يُقال.

ومع توجُهات الثقافة الجارية، قد يشارك الناسُ أنفسهم في صياغة الشائعات وإطلاقها على الرغم من كونهم متلقين. لأنَّ الشائعات تختلط بقدرات المتلقي على القول، والتعبير عما يكمن في الثقافة من فراغاتٍ ممتدةٍ. وأحياناً تعتبر الشائعات تنفيساً لما يعتمل في نفوس الناس من غرائز وصراعات نفسيةٍ. عندئذ يكون المتلقي لديه القدرة على أنْ يكون مصدراً للأخبار الكذوبة رغم أنه في مرحلة التلقي السلبي. فمع الوقت ينقلها بمبررات لا واعية إلى الآخرين، وتصبح عالقةً بالمواقف والعلاقات الإجتماعية طالما تستطيع الثقافة إزكاء جوانب القول وترويجه على نطاق واسعٍ. والفرد هنا مجرد صدى رديء للمناخ العام سامحاً للآخرين بالتلاعب بوعيه وأن يصبح رد فعل ليس أكثر.

ولنلاحظ أنَّ سلطة المعرفة (مصدرها ومؤسساتها و رمزيتها وآثارها) تكرس حالة القابلية بوصفها إمكانية مرهونة بمواقف تشبع الوعي حتى النهاية. نظراً لعدم وجود البدائل القوية التي تتفق مع جوهر المعرفة ومناهجها. فالسلطة تمثل بالنسبة إلى الوعي الوصفة السحرية التي تراوغ مقاومته لصالح مركزيتها المفترضة. ويعد الوعي مجالاً خصباً لا لإدراك السلطة بوصفها متجاوزة له، بل باعتبارها ملتحمة به في تحولاته وعناصره وطريقة عمله داخل المجتمع والتاريخ والثقافة.

أي أن السلطة هي أصلاً نوع من (القابلية لأحداث كذا..) في تكوينها وممارسة وجودها، وهي ما نطلق عليه السلطة كأثر يتجاوز موضوعاتها القريبة. لماذا تُوجد السلطة حين لا نتوقع وجودها في المجتمعات الإنسانية عادةً؟! أثر السلطة هنا هو الوجود الممتد والذي نقابله دوماً باساءة التقدير، لأنه يوجد حيثما لا نتوقع وعندما نتوقع لا نقدّره كما هو بالضبط، إذ ينتشر في المناطق الرمادية من حياتنا المشتركة. ويظهر وجود السلطة بإستمرار مع الوعي بحركة المجتمع ووجود الآخر.

وبالتأكيد نمثل نحن البشر أبرز حوامل السلطة دون أنْ ندري وقد نعيد إنتاجها على المدى القريب والمحتمل. بدليل أنَّ المرء لو رأى سلوكاً غير متسقٍ مع العادات والتقاليد أو مع القوانين، سرعان ما تبدو عليه علامات الإستنكار وقد يتخذ موقفاً ملموساً. وهذا معناه أنَّ السلطة تترك أشكالَّها البديلة في موضوعاتٍ حاملةٍ لمعناها ومعاييرها من واقع الثقافة الجارية.

إنَّ انتشار السلطة هي الصفة نفسها التي تجعل الشائعات ممكنةً وقابلةً للتصديق. أي أنَّ الأكاذيب تزدادُ رواجاً في المناطق الرمادية من الوعي الجمعي ضمن المجتمعات الإنسانية. بمعنى أنَّ العلاقة عكسية بين إعمال العقل وزيادة رقعة التسلط، والعلاقة تجعل العقول ضائعة وسط ضجيج الأقوال دون مصدرٍ موثوق لها. ومتى كانت المجتمعات حُرّة ويتمتع أفرادها بحقوق التعبير والتفكير، قلّت درجة القابلية للتصديق. لأن القابلية للتصديق تنتشر في البيئات الأدنى شفافية، والتي يتسطَّح فيها الوعى إلى مساحات أفقية ممتدة طوال الوقت.

في المقابل يعد المجال العام بمثابة مجال عدم القابلية للتصديق، ولذلك كان من طبيعة هذا المجال كونه مجالاً فارزاً لكل ما يُضاد الإنسان، ولكل ما يُضاد التعميّة والقبول من غير شروطٍ. وإنعدام قابلية التصديق يعني إيجاد معايير موضوعية تحتاج إلى تمحيص دائم. والديمقراطية في أحد مستوياتها تدعم عدم القابلية للتصديق، وبخاصة أنها تمثل نطاقاً من العمل المشترك لأجل الآخر حاضراً وغائباً. وتلك الوضعية تتطلب إقراراً بالثقة في العقل، ولكنه في الوقت نفسه لن يكون باباً خلفياً لمرور الأكاذيب والمزاعم دون توقفٍ.

لعلَّ عدم القابلية للتصديق سمةٌ من سمات التنوع والإختلاف، ويُقصد بها عدم القابلية لأن يكون( عقلُّ الإنسان) موضوعاً رديئاً وكفى، وألّا يصبح كالورقة البيضاء – عبارة جون لوك مرة أخرى ولكن في سياق مختلف- التي يكتب عليها أيُّ عابر سبيل ما يشاء. وتلك هي الكارثة التي تشهدها مجتمعات أقل شفافية، حيث تأخذ الأكاذيب والشائعات دورتها الشعبوية مروراً على أغلبِ العقول، حتى تشطب ما يبديه الإنسان من نقدٍ أو معرفةٍ حقيقيةٍ.

***

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم