أقلام فكرية

هل هناك منطق واحد ام متعدد؟

عصرنا الحالي هو عصر التعددية، لا توجد هناك طريقة واحدة لعمل الأشياء، وانما هناك عدة طرق، لاعقيدة واحدة وانما تنوّع، لا دين واحد صحيح وانما عدة أشكال من الايمان كلها ذات مشروعية متساوية. نحن نستطيع، ويجب ان نعيش حياتنا كما نرغب طبقا لأهدافنا وقيمنا الشخصية وضمن حدود واسعة.

هذه هي عقيدة العديد من الناس. لكن حتى لو وافقنا على هذا البيان في التنوع، هل هناك عدة طرق صحيحة للمنطق؟ هل الأمر متروك لنا في كيفية التفكير المنطقي؟ هل يمكننا التفكير بطريقة او باخرى اعتماداً على ميولنا ومزاجنا ومنظورنا؟

للإجابة على هذه الأسئلة يجب ان نكون واضحين حول ما يستلزمه التفكير. في لب التفكير يكمن المنطق، وهو الموضوع القديم قدم الفلسفة ذاتها، وأحد فروعها الرئيسية. ارسطو اخترع دراسة المنطق سنة 350 ق.م. هو قام بتنظيم نطاق من الحجج المنطقية أسماها القياس "syllogisms"، منها الشكل التالي:

جميع المؤثرون استعراضيون.

جميع الاستعراضيون بلا حياء.

لذلك: جميع المؤثرون هم بلا حياء.

في القياس أعلاه، تكون الجملتان الاولى والثانية هما مقدمة للحجة، والجملة الثالثة التي تأتي بعد كلمة "لذلك" هي استنتاج الحجة، والاستنتاج يتبع المقدمة ومرتبط بها بشكل وثيق. قد يقول قائل ان المثال أعلاه لم يضعه ارسطو، لكنه شكل من الحجة اعترف به ارسطو ووصفه.

ان دراسة القياس شغلت المنطقيين لعدة قرون. من الواضح ان ارسطو اعتقد ان هناك طريقة صحيحة وطريقة خاطئة للتفكير. مختلف انواع القياس التي ناقشها كانت في جوهر منطقه، وبالنسبة له، لا توجد هناك طريقتنان حول المنطق: اذا كنت تعتقد بالمقدمات، من الأحسن لك ان تعتقد بالإستنتاج. وكما ذكر ارسطو في عمله "التحليلات القبلية"، ان القياس هو شكل من الخطاب "جرى فيه افتراض اشياء معينة كـ "مقدمة"، سينتج عنها بالضرورة "استنتاج" وهو شيء مختلف عن الاشياء التي جرى افتراضها ".

لاحظنا ان ارسطو يقول ان الاستنتاج يجب ان يتبع من المقدمة بالضرورة. لا أحد حاليا من المؤلفين له اتصال مباشر مع ارسطو، لكننا متأكدون بثقة انه سيكون مصدوما بالاقتراح ان هناك اكثر من طريقة صحيحة واحدة للتفكير.

غير ان "التفكير" هو صنف واسع. انه يأتي بعدة أشكال، ليست جميعها منطقية. اذا كنت تعيش في ارض جافة كان فيها قليل من المطر في الشتاء، انت سوف تستنتج وبشكل معقول ان الجفاف سيتبع في الصيف القادم لو انه في الماضي جاء جفاف الصيف بعد شتاء جاف. لكن هذا الاستنتاج لا يتبع بالضرورة من المقدمة: الربيع قد يربك التوقعات ويكون رطبا. تفكيرك هنا لا يقدم سببا مؤكدا لا لبس فيه.

اذاً ما هو الشيء الخاص حول التفكير المنطقي؟ نحن نتفق مع العديد من الفلاسفة ان له علاقة بالشكل.

لنحاول التجربة التالية. لو وجدنا شخصا لا يعرف معنى كلمة "حافر"، بعد ذلك نسأله ما اذا كان في الحجة التالية يأتي الاستنتاج من المقدمتين:

جميع ذات الحوفرا ثدييات.

جميع الثدييات ذوات دم حار.

لذلك: جميع ذات الحوافر هي من ذوي الدم الحار.

هذه الحجة مألوفة لطلاب المنطق، ودائما يصلون الى نفس النتيجة. العديد من الطلاب لا يعرفون ما هي "ذات الحوافر" لكنهم جميعا يعترفون ان الحجة صالحة: اي ان الاستنتاج يتبع وبشكل وثيق من المقدمتين: أي اذا كان ما تقوله المقدمة صحيحا، عندئذ الاستنتاج يجب ان يكون صحيحا.

