أقلام فكرية

كوكّبُ الفتوى

"لا تقف الفتوي على أعتاب الدين فقط، بل تشكل أيضاً رؤى الفكر والحياة.."

"يمارس المفكر العربي أفكاره بذهنية الإفتاء التي رضعها من الثقافة الموروثة والسائدة.."

أوصافٌ كثيرةٌ هي التي وسمت كوكبَ الأرض، منها الكوكب الأزرق بفضل الألوان الزرقاء التي تعكسها مياة البحار والمحيطات والأنهار، ومنها كذلك أنَّ الأرض هي الكوكب الأخضر ارتباطاً بكونها مغطاةً بالغابات والنباتات الخضراء. وليس هذان الوصفان الطبيعيان هما الوحيدين فقط، بل قد يُوصف كوكبنا بألوان ثقافيةٍ أخرى: كوكب العولمة، كوكب الشركات العابرة للحدود، كوكب أنماط الحياة المتنوعة، كوكب الضوضاء، كوكب الحروب والصراعات.

لكن من قبيل الإتيان بجديدٍ لدى متابعي القضايا والمشكلات، لماذا لا توجد هناك أوصاف مغايرة؟! في هذا الباب المفتوح على مصراعيه، يمكن أنْ نسمي الأرض بـ" كوكب الفتوى ". بيد أنَّ وصفاً كهذا به حتى ظلم للفتوى التي غدت (أفقاً معرفياً ونموذجاً عقلياً) في أغلب مجالات الفكر والمعرفة والثقافة!! فهي الآلية التي يعرفنا بها العقل العربي على الحياة والعالم والطبيعة، وهي واسطة النظر إلى المجتمعات العربية من خلال التواصل المعرفي بين الأفراد. الحق يُقال إنَّ الفتاوى في واقنا المعيش قد تجاوزت الأرض، أمست كوكباً مستقلاً بذاته، كوكب يظهر وقت الأزمات والكروب والعواصف السياسية والاقتصادية ووقت الأوبئة العاصفة بالمجتمعات ووقت الركود الفكري والتراجع الحضاري. مثل عواصف (كوفيد19) التي جعلت الكوكب معصْوبَ الرأسِ، ومُغطّى بكماماتٍ فوق أنفاسه خلف بعضها البعض!!

وإذا كان للقرود كوكب مستقل في السينما العالمية، كحال الفيلم الذي يحمل العنوان نفسهPlanet of the Apes وهو فيلم خيال علمي إنتاج عام1968 ومن إخراج فرانكلين ج. شافر، والفيلم مقتبس من رواية كوكب القرود التي كتبها بيير بول.. نقول إذا كان ذلك كذلك، فلماذا على المنوال نفسه لا يكون هناك كوكب الفتاوى؟! لا لشيء بعينه من قبيل التشبيه ولا التقليل من الإفتاء في مجاله الخاص، إنما لكون بعض فئات رجال الدين ورجال الفكر والثقافة يحاولون أنْ يستقلوا بالدين والفكر والثقافة دون سواهم. ولا يكفون عن غزو الأرض- كل الأرض- بما لديهم من فائض رغبات وفتاوى لا تنتهي. وكأنَّهم يعيشون بمفردهم على كوكبٍ لا يطأهُ الآخرون. وبعضهم يريد العكس، أي أنَّه يأخذ الناس إلى كوكب آخر لينفردوا بهم، وقد فرشوا هذا الكوكب بالفتاوى، وأنبتوا أشجاره وغاباته من الفتاوي، وأسّسوا المنازل والأسواق من الفتاوي، ووضعوا لافتات من الفتاوي، وخطّطوا طُرقات ومُدن الكوكب من الفتاوى أيضاً.. وهلم جرّا!!

الفتوى والتخطيط الكوكبي يبدوان كصنوين في ذهنية هؤلاء الناس حتى اللحظة. بالفعل هناك هوسٌ محموم بالتحكم في عقول الآخرين وتوجيههم أينما حلُوا. ذلك منذ أن كانت الفتوى تحمل كرسي الحاكم العربي ذاهبةً به إلى حيث يريد. ومنذ أنْ نُسجت ملابسه المهيبة والمقدسة من الفتوى، رغم أنه قد يكون قاطعَ طريقٍ أو قاتلاً أو سفاحاً على رؤوس الأشهاد. وتلك الفكرة ليست سهلةً في التراث العربي مثلما نتحدث عن وظيفة البيانات وخطابات التأييد للحكام ورجال السلطة. فكل الكائنات لا تعرف الفتوى، بينما لو سبرنا أغوار الإنسان وأحواله، لكان هو مجرد إنسان لاجئ في حظيرة الفتوى، إذ تحمله إلى ما لا يدرك. وتفرض طبيعة عملها الثقافي على تفاصيل حياته شاءَ أم أبى وسط غياب المصادر الحقيقية للمعرفة وتطور العلوم والتقدم الفكري.

