أقلام فكرية

القوة أو القانون (1-2)

تتشكل المجتمعات الحديثة من خلال القانون، وترى المجتمعات الديمقراطية نفسها على أنها دول دستورية. هذا يعني أن جميع سلطات الدولة ملزمة بالقانون. فاذا كانت الدولة تريد فرض شيء ما، فإنها تفعل ذلك بالوسائل القانونية. القانون اليوم هو الإطار المركزي للناس للعيش معا في المجتمعات الحديثة. ما هو أكثر من ذلك: يتم تفسير القانون من وجهة نظر اجتماعية فلسفية في الغالب بوصفه تعبير عن عقلانية المجتمعات. فحيثما يحكم القانون، يسود العقل أيضًا؛ يخضع المجتمع لمطالب معينة للعقل من خلال الشكل القانوني لتنظيمه الذاتي.[1]

الهدف من القانون كتعبير عن العقل هو في الأساس احتواء العنف غير المشروع وتبرير الأشكال المشروعة للعنف (الدستوري). لذلك غالبًا ما يرتبط القانون والعنف ببعضهما البعض، ولكن ، قبل التمكن من فحص هذه العلاقة عن كثب، نطرح السؤال عما يجب أن يفهم من معنى القانون وما هي الوظيفة الاجتماعية التي يتمتع بها.

أدى التفكير الفلسفي في القانون، كما ذلك في السياسة، إلى ظهور فلسفة القانون.لايقدم هذا الحقل الفهم الفلسفي المقنع للقانون المنشود فقط، ولكن مناقشة العديد من التطورات الحالية في القانون في عصر العولمة فلسفيًا أيضًا. وأنه مهم للفلسفة الإجتماعية، أيً له أهمية كبيرة في العمليات والبنى الاجتماعية والسياسية المتنوعة. لهذا السبب من المهم تناول الجوانب الاجتماعية والفلسفية الأساسية للقانون ايضا، مثل تلك التي عالجها هيجل في محاضراته حول فلسفة القانون.[2]

غالبًا ما تتميز حياة الناس اليومية بمصالح مختلفة. يمكن أن تؤدي هذه المصالح المتباينة إلى نزاعات بينهم. ويمكن أن تكون هذه النزاعات ذات طبيعة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. يساعد القانون في مثل هذه الحالات في التعامل أومعالجة مع هذه النزاعات، وإذا أمكن، حلها. يتم التعامل مع اختلافات المصالح بين الناس والجماعات والمؤسسات في الدول الدستورية باستخدام وسائل القانون. إن لها، من وجهة نظر اجتماعية فلسفية، وظيفة تنظيمية وهي تختلف عن الأخلاق كشكل آخر من أشكال التوجه للتعايش الاجتماعي في الوقت نفسه. لأنه ليس كل ما يعتبره الناس حقًا أو ضروريًا من الناحية الأخلاقية يجب أن يكون قانونيًا بشكل تلقائي أو منصوصًا عليه في القانون.

يفسر هابرماس[3] القانون من منظور النظرية الاجتماعية، على أنه غشاء بين العالم المُعيش والسياسة. تعتمد المجتمعات الحديثة على تبرير شرعية القانون دون اللجوء إلى المصادر التقليدية كالأديان مثلا. لذلك تم وضع نموذج قانوني إجرائي في العديد من المقاربات اليوم، حيث تتطلب مشاركة المواطنين في العمليات السياسية وضعهم كأشخاص قانونيين. ومع ذلك، فإن مشكلة المجتمعات في هذا المجال هي أن القانون أصبح أكثر انفصالًا عن عالم الحياة. غالبًا ما لا يظهر الناس كمشرعين ومخاطبين من قبل لقانون في الوقت نفسه. يشكل القانون نظامه الخاص بالمعنى الذي يقول به لومان، ،[4] حيث يكون مستقلاً عن المواطنين غالبا ، وبالتالي بعيدًا عن الحياة. بينما يرى الكثير من الناس أنفسهم في مواجهة تقنين هائل للمجتمعات الحديثة.

ولكن ما هو القانون بالضبط وكيف يمكن تعريفه من منظور اجتماعي وفلسفي قانوني؟ قدمت إجابات مختلفة عبر التاريخ، بعضها أمثلة مهمة.

