أقلام فكرية

صراع الشرق والغرب في الرواية العربية

منذ مطلع القرن المنصرم والنصوص الأدبية، التي تهتم بالرحلة للغرب، في تزايد، لكن الخط في تلك الأعمال ليس واحدا. ولا بد من التمييز بين أدب الترحل الفني ومثاله العجيلي وسهيل إدريس وآخرين، وأدب الرحلات التثقيفي الذي يتحرك بغرض الاستطلاع ثم تقديم الدروس والعظات. وإذا كان على رأس هؤلاء شيخ النهضة والتنوير الطهطاوي، فلا يمكن استثناء الحشد الذي تركه السفراء والموظفون الحكوميون والرحالة بشكل عام. ولو حصرنا الحديث في النصوص الفنية فقط، سوف نصل حقا لمشكلة لقاح الشرق والغرب ومسألة التجنيس والسوسيولوجيا التي تغذيها مجموعة من العقد وشرائح من المكبوت، وعلى رأسها المثاقفة، وهو هم حضاري، والمغامرة الجنسية ذات العلاقة بالغرائز والتربية والحالة الاجتماعية. ويرى جورج طرابيشي، في أطروحته عن سوسيولوجيا الذكورة والأنوثة، أن المسألة تعبر عن ضياع الفحولة الشرقية، هباء منثورا، في أحضان التأنيث الغربي. وهو يعتقد باختصار: أن ابن المشرق لن يكتب له التوفيق والنجاح، في أية مواجهة عسكرية، ولا ثقافية مع الغرب، لذلك لم يجد غير أسلوب واحد، وهو إشهار سيف ذكورته، وتحويل الغرب إلى مجرد فرج. وهكذا كان يساوره الشعور بالزهو كلما ركب فتاة أوروبية، وكأنه يركب أوروبا بكاملها (ص15). ولئن حشد طرابيشي لإثبات أطروحته جملة من الأعمال الهامة المعروفة، منها "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم و"أحلام يولاند" لفؤاد الشايب، فقد نسي عمدا أو لدواعي عدم الوقوع في التكرار بعض الأمثلة النمطية، ومن الأجدى التذكير بها. وفي المقدمة "الظمأ والينبوع" لفاضل السباعي و"نهم" لشكيب الجابري.. ويمكنني التأكيد أن نصوص الجابري كانت أقرب للهم المعرفي باعتبار أنها ربطت الجنوسة بالدواعي العرقية. وهذا هو شأن السباعي.

ولا أقصد بالعرق عقدة التفوق التي يتبناها اليمين الشوفيني، وإنما مشكلة العجز أو الشعور بالدونية حيال الغرب المستعمر (انظر "نهم")، والشعور بالنقص والهزيمة حيال الغزاة (انظر "هكذا سنقاتلكم في فلسطين")،  وهو برقع الشرف والعفاف الذي نستر به حقيقة الخصاء والعنة ( في مثال السباعي).

وبرأيي كان الحب العذري اختراعا بطريركيا يصل لمشارف الأسطورة، وذلك للمناورة حول مشاعر الكبرياء، ولتلافي أية مواجهة مع الحواجز الاجتماعية؟. وبهذه الطريقة ينقل الكاتب رسالته، ومضمونها الصراع، لما وراء خطوط العزل. فالبحث عن شرط الاستقلال يعقبه البحث عن جوهر التحرر. وفي هذه الحالة لم يختلف الهم، لكن تبدلت الأسماء. وطبعا لحق بذلك تبدل لا بد منه، وهو أهم عناصر الخيال الفني، ومجاله الفترة الزمنية والمكان. وفي هذا السياق أصبح من المجدي أن نتعامل مع المشكلة على أنها متابعة ومؤازرة. فالمغلوب (وهو ابن حضارة المشرق) ينقل المعركة لأرض الغالب (وهو في معظم الأوقات من الجنس المؤنث). وهنا تبدأ المشكلة.

فطرابيشي بعتقد أن ابن المشرق يريد الانتقام لجراحه ولكرامته عن طريق الغزو الجنسي. ولئن خسرنا المعركة على الأرض نكون قد كسبناها على السرير. لكن هذا الوهم القروسطي والقبائلي الذي يعكس شيئا من العنجهية غير المبررة يجد ما يحد من عنفوانه.

أولا - الذات الفنية. فهي غالبا منبهرة بحضارة الغرب ودائما هنالك ما يعجز اللسان عن الاستطراد بمدحه لدرجة التأليه. حتى أن عاصمة الخلافة العثمانية، وهي من معاقل المشرق، تبدو في أعمال أدبائنا الرحالة صورة ثانية من الميتروبول. حتى أنني لم أجد أي فرق بين بيه أوغلو في "خرائط منتصف الليل" لعلي بدر والصورة الفريدة لأحياء سوهو في "ضياع في سوهو" لكولن ويلسون. وكانت روح الضياع والتشرد، التي قادت خطوات علي بدر في أجزاء مدينة اسطنبول القديمة، هي نفسها الليبيدو السريالي الذي فتح نافذة على لاشعور الأجزاء الليلية المستهترة من وسط مدينة لندن. وهذا دليل لا يقبل الشك أن بدر ما زال تحت التأثير المعتاد للقاء الشرق بالغرب.

