أقلام فكرية

فلاسفة بارزون في توضيح الطبيعة

أنتج فلاسفة اليونان القديمة عددا كبيرا من الافكار. ومع ان قضايا حول كيفية العيش شغلت معظم تفكيرهم، لكنهم ايضا تسائلوا حول ما الذي يشكل العالم من حولهم. لايهم ان بدت معظم تخميناتهم بعيدة عن الواقع لكنها لاتزال تضيء التجارب المفاهيمية للبشرية  ومحاولات فهم طبيعة الواقع.

طاليس: كل شيء ماء

يرى ارسطو ان طاليس كان أول فيلسوف أصلي. عاش في ميليتيس المدينة اليونانية القديمة في القرن السادس قبل الميلاد  والتي تقع  في تركيا الحالية، عُرف طاليس بعمله في الفلسفة وعلم الفلك والرياضيات. هو ايضا حاول توضيح أصل جميع المواد معتبراً الماء هو المبدأ الاول الذي خرجت منه كل الاشياء الاخرى. هو اعتقد بان الماء يتحول الى مواد اخرى، وان جميع المواد تعود الى الماء. ارسطو(384-322) في وقت لاحق عرض عدة اسباب دعت طاليس لإختيار الماء، معظمها ملاحظات بسيطة حول ما تتطلبه الحياة من ماء وكيف يمكن تحول المادة من حالة الى اخرى. يُعتقد ان طاليس جادل ايضا بان الارض كانت عائمة في بحر من الماء. التحولات العرضية للكوكب في هذا البحر، كما يرى، كانت سببا للزلازل. ارسطو يخبرنا ان طاليس كان اول فرد في تاريخ اليونان غير مقتنع بالتوضيحات الميثولوجية للعالم الذي حوله لذا حاول تقديم بدائل من خلال التفكير. وبصرف النظر عن فكرته الوهمية بان الارض ربما نشأت من الماء والتي اُبطلت علميا منذ عام 1768، لكن طاليس يستحق الإعجاب الدائم لبدئه اولى تقاليد التوضيح العقلاني للعالم، مستعملا فقط الدليل الملاحظ.

اناكسيماندر: اللامحدود aperion

كان اناكسيماندر معاصرا وتلميذا لطاليس، عاش في ميليتس وهو اول فيلسوف يوناني كتب افكاره على الورق. هو ايضا طور ما اعتُبر اول نقاش فلسفي لموقفه مقابل ملاحظات طاليس التجريبية. هو ايضا قيل اول من وضع خارطة للعالم المعروف باليونان.

نظر اناكسيماندر بأربعة عناصر كلاسيكية – الماء والهواء والنار والارض وجادل بان لا أحد من هذه العناصر يمكن ان يكون المبدأ الاول. هذه العناصر كانت محدودة ومتناهية وتميل لإلغاء تأثير بعضها على البعض الآخر. بدلا من ذلك، هو اقترح مادة جديدة تسمى ابيرون apeiron ترجمتها "اللامحدود" وافترض ان تكون لا متناهية.

هو ايضا نظّر حول الكون. كان اول من جادل بان الأجرام السماوية خلقت دوائر كاملة عندما تحركت في سماء الليل، وهي الخطوة الكبرى الى الامام في علم الفلك. كذلك، هو جادل بان الارض كانت طافية في فضاء فارغ وان الاجسام السماوية التي نراها لم تكن متساوية المسافات وهو اختراع لمفهوم الفضاء الخارجي. واذا كانت هذه الافكار استنفذت فائدتها، فان حالات التقدم الكبرى بدرجة او بأقل نشأت من حجج فلسفية نقحها الفلاسفة اللاحقون مثل افلاطون وارسطو.