على سبيل المثال، فإنَّ الفتوى الدينية بالتحديد هي عمل لاحق دائماً، لا يمكنها أنْ تكون أصلاً أو مرجعاً بذاته. فهي تقيس ما هو حاضر على ما هو غائب، وتقرن ما لا نعلم بما نال اليقين بالضرورة. والرابط بينهما (الحاضر– الغائب) هو الإعتقاد في صحة الإتصال بين حالين، أحدهما ماض ولا يمكن الإتيان به، لكونه قد انقضى، بينما الآخر ماثل أمامنا ولا نملك الهيمنة عليه ولا معرفة تفاصيله على وجه الدقة. ومن ثمَّ، فإنَّ (الحالة المستفتي عنها) تأخذ أهميتها من حالات سابقةٍ بالضرورة، وتقف على قدم المساواة معها بالتبعية. وعليه، فكان هناك حثٌّ دائم على مرجعية معينةٍ هي الأصوب والأقرب للصحة، وأنَّها الأقوى في ترجيح الأمور نحو ما تقوله الفتاوى. وإلى هذا الحد كانت الفتوى تؤدي وظيفة دينية مطلوبة مع تجدد العصور والابتعاد عن الأصول، وكانت تجيب عن أسئلة الناس الملحة والطارئة.

ولكن عندما تصبح الفتاوى مجرد معرفة مكررة تعيد عقارب الزمن إلى الوراء، وتختزل الدين كله في أحكام، فهنا بيت القصيد المعبر عن الانحراف والتضخم الرمزي لتلك الوظيفة التواصلية. ولذلك كلما ذهبت الحياة إلى أقصى ما تريد بحكم التطورات والتحولات الزمنية، تستوقفها الفتاوي الدينية وتعيدها إلى نقطة البداية مرة أخرى مذكرةً أياها بأنَّ هناك أصلاً واحداً يجب الإرتباط به. والفتوى من تلك الزاوية أحد أسباب التراجع الحضاري في العالم الإسلامي، لأنّها ترتبط بأحكام الدين مغلفةً بالثقافة ومراحلها الماضوية. أي لا تنظر إلى الدين الاسلامي مجرداً من نمط الحياة والظلال الفكرية عليه، إنما تخلط الأصول بالممارسات الأخرى. وتعتبر هذا الخلط من جوهر الفتاوى الراهنة دائماً، رغم أنها قديمة قدم التاريخ. وحين لا تتغيا الفتاوى إحكامَ الدين خالصةً، فإنها تأخذ بالمبررات الثقافية كقرينة على الدين وتؤصّل لتجسُد الأحكام في الواقع، وهذا ما يجعلها تُسيء عادةً فهمَ الظروف المعاصرة للمجتمعات.

التدرُج في تلك العملية يقول إنَّ الفتوى انتقلت من تبيان الأمور الشرعية مع تغير وتصريف أحوال الناس إلى أنْ أمست شرطَ الاعتقاد والإيمان. أي ارتهن الدينُ نفسه كنظام روحي واعتقادي وحياتي بطبيعة الفتاوى. بل أخذت الفتوى مكان الدين وحلحلت أواصره وبات اعتقاد الناس في الفتاوي أغلظ من اعتقادهم في الأصول وكتاب الوحي والسنة النبوية الصحيحة، وباتوا يترقبونها كمن يترقب طوق النجاه الأخير من غوائل الزمن ومن مشكلات الحياة. ولهذا كانت وظائف الفتوى أكثر خطوةً ألحقت ضرراً غير مباشر بالدين والناس جنباً إلى جنبٍ. ولا يخفى على القارئ أنَّ التاريخ يرسخ الممارسات الخطأ ولو لو كانت كذلك خاطئة أمام الناس، وقد يزحزح التاريخُ الناس والمجتمع عن الممارسات الصحيحية ولو كانت كذلك صحيحة. لأنَّ الأمر مرهون بغلبة نمط الحياة السائد بكل تعقيداته ومركزيته، إذ يكتسح ما يقابله من أحوال صانعاً لواقع جديدٍ ليس أكثر.

