أقلام فكرية

جدليةُ العلمِ والدينِ

"… من أين لي هذا الشعور الذي يعمل في قلبي ويحملني إلى التفتيش عن الله؟" هكذا تساءل ليو تولستوي في كتابه "اعتراف"، وها أنا أعيد مراجعة هذا الشعور العجيب والمدهش الذي يدبُ دائمًا في أعماق الوجدان متسائلًا عن معنى الوجود ولغزه، والأهم عن ما وراء هذا المعنى الوجودي الذي أراه يقودني إلى معادلة جوهرية مطلقة لا يمكن التنصّل من وجودها الذي نشعر به في داخلنا، وهذا ما يعكس معنى "الله" عند الإنسان المتدين. مناقشة قضية الإيمان بمضمونها العام والخاص من ضمن القضايا الجدلية الساخنة التي تأرجحت في مضمونها بالجانب الديني والجانب العلمي؛ مما ساهم في حدوث صراع يكاد لا ينتهي ولا يُحل.

من أي طريق وبرهان يمكن للعلم أنْ يثبتَ وجودًا لله؟ هكذا تبدأ جدلية لا تنتهي إلى جوابٍ مطلقٍ وصريحٍ أطرافها العلم والدين، ويخوض أتباع هذه الأطراف معارك حجاجية مفعمة بالتنافر والتناحر في سبيل الانتصار إما للعلم وإما للدين. هذه القضية أشبه بصراع يدور - ومنذ فترة ليست بطويلة - بين العلم والفلسفة -برغم أنَّ الفلسفة وسيلة أولية للعلم- مثل ما روّج له ستيفن هوكنج عندما أعلن عن موت الفلسفة وهزيمتها أمام سطوة العلم، وهوكنج نفسه حذّر من فشل العلم في الحياة من حيث تعاطي الإنسان مع العلم، ومن حيث عدم قدرة الإنسان على كبح طفرة العلم المتمثلة في التقدم التقني وتحديدًا الذكاء الاصطناعي الذي يراه هوكنج تهديدًا يهدد مستقبلَ الإنسانِ ووجوده. هذه النظرة التشاؤمية التي يعرضها هوكنج سواءً فيما يخص نظرته الدونية لدور الفلسفة أو حتى نظرته السلبية لمستقبل العلم ليست بجديدة فقد سبقها معركة أكثر قدمًا منها بين العلم والدين، وعندما نعود إلى تاريخ هذا الصراع نجده -في غالبه- متأصلًا في صراع الكنيسة مع العلم بصفتها ممثلة للدين، وهذا يعيدنا إلى مشهد محاكمة سقراط وموته نتيجة الصراع بين المنظومة الدينية وآراء سقراط الفلسفية. أما صراع العلم والدين الذي بلغ ذروته في القرون الوسطى فهو عائد إلى التناقض الكبير بين النصوص الدينية التي تتمسك بها الكنيسة وبين الانبثاقات العلمية مثل مسألة مركزية الشمس التي أعلن عنها نيكولاس كوبرنيكوس وبعده جاليليو جاليلي وما صاحب انبثاق هذا الإعلان العلمي من تحديات تواجه سلطة الكنيسة ومبادئها التي تتعارض مع هذا المنهج العلمي الذي نتج عنه قيام محاكم التفتيش التابعة للكنيسة الكاثوليكية باضطهاد أتباع المنهج العلمي ومحاكمتهم. تتوالى بعدها مثل هذه الصراعات بين العلم والدين فنجدها مرة في صدمة أخرى تتلقاها الكنيسة فيما يعرضه العلم الجيولوجي عن تقدير عُمْر الأرض والحياة المناقض لنصوص كتابها المقدس، وكذلك تفسير العلم لآلية الحياة وتطورها المتمثل في نظرية التطور. هذا الصراع لم يقفْ حتى يومِنا؛ فمنذ زمن ليس ببعيد وثّقَ التاريخُ مقاومة بعض التيارات الدينية -بعضهم حتى يومنا- لمخرجات العلم من تقنيات ووسائل مثل جهاز الرائي "التلفاز" والمذياع والهاتف وأجهزة التصوير؛ لنجد أنَّ جذور هذه المقاومة تنبع من الفهم والتأويل الخاطئ للدين التي يظن أتباعها أنهم بتلك الممانعة والمقاومة يقيمون سدًا منيعًا لحماية مبادئ الدين وعقيدته.