اناكسيمين: كل شيء هواء

وهو آخر الفلاسفة الكبار في ميليتيس وقيل انه عمل او درس تحت اشراف اناكسيماندر. هو انتقل بعيدا عن فكرة معلمه في المادة المجزأة التي اصبحت عناصر نتفاعل معها، واقترح ان الهواء هو المبدأ الاول. هو كان يعني ضمنا ان الهواء كان شبيه بالاله وهو غير متناهي في الحجم.

خلافا لأسلافه، هو ايضا وضع نظرية في كيفية عمل هذا. اولا، هو اقترح ان الهواء الكثيف يبرد ويصبح ماءً وارض. وعندما يمتزج بالماء، يسخن الهواء ويصبح نارا. هو ايضا اشار بان هذا يمكن اختباره عبر النفخ على اليد بهواء أقل كثافة بينما الرطوبة وقلة درجات الحرارة ارتبطت بتكثيف الهواء. بعد ذلك، وفي موضوع الكون هو اقترح ان الهواء كان ايضا اساس النجوم والذي عمل تماما مثل احتراق الاشياء على الارض. بهذا الاقتراح أدخل اناكسيمين للفكر الغربي فكرة نظرية التحول المدعومة تجريبيا التي يمكن مناقشتها واختبارها. فكرته قبل 2000 سنة بان قوانين الطبيعة تنطبق على الكون مثلما تنطبق على الأرض جرى إثباتها من قبل اسحق نيوتن في بداية القرن الثامن عشر.

هيراقليطس: التدفق والنار

كان هيرقليطس فيلسوفا من مدينة أفسس Ephesus الواقعة في تركيا الحالية. عاش في القرن السادس قبل الميلاد. وبينما عمله كان استجابة لفلاسفة ميليسان، لكنه لا يُعتقد  انه درس معهم. بقي من كتاباته فقط جزءا بسيطا منها ، هو قال ان العالم وُجد دائما وهو مرتكزا على نار أزلية، وان كل شيء يتغير باستمرار. أدخل هيرقليطس نظاما تتحول به العناصر الى عناصر اخرى وان بدت التفاصيل غامضة للعقل المعاصر. فمثلا، هو يوضح : "تحول النار: اولاً بحر، ومن البحر نصف هو ارض، ونصف رياح نارية". كذلك، هو اكد على ان هذه العملية ايضا تعمل رجوعا مع الحفاظ على تناسب المادة.

جادل هيراقليطس بان الكون هو في تدفق مستمر،ولاشيء يبقى ذاته اكثر من لحظة واحدة. قوله الشهير (لا احد يستطيع النزول في نفس النهر مرتين) يبدو في الظاهر عميقا وله مضامين هامة تجاه المعرفة التجريبية.

بارمنديس: عالم الوحدة

وهو فيلسوف من ايليا (مستوطنة يونانية في ايطاليا الحديثة) عاش حوالي سنة 500 قبل الميلاد. كان بارمنديس ربما أعظم فلاسفة ما قبل سقراط. تقليديا كان من أهم أعماله كتاب "حول الطبيعة" وهو تحفة فنية ضم حوالي 800 قصيدة شعرية حول طبيعة الواقع، فيه يجادل ان العالم الذي نراه ليس الاّ وهما. الطبيعة الحقيقية للعالم غير متاحة لأحاسيسنا لكن يمكن الوصول اليها عبر العقل. كذلك، هذا العالم "الواقعي:" هو لا يتغير، وموحد وبلا زمن. حجته تبدأ بفكرة اننا لا نستطيع امتلاك مفهوم عقلاني لـ "العدم". طالما العدم لا يمكن ان يوجد، هو اعتقد بعدم وجود مكان فارغ. (ميكانيكا الكوانتم اثبتت صحة هذا). بدون مكان فارغ يتم التحرك نحوه، تكون الحركة مستحيلة. هو استمر في هذه الطريقة حتى دحض فكرة التغيير والاختلاف والنهاية. بعد ذلك هو التفت الى العالم الذي نتفاعل معه، موضحا اياه كظهور فقط.

