أقلام فكرية

من الاعتراف بالثقافة إلى ثقافة الاعتراف

لم يكن الجدلُ حول الثقافةِ ليبلغَ ما بلغهُ لولا أنَّ العرب اليومَ في حاجةٍ ماسة إلى إعادة الاعتبار للرأسمال الثقافي، وجعلهِ أساساً للتفكير في الأوضاع التي آلت إليها أوطاننا. ليس بوسع أحد أن ينكرَ أن هذا التقهقر الثقافي الذي صرنا إليه غير مسبوق، وليس في التاريخ ما يشهدُ بمثله؛ إذ أدَّت الفورة التقانية الحالية إلى تراجع الأدوار الإبداعية والأدبية لصالح القيم الاستهلاكية، واستبدلت القيم الروحية والجماليةُ بالقيم المادية والسطحيةِ، لكنَّ مواجهة مثل هذا الواقعِ لا تستقيمُ إلا إن كانت الذَّات مُتسلِّحة بثقافةٍ تستمدُّ جذورها من التراثِ وتنفتح على المستقبل. لا بدّ من استنهاض القيم الروحية والجمالية والاعتراف بأهميتها للإنسان، ومجاوزة الواقع المرير الذي تفرضُهُ الآلة الاقتصادية الرأسمالية في صورتها المتوحشة، التي أجهزت على القيم جميعها. إنَّ هذا الطور الذي يعيشهُ العربُ شرقاً وغرباً يدعو إلى إعادة التفكير في المشترك الثقافي والحضاريّ، وجعله أساس النهضة المأمولة، وركيزةً لتجاوز الخلافات والصراعات الوهميةِ التي خلَّفها الاستعمارُ ورسّختها التبعيّة. نحنُ اليوم أمام منعطفٍ تاريخيٍّ تلوحُ معه تباشيرٌ بـ"أفول الغرب" الذي لطالما ظلّ جاثماً على صدورنا، فإما أن ننهض الآن، وإمَّا أن نأفل معه إلى الأبد.

لا نهضة من غير الاعتراف بأهمية الثقافة في تأسيس الوعي الجمعي، والثقافة أوسَعُ نطاقاً من الإيديولوجيا المؤسساتية التي تعيدُ إنتاج الفرد الخاضع والانتهازي الذي يرى أنه أولى الناس بالنعم، إنّ دور الثقافة هو إنتاج فرد حرٍّ يتجاوزُ وضعهُ باستمرار، ويستطيعُ رسمَ ذاتهِ على المنوال الذي به يدركُ أهمية وجوده الاجتماعيّ، فلا فرد من غير مجتمع ولا مجتمع من غير فرد، وهو الأمر الذي ينطبق على الدّولة عينها فلا دولة من غير مواطن ولا مواطن من غير دولةٍ، لا يسبق وجود أحدهما الآخر إن الفرد والمواطن قياسا على المجتمع والدّولة، انبثقا في اللحظة عينها. يخفُتُ هذا القياسُ إذا ما نظرنا اليوم إلى علاقات السلطة داخل أوطاننا، أو حاولنا التفكير في علاقة السلطة بالمجتمع، ليس هناك ما يدعو إلى النظر في الشأن الثقافي، خاصةً إذا ما قورن بالشأنين السياسيّ والاقتصاديّ، إننا نتجاهلُ اليوم الثقافة لحساب السياسة والاقتصاد، بل وحتى لحساب الرياضة وغيرها... لكن أنّى لنا أن ننهض من غير ثقافة؟ وكيف يمكن أن نرسخ الاعتراف بالثقافة بوصفه سبيلاً للنهوض؟

يبدو أننّا – شئنا أم أبينا – بصدد إعادة إنتاج نفس الأُطُر التقليدية التي عفا عنها الزّمن، وبالرغم من أننا ندّعي أننا أمام ممارساتٍ حداثية ترومُ التفكير في الثقافةِ بوسائل مبدعة وخلاقة، إلا أننا ما نزالُ رهينيّ التقليد والرؤية المنغلقة التي وضعتنا أمامها الإمبريالية. ما دُمنا غير قادرين على مراجعة المعايير التي توجّهنا في الحُكم على صلاحية النُّظم الاجتماعية والأخلاقية، وغير قادرين على مواجهة الإشكاليات القانونية والحقوقية بموضوعية؛ فإننا نعودُ إلى نقطة الصفر من دون أن نتقدَّم خطوة إلى الأمام. ليس الاعترافُ بالثقافةِ شكلاً من الترف الفكريّ، بل هو أساسُ الحكمة السياسية والاقتصادية، لا سياسة من غير ثقافة، فالسياسيّ الذي تعوزه الثقافة أبكم مهما كان حجم ما يثرثر به من كلام، كما أنَّ رجُل الاقتصادِ إنْ قلت ثقافتُه هلك وأهلك، لا بُدّ من أن نراجِعَ دور الثقافةِ وأهميتها بالنسبة إلى مجتمعاتنا، لما لها من أهمية قصوى.

أساسُ الاعتراف بالثقافة داخل مجتمعاتنا وهو ثقافة الاعتراف؛ إذ لا ثقافة من غير مثقّفين، والاعترافُ بأهميتهم ودورهم هو أساسُ التَّقدمِ والازدهار، وهو شرط النهضة التي يمكنُ أنْ نؤسسَ من خلالها لصيرورة الانفتاح. تعيدُ النّظمُ التقليديةُ إعادةَ إنتاجِ أصواتها الدّاخلية، وترفضُ الأصوات المختلفة، وهي برفضها تقصي إمكانيات التغيير والتقدّم، وذلك بدعوى أنّ الوضع الراهن هو أفضل الأوضاع (=أحسن وضع ممكن)، لكن للأسف ليست لدينا عوالم ممكنة من أجل إدراك أسوء الأوضاع الممكنة، ولم لا يكون وضعنا هو الأسوأ، لنفكر معاً في جعله الأفضل، لا بدّ، إذن، من التفكير بالضد والنقيض من أجل تطوير المجتمع والثقافة، فمتى استوت النقائض والأضداد كان ذلك دليلاً على الركود والأفول.

ومن أسف شديد على أحوال مثقفينا وما يطالهم من إهمال، حتى أنّ الواحد منهم إن مات استحالَ علينا أنْ نجد مثلهُ أو نظريه، لقد انتهينا إلى أهواء ثقافية ليس في وسع أصحابها بناءُ مشروعٍ، فكيف سيضعون نصب أعينهم بناء الإنسان ومواجهة أشكال التقليد؟ إنَّ السعي إلى النهضة لا يمكن إلا أن يكون سعياً تقدّمياً، يبنى على منطق الاحتفاظ والتجاوز، ولا سبيل إلى تحقيق مثل هذا الشرط إلى بالاعتراف بأهمية المثقّف ودوره في رسمِ معالم واقع أفضل، ودوره في نقد الواقع القائم.

لا يمكنُ التَّغافلُ عن النّقد وأهميته في رسم الواقع وتصوُّره، كما لا يمكن مجاوزته كمطلبٍ أساسي في تحقيق الذات العربية اليومَ، إننا نفكرُ في الممارسة النقديةِ بوصفها أداةً ثقافيةً بامتياز، من غير النظر في أهميةِ الذات الناقدة (=الممارسة للنقد)، فلا نقد من غير اعتراف، ولا حرية من غير نقد، إنّها مفاهيم تدور في حلقات يدُّ بعضها بعضاً، وهي الأساسُ في بناء المواطن والفرد.

***

محمّد زكّاري - المغرب

في المثقف اليوم