في الجانب المقابل نجد أيضا صعودَ المقاومة العلمية للدين، ومحاولة حماية العلم وضمان استقلاله، بل تطور الأمر إلى محاولة فرض العلم إلهًا جديدًا للإنسان وإزالة الدين، وعندما ننظر إلى هذه النزعة العلموية فهي الأخرى لا تقل خطرًا عن المقاومة السلبية التي أظهرتها المؤسسات الدينية للعلم، وهذا يُرجعنا إلى جذور العلاقة المتوترة بين الكنيسة والعلم ليؤثر لاحقًا على مجرى التناغم الذي كان بين العلم والإسلام، ونجد ذلك "مثلًا" في التوجس السلبي الذي أبداه فيلسوف وعالِم كبير مثل أبو حامد الغزالي حين أعلن عن موقفه المعارض -في مرحلة حرجة من مراحل مسيرته العلمية- للفلسفة وإدراجها في قائمة المحظورات الدينية، مما فاقم من اتساع فجوة الخلاف بين العقل والنص، بصفة أنَّ العقل الممثل الشرعي للفلسفة، والذي ولّد توجسًا دينيًا غير مبررٍ للقضايا العلمية، وهذا ما نراه جليًا في موقف بعض فقهاء المسلمين من تعاطيهم لنظريات علمية مثل نظرية التطور التي أتخذ بعضهم موقفًا سلبيًا منها دون تحديدٍ أو تجزئة لمفاصلِ التعارض الديني لهذه النظرية التي -في كثير من أجزائها "الأصلية"- تعكس تفسيرًا علميًا محضًا لا يتعاطى مع أي حيثيات دينية، مع تأكيدي لوجود لجزئيات دخيلة (بعض مدخلات الدارونية الحديثة) جاءت بعد فترة لتلتصق بهذه النظرية لتستغلها في توليد شقاق عميق وواسع مع الدين محاولةً في هدم المبدأَ الإيماني الذي يُعنى الدين بالمحافظة عليه وتأصيل قواعده وأركانه.

من وجهة نظري، لا حقيقة جوهرية لوجود صراع بين الدين والعلم؛ فالدين السليم الناصع لا يمكن أنْ يتعارض مع العلم الصحيح، وهذا براهنه مثل براهن نفي التعارض بين العقل "المعقول" السليم مع النص السليم، ووفقًا للمنطق السليم عند حدوث أي تعارض فهناك خطأ ما في أحد هذين الطرفين. نجد الدين المتمثل في النص السليم لا يمارس أي وصاية على حياة الإنسان وخياراته بل يقيم برهانًا وحجة عقلية توجه هذا الإنسان إلى طرح تساؤلات وجودية مهمة، وتساعده على إيجاد الجواب على هذه التساؤلات؛ فترشده إلى البناء الإنساني القويم "الأخلاقي" لتحدد علاقته بداخله وخارجه؛ لتحدد موقعه في هذا الوجود وترشده إلى العلة الأولى المطلقة "الخالق"، في المقابل نجد العلم لا يسعى ليرشد الإنسان إلى هذا الجانب الإيماني، بل يعمل مكملًا ليرشده في فهم آلية عمل الكون والحياة وتفسيرهما دون ولوج إلى أي تفسير للعلة المطلقة "الخالق" حينها نجد اكتمالًا مدهشًا لهذه المعادلة الصعبة التي فشلت أممٌ كثيرة في تحقيقها، ووفقًا لهذه العلاقة المتناغمة بين الدين والعلم تتضح معالم معادلة الإيمان بصورة أكثر جمالًا وإشراقًا دون أنْ نجدَ أنفسَنا تحت تأثير التأويل الديني المخالف للعقل والعلم، وتأثير التأويل العلمي المتعصب للقطب المادي المنكر للجانب الشعوري والروحي للإنسان. لابد لهذه العلاقة من توازن؛ فالدين لا يسعى لفهم الكون وآلية عمله بل يسعى للإجابة عن أسئلة وجودية عميقة، ولتأمين منظومة أخلاقية فاضلة تحفظ حرية الإنسان وكرامته، أما العلم فيسعى إلى تبيان شكل هذا الوجود وعمله؛ ولا يمكن له أنْ يبرهنَ وجودًا ميتافيزيقيًا بشكل تجريبي جلي بل يمنح هذا الإنسان حق التأمل والاستنتاج، وحق الانتفاع الأفضل من مكنونات هذا الوجود العظيم.

نحن اليوم أمام موجةٍ فكريةٍ تحاولُ أنْ تحاكمَ الدين باسم العلم، وتحاول أنْ تفرضَ شروطها ومعاييرها الدغمائية لتسلك بالبشرية مسلك المادية دون أنْ تقيمَ وزنًا لقيم الإنسان وخياراته الروحية (الدينية)، وفي المقابل نجدُ أيضا تيارًا دينيًا يحاول أنْ يحاكمَ العلم باسم الدين وأنْ يزيحه ليستفرد بمدخلات العقل البشري. هذه المعادلة الناقصة لن تصنع إنسانًا ومجتمعًا متناغمًا مع متطلباتِه الداخلية والخارجية؛ فغلبة العلم وتأليهه في الغرب قاد إلى إيجاد إنسان مادي يفقد المعنى الروحي للحياة؛ فنراه يستعين -مرة أخرى- بالفلسفة لتعينه على تعويض هذا النقص ليجد نفسه مشتتًا بين مدارس فلسفية كثيرة ومتغايرة، أما المجتمعات الشرقية (خصوصًا العربية) وجدت نفسها في قالب ديني تخلى عن أداة العقل؛ فعطل مسايرة العلم وتطوره خوفًا من فقدان الدين الذي هو الآخر لم يسلمْ من التشويه، فنجده يصيغ باسم الدين تأويلات وتفسيرات لظواهر الكون وألغازه؛ فيقحم الدين في خصوصيات العلم؛ فنجده غارقًا في ظلمات الجهل والتخلف ولم يطمعْ في البحث والاكتشاف لينال شرف الدين والعلم معًا.

***

د. معمّر بن علي التوبي

باحث وأكاديمي عُماني

 

في المثقف اليوم