من ضمن آثار غلبة الفتوى أنْ تحول (العقل العمومي والفردي) لدى العرب المعاصرين إلى عقل قائمٍ على الفتوى. والمقصود أنَّ هناك (بنية عميقة) تشكل طرق التفكير والتواصل وانتاج المعرفة وهي البنية الثقافية اللاواعية التي تتحكم في أنشطة المثقفين والأفكار الناتجة عن الكتابات والأقوال الخاصة بهم. وتلك البنية تتشكل بطرائق وأساليب وسريان الإفتاء دون نقاش ولا حوارٍ. فحينما يتحدث ما يسموّن أنفسهم بالمفكرين والأساتذة والمثقفين يقفزون فجأة - ضمناً أو صراحةً - إلى مقاعد الإفتاء. بالضبط مثلما يتسلم رجل الدين الموقع نفسه في النظام الديني التقليدي، وهو المأخوذ عن جوانب لاهوتية وسياسية في التاريخ العربي والإسلامي.

لقد أسست الفتوى (جوانب العقل) في الثقافة العربية طوال الوقت انتقالاً من عصرٍ إلى آخر، واستمرت في تغذيته بالمداد نفسه الذي يمهرُ به رجل الدين خطاباته ومدوناته وشروحاته. ولذلك ليس بعيداً عن الملاحظة كون الإفتاء وظيفة سياسية نشطة لا خاملة، قوية لا ضعيفة، نافذة الدلالة لا مترددة. لأنها الجانب القائم على الرأي والمبررات والتأصيلات التي يمكن الخروج بها بحسب الحالة المستفتي عنها. كما أنَّ الفتوى تغطي المساحة المتأرجحة من الآراء الحرة لدى عموم الناس، وتغطي المساحة الافتراضية بين الحاكم وسلطة الدولة والمجتمع إزاء الأفراد وخضوعهم للنظام العام. وليس هذا البُعد فقط، لكنها تحسم الصراع بين الإرادات على أحوال المجتمع والأفراد. وكأن تلك الفراغات الثقافية ستكون في مأمن طالما ستخرج فتاوى لصالح أولياء الأمر.

وأقرب الظن أنَّ تلك الحالة هي التي شكلت آفاق المثقفين وأصحاب الفكر وظلّت تتحكم في إنتاجهم القولي والكتابي بالمثل. وأنَّ الذهنية التي يفكرون بها ذهنية فتوى لا أكثر ولا أقل، ذهنية لا تعتمد على الجدل والنقاش والبحث والتقصي المبدع، فهذه الأشياء تتطلب أدوات معرفية مغايرة وتحتاج إلى مفاهيم عقلية مختلفة عن الإفتاء. أي أن رجل الفكر والإبداع لدينا نحن العرب: هو المثقف- المُفتي، هو الشاعر- المُفتي، هو المفكر- المفتي، هو الكاتب- المفتي، هو السياسي- المفتي، هو المعلم - المفتي، هو المتحدث - المفتي، هو المحلل- المفتي، هو الخطيب- المفتي.. كل تلك المواقع الثقافية المزدوجة تبقى في جميع أحوالها مضروبة في الإفتاء قلَّ أو زادَ عن حده. وهو شخص واحد برأسين متوازين يحدثنا بهما معاً، احداهما تقبع خلف الأخرى وتتسابقان في التكلم وإبداء الآراء.

والأغرب أنْ ينطبق هذا الضرب الحسابي على المثقفين الذين لا يميلون إلى التوجهات الدينية، سواء من أصحاب الأفكار العقلانية أو التنويرية أو العلمانية أو غير ذلك إلى أخر القائمة. ستجد هؤلاء عقلانيين بمنطق الإفتاء، يفتون في كل شيء ولا يرجعون إلى مفاهيم التنوع والاختلاف ولا يقبلون رأياً معابراً آخر. وستجد أولئك تنويريين ببغاوات وإمعات قح، لكنهم يرتدون عباءة الإفتاء والأقوال المستندة إلى أصول فلسفية غربية بالمنطق ذاته. وستجد بخلاف هؤلاء وأولئك، علمانيين يطلقون الأحكام في كل اتجاه ويمارسون دور رجال الإفتاء على الأصالة، ويصورون الزمن والمستقبل في ضوء مرجعية دنيوية على شاكلة المرجعية الدينية، ويمارسون التعصب الأعمى كأي مُتشددٍ أو مؤدلج دينياً.