تأثيره على الفكر الغربي كان هاما، خاصة من خلال افلاطون.  زينوس صاحب المفارقات الشهيرة دعم افكار بارمنديس التي استمرت بالتأثير على الفلسفة انذاك. اقتراحه بان أحاسيسنا هي بلا فائدة عند النظر للحقيقة اثبت نجاحه. (عمانوئيل كانط طرح حجة مشابهة). فلاسفة ما قبل سقراط الآخرون اعترفوا بجدية وأهمية افكاره.

ديموقريطس: الذرات

وُلد في ابديرا (المستوطنة الايونية) عام 460 ق.م. كان ديموقريطس مؤلفا غزير الانتاج كتب حول كل شيء من الاخلاق الى علم النبات. كان ديموقريطس من بين اوائل المفكرين الذين اقترحوا فكرة الذرة. هو او ربما تلميذه ليوسيبوس وضعا نظرية سميت "الذرية". هو جادل بان من المستحيل تجزئة المادة الى مالانهاية، لأنه يجب الوصول الى نقطة فيها لم يعد ممكنا تجزئة الشيء الى نصفين. وبهذا، انت لديك ذرات، وتعني "لا تتجزا".

الذرات التي تتحرك من خلال الفراغ حسب قوله، تبني كل العالم بالارتكاز على شكلها، ترتيبها، موقعها في زمن معين. السمات النوعية للعالم ليست متأصلة في ذرات وانما نتجت بواسطة التفاعل بين الذرات التي تصنع الاشياء الخارجية وتلك التي تشكل أجسامنا. الذرية اليونانية كانت تأملية بالكامل – لم يتم ابراز دليل مادي الاّ في بداية القرن التاسع عشر – وديموقريطس نال احترام اولئك الذين لم يتفقوا معه. من بينهم كان ارسطو الذي مدحه لقدرته الفكرية بينما رفض الذرية. الفكرة اعيد مراجعتها بعد قرون عندما قام مفكرون مثل غاليلو وديكارت باستطلاع قضية فلسفية مشابهة.

افلاطون: الأشكال

عمل افلاطون بشكل رئيسي في أثينا في القرن الرابع ق.م، وبقي قمة شاهقة بين الفلاسفة. تفكيره ذهب الى ما وراء فكرة معلمه سقراط، وأثّر بشكل جوهري على كل فلسفة الغرب والشرق الاوسط اللاحقة. كذلك، هو اسس اكاديمية اثينا حيث درس فيها كبار العقول بمن فيهم ارسطو. كتب افلاطون عدة موضوعات من ضمنها الميتافيزيقا. نظريته في الأشكال كانت مرتكزة عل افكار ما قبل سقراط. هو جادل ان العالم الذي نعيش به هو نسخة غير تامة لعالم "الاشكال": اللامتغير، الغير مادي، الجوهر المستمر لكل الاشياء. الاشياء اليومية مثل الكرسي هو اعادة انتاج ناقصة لـ "شكل الكرسي". ونفس الشيء ينطبق على كل شيء يوجد في العالم المادي.

يجادل افلاطون (مثل بارمنديس لدرجة ما) ان العنصر المؤسس للواقع هو رياضي ومثالي وهو يتفق مع هيرقليطس بان العالم الذي نتفاعل معه هو دائما يتغير ،وهو يستعير من فلاسفة ميليتس افكارا حول الكيفية التي تتحول بها العناصر الى عنصر آخر.

فتح افلاطون  نظريته للتساؤل. حوار بارمنديس الذي يصور اجتماعا وهميا بين سقراط وبرمنديس يناقش الاشكال، يبدو يبيّن اما رفضه للنظرية لاحقا في حياته او الحاجة الى اجراء تنقيح عليها.

تراث افلاطون يبقى عصيا على المقارنة. الفريد نورث وايتهد ذكر ان كل الفلسفة الغربية ليست الى سلسلة من حواشي افلاطون.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم