أقلام فكرية

الغائية التاريخية للهوية الجمالية في الفكر الإغريقي

إنَّ النظرة التاريخية في اطار تحديد ملامح الهوية لشعب ما هو قائم على صيغ من الحفر المعرفي في نتاجات الشعوب التي تميزها عن غيرها في ضوء علل حدوث الوقائع التاريخية وأسباب نشوئها، من أجل التعرف على هذه المسببات ودراستها، أي أرجاع كل حدث الى أسبابه في طور بحث المحركات المعرفية لهذه الأحداث والوقائع وصمودها لفترات طويلة على الرغم من عمل الآخر المغاير على محاولة محوها أو تغيير مسارها لصالحة، لكن ثباتها يعني أنها تمتلك مقومات البقاء تاريخياً، كونها حية في أنتاجها المعاصر لها،والهوية الجمالية في تفوقها التاريخي لا تأتي من كون أن في الحضارات الأخرى لا يوجد منافس لها، لكنها أكثر ثراء في مرتكزاتها المعرفية، التي انتجت مفاهيم قادرة على الاستمرارية في قابل الأزمان، وأنتجت سلطة معرفية واعية بحقيقة معاصرتها للمفاهيم الأخرى، لذا عملت على تشكيل وعي جمالي في أطاره التاريخي مما جعل غائيتها التاريخية قائمة على رغبتها في الأستمرار . وتعد الهوية الجمالية الإغريقية في أطارها التاريخي مشروع وعي قائم على مرتكزات سلطة معرفية واعية بحقيقة ما أنتجته من مفاهيم على وفق تكاملها مع النتاجات الفنية المختلفة وأطرها النافدة في الوعي الجمالي المؤسس لهذه الهوية الجمالية.

لقد تجسدت الأبعاد الثلاثة في مقومات للهوية الجمالية في الفكر الإغريقي على وفق الرؤية للغائية التاريخية التي أصبحت معها الهوية الجمالية الإغريقية هي المعيار الذي يعد صورة من صور التفوق في المجال التاريخي . أنَّ هذه الأبعاد التي تجسدت في الجسد الجمالي للهوية في بعدها الثقافي للفرد والجماعة، والكوجيطو الفكري الذي أنتج ثقافة ذات دلالات معرفية جمالية في أطار الفنون الجميلة، والبعد الوضعي في أنتاج مجتمعات قادرة على هضم نتاجات الفنون في أطارها الجمالي الذي رافقه التمركز حول الذات القادرة على بناء بيئات فكرية أنتجت رؤية جمالية لتلك الهوية في بعدها التاريخي، مما جعل الهوية الجمالية هي التاريخ وهي الثقافة وهي السلوكيات الأجتماعية لوضع الجماعات في ذلك الزمن المنتج للفن والجمال، كون الفن المنتج في تلك الحقبة هو من جعل الممارسة الجمالية قابلة للتطور على وفق الرؤى المتعددة في ظاهرها والمتوحدة في مضمونها عند الإغريق .

إنَّ فعل التمركز حول الذات العارفة بالمنتج الفني والثقافي قائم على فعل البحث في أنتاج هوية ذات ملامح تاريخية قادرة على تبيان هذا التمركز وأهدافه القارة في الذات، من خلال خطابات بعيدة المدى الفكري والثقافي والجمالي، فهي تؤسس لمعطى جمالي بعيد الآفاق والرؤى لتكوين وعي فكري جمالي يدخل في تأسيس وتثبيت الهوية الجمالية، لذا فإن قراءة الأفكار الجمالية الإغريقية في فلسفاتها المختلفة تعد من الروافد الداعمة للوجود الكلي للمعطى الجمالي الذي يؤسس للهوية في أطارها الفكري والثقافي، وما يسور ويجمل فكرة الذات المؤسسة لهذه الهوية في تكوينها الكلي الداعم لفكرة التفوق الثقافي على الآخر، ليس في آنية زمنية ضيقة، لا بل في صراعات ثقافية مستمرة مع الآخر الذي تتعدد صورة وأمكنته تبعاً لمراحل الصراع التاريخية.

إنَّ من مميزات الهوية الجمالية في أطارها التاريخي الذي يترتب عليه مجالات البحث في تاريخ النظرية الجمالية بحثاً في مكونات الوعي الجمالي عند الانسان ومظاهره المختلفة. وهذا الوعي المعرفي بما هو جميل يعطي للفن والتاريخ مقارنة تدخل في كون أحدهما قد توازى معرفياً مع الآخر في تبيان الهوية الجمالية في أطارها الثقافي ، كون أن الفن هو جزء من تاريخ الأمم وجزء من ثقافتها، والأفكار التي رافقت الفن في أنتاج الهوية الجمالية، قد قيدت تفاصيل مهمة للتاريخ والفن مما أصبحت هذه الأفكار هي الوسط الناقل للطرفين على الرغم عدم تواصلهما زمانياً في لحظة أنتاج الفن والتاريخ، فالتاريخ يدرس الوقائع، ولفن يرسم ما هو واقع في بعض أعماله، وما هو متخيل في أعمال أخرى، والرؤية الجمالية تقع ما بين الواقع في أطاره التاريخي والمتخيل في أطاره الفني، وهنا تكون الهوية الجمالية مرتبطة بالطرفين ومتحررة من كل واحد منهما بما يفقده لدى الأخر، فالتاريخ لا يؤمن بالخيال، هو يعتمد على الوقائع وما يحدث فيها، والفن لا يؤمن بكل ما هو في الواقع والوقائع، بل هو يبحث عن المستقبل في تجسيد الاشياء، والكن الهوية الجمالية هي قراءة متحررة من الأرتباط الكلي للطرفين معاً، ويقع الأختلاف في الرؤية الجمالية لدى فلاسفة الإغريق الذين تعددوا في طرحهم الجمالي قياساً للواقع، أو الوقائع، وتطوير الحياة من جهة، وبين ما هو عكس ذلك، فجمالية التناسب الهارموني عند فيثاغورس عمل في تقديم رؤية لموضوعات حول قضايا الفن في اليونان القديمة على وفق الرؤية المثالية، على خلاف نسبية هيرقليطس المادية في رؤيته للفنون على وفق التراتبية بين الموجودات، وكذلك الرؤية الأفلاطونية التي ترى في المحاكاة رؤية تختلف عن الرؤية الارسطوطالية التي وضحناها في الفصل السابق . والهوية الجمالية تمتلك مسافة بين طرفين الفن والتاريخ تكون فيها قادرة على أن تكون رؤية متحركة غير جامدة من الممكن أن تهيمن في بعدها التاريخي على حقب زمنية وتاريخية متقدمة ومتعددة، أعطتها سيطرة مطلقة على دارسي الجمال وتاريخه، والمشتغلين في تاريخية المنجز الفني في أكبر المحافل الفنية الى الوقت الحاضر، بل حتى أنها أثرت على عدد كبير من الفلاسفة الذين اعتمدوا الرؤية الجمالية الإغريقية، أو بنوا نظرياتهم الجمالية على وفق الفنون الإغريقية والهوية الجمالية لهذه الفنون، وما رؤية (هيغل) ببعيدة عن روحه المطلقة وميزات الفن الكلاسيكي في تجليات هذه الروح .

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

في المثقف اليوم