على هذا المنوال، كثيراً ما يشترك بعض رجال التنوير والعلمانية والعقلانية مع رجال الإفتاء فيما يلي:

أولاً: التشبث بالأصول:

إذْ يحرص هؤلاء جميعاً على وضع أصولٍ ثابتةٍ تحت بصرهم ووعيهم. وفي مجال الدين والإعتقاد، قد نعرف ما المقصود بالأصول تحديداً، وعادة ما تخضع الأصول المتعارف عليها للإيمان الذي محله القلب والروح. وهي أمر محمود حتى يحافظ الناس على صحيح الدين وأصول العقيدة. أما الفئات الأخرى من التنويريين والعلمانيين والعقلانيين، فلا ندري لماذا يكررون الأصول ويثبتونها كأنها وحي راسخ لا مرد له؟! ولماذا يضعون نتاج الثقافة الغربية الحديثة بإعتبارها الأصول الحاكمة لفكرة التنوير والعقل والعلمانية في تاريخ العالم قاطبةً؟! حيث يظل هؤلاء الثلاثة يدافعون عن الأصول الفلسفية الغربية دون مللٍّ، حتى ضد ما تقول هذه الأصول ذاتها!!

ولئن كان الإفتاءُ عبر فضاء الدين أمراً خاصاً بتبيان الأحكام الشرعية إزاء الأحداث والأعمال التي لا حكم صريح فيها، فالتنويريون والعلمانيون والعقلانيون يبينون حكم الأصول على أحوال المجتمعات كذلك. ويبدون في فكرهم كأنهم نسخ بليدة وخائبة من أصول لم يكن منبتها الثقافة العربية الإسلامية. إنه"البؤس الإفتائي" الذي يسكن ذهنية هذا القطيع الثقافي الجديد، ويحركه أينما ذهب بشكل أعمى البصر والبصيرة. وتلك الفكرة توجد بصورة متفاوتة بين هؤلاء الثلاثة (التنويريين والعلمانيين والعقلانيون). تجد أحدهم يفهم التنوبير على أنه خطاب لحُوح ومكرر بصورة غثة خارجاً من قضية إلى أخرى، فتكتشف أنها الدائرة نفسها لمرجعية مشوهة. فيأخذ في ترديد العبارات والكلمات والنقول من غير فهم ولا أصالة ولا فهم، كأنه رجل" إفتاء قُح " لا يملك من واقعه غير قياس الحاضر على الغائب.

ثانياً: الدعوة والداعية:

 يتبنى (التنويريون والعلمانيون والعقلانيون) أفكارهم وكلماتهم بمنظور الدعاة، يطلقون المماحكات اللفظة نفسها والجري وراء المعاني البعيدة. ويتحولون إلى دعاة بحرفية الكلمة متنطعين بالعبارات، ويقدمون أفكارهم بأساليب الفتوى من جهة الشرح والتوضيح والتأثيل الذي يرد الأفكار إلى مفاهيم ونصوص غربية المصدر وشرقية التكرار.

بحسب المناخ الثقافي العام، يستعمل هؤلاء خطاب الدعاة علانيةً، وكم ريناهم على وسائل التواصل، وعلى بعض التلفاز وهم يعبرون بممارسات الوعظ المعرفي وبأساليب المداحين والبكائين والنداهين على السلع الفكرية البائرة في البيئات الشرقية. وهذا لا يؤسس ثقافة مغايرة ولا يقدم حلولاً لمعضلات الفكر والواقع ومفارقاته. لأنَّ هؤلاء جزء أصيل من الأزمة التي تمر بها المجتمعات العربية الإسلامية ولا يشكلون خطوة نحو الحل. فهم مع تقدم العالم فكرياً يرتدون إلى النموذج الأولي الذي يسكنهم، نموذج الفقهاء ورجال الفتوى.

ثالثاً: آلية التبرير:

طوال الوقت يذهب مثقفونا التنويريون والعلمانيون والعقليون إلى تبرير خطابهم بشكل نصوصي textually، أي التخفي من الحياة داخل النصوص والإقتباسات. لم يعودوا فاهمين للواقع والحياة، وإلّا لغيروا مواقف النقل والتدبيج عن الآخرين، إنما التبرير على غرار الفقهاء في عباءة السابقين من الشيوخ والعلماء.