ثانيا- حدود النوع. نعلم أن الرواية بدأت في بواكيرها على شكل قصص متفرقة يجمعها خيط واحد، وهو التسلية والترفيه في "الديكاميرون" لبوكاتشيو وإرادة البقاء والحياة في "ألف ليلة وليلة". وبالنظر للأعمال الجديدة التي تنتسب لهذا الشكل النمطي من الخيال يلفت الانتباه أنها مدينة لحكمة وفلسفة بوكاتشيو اللاتينية، وليس لفلسفة الشرق وغرائبيته وميوله نحو السحر والخرافة كما في ألف ليلة. وبالتقليب في صفحات "أخبار آخر الهجرات" لبرهان الخطيب، دائما، بمقدور القارىء أن يتابع الشخصيات، وهي تتصرف بمنطق وحذر، ودائما هي في مواقف محرجة الغاية منها الحاجة للتأقلم والاستيعاب وليس روح التحدي. ولئن سجلت بعض المواقف شيئا من الأنفة والتذمر سرعان ما تذوب في دائرة من الرغبات المتصارعة، لكن المحسوسة، التي تختار الإلغاء والنفي على حساب العودة. والعودة للوطن في هذا العمل، لو وزناها بميزان الفكرة الروائية، تبدو أشبه بخسارة أو فاجع.

وباعتقادي لا توجد في "أخبار آخر الهجرات" تلك الوسائل السحرية والمعجزات التي هي جزء لا يتجزأ من العقل الشرقي، فلا مصباح علاء الدين موجود، ولا البساط السحري ولا صولجان ملك الملوك. ولا يستعين أبطال هذا العالم، المجزأ والمفكك والمصدوم بصعوبات الواقع ومرارته، إلا بالبداهة والفطرة. وآخر سهم في الجعبة هو الصمت أو اللجوء لعالم من الأحلام الذهبية، وهو نفسه الشرط الفني الذي صعد عليه بوكاتشيو ليتغلب على أزمة الطاعون الفتاك. فقد لجأ للترفيه كي يتغلب على الرضة النفسية. وبإلقاء القصص التي تستند لمواعظ ودروس في الأخلاق الرفيعة حاربت شخصيات بوكاتشيو الألم والمرض وأسباب التدهور الذي لحق بالبنيان المتماسك للمجتمع. ولعل برهان الخطيب فعل مثله. فقد حاول أن يغض الطرف عن هزائمنا في المعرفة والحضارة بواسطة نقل خطوط العزل وتبديل الاتجاه. وساعده مثل هذا التحويل في كسب الوقت، ولذلك فإن غراميات أبطاله ليست انتقاما فرضته الحضارة الجريحة، لكنه نوع من الهروب، أقله تأجيل للمواجهة.

ثالثا- يمكن قول الشيء نفسه عن تحديد الجنس. فالغرب يبدو بصورة مؤنثة، في أغلب الأحوال، لكنه في الواقع هو المذكر دلاليا.

وهذه الأعمال، على ما أرى، ليست درسا في التشريح. والمؤنث في العلوم الطبيعية قد ينطوي على قدر لا يستهان به من الذكورة في التحليل النفسي.  ومن المعروف أن كل بنية دائرية لها مفعول أنوثي، وكل بنية خطية لها دلالة رجولية أو دلالة تذكير. ومثل هذا الوعي النفسي تراه من غير مكياج في أعمال بعض الروائيات.  وإنه حتى بالنسبة للرواد كان المهاجر ابن المشرق هدفا لأحابيل وجاذبية الغرب المؤنث. وهذا يسجل هزيمة مزدوجة ومضاعفة. فهو العنصر المكتسب والمتلقي الذي يتعرض للتلقيح وبأسلوب الحضارة المضيفة. وهو الأرض التي يمهدها ويحرثها حديد الحضارة الغربية. ويبدو ذلك بوضوح في "أخبار آخر الهجرات" ابتداء من طريقة الغزل المادي والمكشوف، وانتهاء باللسان المتكلم الذي يستعمل لغة أجنبية وراءها زوادة من المعارف. ولا شك، دلاليا، وكما يقول بيير داكو (في سيكلوجيا الأعماق): الرجل هو المرسل والمرأة هي التي تستلم الرسالة.  وعليه يمكن الجزم أن تلك الروايات (من حيث لا تدري) هي ضحية التحويل الفرويدي المعكوس، حيث أنه لدى المرأة قضيب - شبح ghost limb من نكاح سابق، بينما الرجل يلمس عيب النساء لأول مرة. وذلك تعبير مجازي طريف عن الطريقة التي استولى بها الغرب على غشاء البكارة المشرقي. وهذا الغشاء، كما أرى، هو اختراع حضاراتنا الجريحة، التي وجدت ما تقتات عليه من خلال التمسك بالأخلاق والشرف.

***

صالح الرزوق

في المثقف اليوم