فمثلا يعد القانون الطبيعي من الناحية التاريخية أحد أقوى نماذج الفلسفة الاجتماعية والقانونية في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث. يشير القانون الطبيعي إلى القانون والذي يسبق أي تشريع وضعي حيث يشارك فيه الإنسان بوصفه انسان وتقوم عليه كرامته الإنسانية. تتضمن مفاهيم القانون الطبيعي مبررات مختلفة تشير إلى ما وراء القانون المعطى بشكل وضعي. يمكن أن تكون اعتبارات توما الأكويني من العصور الوسطى بمثابة مثال لمفاهيم القانون الطبيعي. إنه يميز ثلاثة مستويات من القانون، وهي القانون الأبدي والقانون الطبيعي والقانون الوضعي. أساس كل حق هو نظام الخلق الذي وهبه الله. يمكن لكل إنسان أن يفهم القانون الذي قدمه الوحي الإلهي (مثل الوصايا العشر) من خلال موهبته الطبيعية في العقل.

أخذ الفلاسفة القانونيون، في الفترة الحديثة المبكرة ،هذه الاعتبارات للقانون الطبيعي، لكنهم فصلوها عن أساسهم الديني ونقلوها إلى مفاهيم قانونية عقلانية. فاصبح ينطبق القانون الطبيعي حتى لو لم يكن الله موجودًا. تسبق القواعد القانونية القائمة على القانون الطبيعي القانون الوضعي  في الاهتمام بأمن المجتمع وممتلكاته.

إذا قارن المرء المناهج المختلفة للقانون الطبيعي ، فيمكن التمييز بين مستويين من المحاججة: من ناحية ، يتم تفسير القانون الطبيعي على أنه يقع فوق النظام الذي تفرضه الدولة. وبالتالي، يتم سحبه من الوصول إلى الهيئة التشريعية ويهدف في نفس الوقت إلى إضفاء الشرعية على نظام الدولة. ومع ذلك، في حالة النظام غير العادل، يمكن أيضًا استخدام القانون الطبيعي لتبرير المقاومة. من ناحية أخرى، يتم تفسير القانون الطبيعي على أنه نظام يتم تحديده من حيث المضمون أيضًا. فيوفر القانون الطبيعي، في هذه الحالة، معايير محددة للتعايش الاجتماعي.

تلعب الحجج القائمة على القانون الطبيعي دورًا مهمًا في المناقشات السياسية حتى يومنا هذا. لقد أشار الفلاسفة الاجتماعيون في النقاش الحالي حول حقوق الإنسان مرارًا وتكرارًا على سبيل المثال إلى أن جميع الناس لديهم هذه الحقوق بسبب إنسانيتهم. فيتم تحديث تفسيرات القانون الطبيعي بهذه الطريقة. ومع ذلك، أصبح العديد من مشاكل القانون الطبيعي واضحًا في السنوات الـ 200 الماضية أيضًا. تُشتق المعايير في القانون الطبيعي على سبيل المثال من نظام طبيعي للوجود وفي الوقت نفسه مفترضة مسبقًا، ولا تبدو معقولة في الدول الدستورية العلمانية.

يتراجع ممثلو المثالية الألمانية في مواجهة مثل هذه النقاط من النقد عن افتراضات القانون الطبيعي ، لكنهم يتشبثون كثيرًا بفهم القانون باعتباره نموذجًا معياريًا. يمكن كشف هذا في اعتبارات كانط وهيجل على سبيل المثال، اللذين - على الرغم من اختلافاتهما- يتفقان على هذه النقطة.

يعتبر كانط ممثلًا للتفكير القانوني العقلاني. تقوم فلسفته العملية على افتراضين مركزيين: أولاً، الفصل بين ماهو كائن وما يجب أن يكون، وثانيًا، التركيز على العقل. فالعقل هو القاضي في توضيح كيفية تصرف الإنسان. يمكن تفسير فهم كانط للقانون على هذه الخلفية. ويمكن، بالنسبة له، التعرف على القانون من العقل العملي أيضًا، حيث يتوافق المطلب القانوني مع الأمر الأخلاقي المطلق. أي أنه في عمل صحيح  يمكن أن توجد حرية الاختيار لكل فرد جنبًا إلى جنب مع حرية الجميع وفقًا لقانون عام" اجباري. وعليه، فإن هذا لا يعني شيئًا سوى" السماح لمفهوم القانون ان يجد تطبيقه في نظام السلطات القسرية المتبادلة. وهذا يفسر أهمية الدولة الدستورية الجمهورية في مفهوم كانط، لأنها وحدها التي تتمتع بالسلطة الشرعية لجعل القانون ملزمًا وبالتالي تنظيم الحياة الاجتماعية.