وهناك منهم من يطلق على نفسه فقيهاً بصريح القول، بل اعتبر الفقه مرتبة تمنى لو وصل إليها يوماً ما، بينما ينسج بعضهم الآخر أقوالهم بماء الفتاوى الفقهية واقعاً في دائرة التبرير الدجمائي ليس أكثر. والتنويريون العرب كارثة ما بعدها كارثة: أغلبهم مقلدون يغلفون أفكارهم بمزيد من التوقُح الفارغ ضد الناس ومعتقداتهم. وعلى الرغم من كون الواقع أسوأ من ذلك، لكن هؤلاء كانت مبرراتهم رديئة وواقعة في فخ الذهنية التي ينتقدونها طوال الوقت. التنويري لدينا مجرد لص نصوص وأفكار في أفضل الأحوال، وفي أدق المعايير لا يستطيع انتاج فكرة مبدعة ترى المشكلة الحقيقية وتعالج المواضع السلبية.

رابعاً: من أعلى إلى أسفل:

الإفتاء يعطّي صاحبه - بوعي أو بدونه - مرتبة العارف والمشرَّع البديل تدريجياً. حتى وإنْ كان في مرتبة المستنبط لأحكام الشرع إزاء القضايا المستجدة، فإنَّه في الثقافة يحتل هذه المكانة المقلوبة لما يفعل. والمدهش أنَّ التنويريين يتعاملون بالذهنية ذاتها مع الواقع البائس الذي يعيشون فيه، فهم يتكلمون بلهجة التعالي الأجوف ويمارسون الخُيلاء والصفاقة الخطابية بمنطق: نحن الأعرف بأمراض الثقافة!!

إن ذهنية الإفتاء بطبيعتها الثقافية ذهنية متسلطة، لأنها تقول كل شيء في أي شيءٍ وتفتارض أن السائل سيتقبل ما يقال دون اعتراض، وتبادر إلى ذلك في جميع المواقف، وهي نوع من التعالم المتخفي في قول الحقيقة.

واللعبة معروفة في فرض الآراء والتوجهات دون اعتناءٍ بماهية الواقع نفسه، وبات المشتغلون بالفكر كأنهم أصحاب شرائع وأديان بالفعل. وصحيح أن كانط حصر وظيفة العقل في التشريع للعقل من جهة ممارسته بشكل مفتوح وحر، غير أن هؤلاء لدينا مشروعون لصنف منقرض من الوظائف: هي وظائف الكهانة الجديدة. وارتدوا القبعة العصرية فوق العمامة الدينية، وإذا نزعت القبعة الملونة ستفاجأ بهذه الذهنية الكامنة في كافة التفاصيل.

والأنكى أنَّ التنويريين يلمون عقول الناس حولهم بأساليب الأتباع والتابعين باحثين عن الرواج والتداول. تجدهم مهوشين على وسائل التواصل الإجتماعي بطريقة الشيخ والمريد، الخطيب والمتلقي، المفتي والمستمعين. هذا النموذج الرديف المكمل لذهنية الإفتاء التي لم يفلت منه مثقف ولا مفكر عربي واحد. وسرعان ما تُعمدّه الثقافة العربية على نطاقٍ لم يكن ليحتمله ولا يتوقف عنده بالضرورة.

السؤال: لماذا ينتشر "برادايم الإفتاء" على نطاق واسع؟!

جميع الأمثلة السابقة تقول شيئاً واحداً: إن تلك الذهنية هي الذهنية التي تجد سلطة نافذة بين الناس، وترسخها الممارسات السياسية والإجتماعية المختلفة. فكمْ لدينا من مسئولين يتشوفون إلى ذهنية الفتوى باستمرار دون ضابط ولا رابط. وذلك لغياب الوعي ولغياب الشفافية وقتل البحث الحر عن الفكر والمعرفة.

المثقف لدينا يأتي دوماً متأخراً عن قطار الحياة بسنوات وسنوات وربما قرون وقرون، فيتثبث بكل ما يعطيه المكانة والقيمة في المجتمع، كما أن ذهنية الإفتاء تُلخص جميع معضلات العقل والتفكير والتواصل والسلطة والممارسات العامة في الثقافة العربية الإسلامية. والمثقف يبحث عن المجد الغابر الذي لم يصنعه متمسكاً بأضابير الدين قدر ما يستطيع، محولاً عقله إلى جراب حواه أمام الجماهير التي يحلم بتصفيقها على وسائل التواصل الإجتماعي. وقد أعطته الأخيرة فرصة الإفتاء المجاني وجعلته صاحب مكانة مدفوعة التبريرات مسبقاً. وأخذ المتابعون يتلقطُون غثاءه كحبات الألماس النادرة، وهو لا يعدو أنْ يكون بهلوناً جديداً في مُسوح الكاهن الأشر.

***

سامي عبد العال

في المثقف اليوم