يلعب هذا المفهوم للتفكير القانوني العقلاني دورًا مركزيًا في اعتبارات كانط من حيث نظرية العقد في هذا العصر أيضًا. تهدف الحجة الأساسية إلى الاعتراف المتبادل بالناس كأشخاص قانونيين. فيصبح القانون هو المبدأ التأسيسي للعدالة. وهذا هو سبب ارتباط سيادة القانون والفصل بين السلطات والمؤسسات الديمقراطية ارتباطًا وثيقًا فيما بينها.[5] أن التوجه نحو مفهوم العقل والمحاججة الأستدلالية هو من يتولى الفصل بين الكائن والواجب. وعليه يرتبط القانون والعدالة ارتباطًا وثيقًا.

المفهوم الثاني للمثالية الألمانية، والذي له تأثير كبير على الفلسفة القانونية والاجتماعية حتى يومنا هذا، هو مفهوم هيجل. يركز هيجل مثل كانط على العقل كأساس لفلسفته القانونية، وقد عبر عن ذلك في جملته الشهيرة: "ما هو معقول هو واقعي؛ وما هو واقعي هو معقول".[6] إن الحق بالنسبة لهيجل هو وجود الإرادة الحرة  التي يؤكد من خلالها على العلاقة بين الحق والحرية أيضًا. يفسر هيجل هذه العلاقة لا استنتاجيًا ولا خطيًا، ولكن كعملية ديالكتيكية على عكس التقليد الكانطي. إنه مهتم بالتغلغل المتبادل للجانب الفردي والجماعي، أيً، العلاقة الديالكتيكية بين الخاص والعام.

العنصر الأساسي لفلسفة هيجل في القانون هو مجال الأخلاق (الأسرة والمجتمع المدني والدولة)، والتي تم تعريفها على أنها نظرية الاعتراف ولكل منهما تفسيره الخاص. من المهم تفسير هذه الأشكال المحددة للسياق من القانون على أنها تعبير عن الروح في طريقها الاجتماعي نحو الحرية، وهي تقلل من النزعة الفردية الفلسفية القانونية، لأنه لا يمكن تفسير الدولة على أنها مجموع المصالح الفردية من وجهة نظره. هناك نقطة ثانية للنقد عند هيجل وهي  خاصة بالنظر إلى المفاهيم المستوحاة من الكانطية، أي نقده لمبررات النظرية التعاقدية للقانون. أنها تنقل، وفقًا لهيجل، بشكل خاطئ فكرة من الاقتصاد إلى القضايا الاجتماعية، فيتم تفسير القانون بها بطريقة اختزالية.

ما يزال كلا المفهومين لكانط وهيجل نموذجين للأشكال الأساسية من الجدل في الفلسفة الاجتماعية والقانونية. فهناك مفاهيم عقلانية تستمد بشكل استنتاجي معنى القانون من الأخلاق من ناحية. ومن ناحية أخرى، هناك فلسفات اجتماعية استقرائية تبني فهم المعيارية والقانون على اساس إعادة بناء معناها من خلال الممارسات الاجتماعية المتنوعة ومجالات الأخلاق. ومع ذلك هناك علاقة وثيقة، في كلا الجانبين، بين القانون والمعيارية ( عند كانط  وهيجل في الأخلاق). بالإضافة إلى ذلك، يعمل القانون في كلتا الحالتين باعتباره نموذجًا معقولاً، يمكن تبريره بطرق مختلفة، ولكن يجب أن يتيح توجهاً (معياريًا) للحياة الاجتماعية في شكله الاجتماعي.

تم التعبير عن هذا المفهوم للقانون في المتغيرات المختلفة للوضعيات القانونية، والتي تطورت على مدار الـ 200 عام الماضية. يجب أن يرتكز حل النزاعات الاجتماعية على القانون الوضعي فقط من منظور هذا التيار. يشمل القانون الوضعي القواعد القانونية التي تطبق في الدولة من خلال سلطة الدولة لإضفاء الشرعية. وتنجم شرعية معيار قانوني فقط عن وضعه الواقعي أو فعاليته الاجتماعية. نشير هنا مرة أخرى على النقيض من موقف هيجل إلى الفصل بين مستويين من الوجود والوجوب، ولكن من أجل تحرير القانون من أي وظيفة توجيه (معياري).

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...........................

[1] Hoffe, 0.: Reasons for Action and the Law, Springer; 1999.

[2] أنظر: هيجل: أصول فلسفة الحق، ترجمة وتقديم وتعليق د.إمام عب الفتاح إمام، دار التنويرن بيروت،ط2، 2005.

[3] Habermas, J.:Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy.

[4] Luhmann, N., Introduction to Systems Theory, Polity, edition  2012

[5] أنظر:

Hoffe, 0.: Reasons for Action and the Law, Springer; 1999.

والربيعي، د. علي رسول:  الحق والعدالة الاجتماعية

https://www.almothaqaf.com/aqlam-3/937886

[6] أنظر: هيجل: أصول فلسفة الحق.

في المثقف اليوم