اذاً ماذا يبيّن هذا؟ انه يبيّن ان الصلاحية المنطقية تعتمد على الشكل.

لهذا، لكي نعترف بصلاحية الحجة، يجب ان نعترف انها تمتلك شكلا منطقيا صالحا، ولا نحتاج معرفة أي شيء آخر.

لذلك، فان المنطق هو شكلي. هو ايضا، وبالمعنى الدقيق للكلمة، ليس نظرية للتفكير. التفكير هو شيء ما نقوم به، اما المنطق هو حول ما تتبعه العبارات من اخرى غيرها. العلاقة المنطقية بين البيانات او العبارات تصمد (او لا تصمد) سواء أحببناها ام لا، المنطق ليس تعبيرا عن مركزية الانسان. وعندما نفكر جيدا، ينبغي ان نحترم مضامين المنطق. اذا كانت بعض المقدمات المعقولة تتضمن منطقيا استنتاجات غير معقولة، سيكون لدينا خيار: اما نقبل بالاستنتاج او نتخلى عن احدى المقدمات.

اذاً ماذا هو المنطق: انه شكلي، وهو متميز عن التفكير، حتى عندما يحاول التفكير الجيد احترام المنطق. الآن نعود الى سؤالنا الأصلي: هل هناك منطق واحد صحيح ام هناك أكثر من واحد؟

إمكانات منطقية

قد يبدو هذا سؤالا غريبا. كل واحد ربما سمع بالمنطق لكن ليس الكثير من المنطق. لنبدأ بالتفكير حول لماذا قد يكون هناك الكثير من المنطق. طلاب المنطق لا يتعلمون فقط حول ذوات الحوافر، هم ايضا يتعلمون مبادئ منطقية مختلفة مثيرة للجدل تسبب ارتباكا. احد المبادئ الذي لا يرغبون العمل به هو التكافؤ الثنائي bivalenc: وهي الفكرة بان كل جملة هي اما صحيحة او زائفة. هم يحتجون قائلين كلّا، لأن هناك عدد هائل من الأمثلة لاتدخل ضمن هذه الثنائية الصارمة. لو قال احد ان "فيلم قوة الكلب هو فيلم جميل"، بالتأكيد انه لم يقل شيئا صحيحا او زائفا، بل، انها مسألة رأي – ونفس الشيء بالنسبة لمسائل الذوق الاخرى، مثل "هذا بيرغر طيب المذاق". ربما اللغة الاخلاقية تسير بالضد من التكافؤ الثنائي. هل القول "إيذاء الكلب عمل خاطئ" هو قول صحيح ام زائف؟ ام انه بدلا من ذلك يعبّر فقط عن عدم موافقة المتكلم على إيذاء الكلب؟ اذا كان الامر هكذا، فالامر يبدو مرة اخرى وكأنه مسألة ذوق.

لو تمعنّا في أي من هذه الامثلة سوف نرى ان التكافؤ الثنائي لا يصمد دون استثناء. لكننا نريد المنطق ان يصمد دائما دون استثناء، ولهذا، التكافؤ الثنائي لا يمكن ان يكون مبدأ للمنطق. احدنا ربما يعتقد ان هناك طريقة ثالثة تكون فيها الجمل غير تلك الـ صحيحة و زائفة، وربما هناك طريقة رابعة او عدد لا متناهي من الطرق.

مهما كانت الطريقة التي نختارها، نحن نبني منطقا يتناسب مع حاجاتنا. كمبتدئين منطقيين، نحن سوف نتعلم ان التناقضات لا يمكن ان تكون صحيحة ابدا حتى عندما نعتقد ان السماء " تمطر وانها لا تمطر" كوصف معقول تماما للرذاذ. نحن سوف نتعلم ان التناقضات تنفجر وتتضمن أي شيء وكل شيء.

أول منطق يتعلمه كل شخص – والذي يتضمن كل هذه المبادئ المثيرة للخلاف – يسمى المنطق الكلاسيكي. الاسم يحمل شعبية عالية، اسم يضع هذا المنطق في مصاف المجموعة الراقية للموسيقى الكلاسيكية او الطبخ الفرنسي الكلاسيكي. لكن المؤيدين للمنطق غير الكلاسيكي سيكونون سعداء للتأكيد، انها ليس اكثر من مصادفة تاريخية انتهينا بالمنطق الذي لدينا. هم ربما يضيفون ان هناك عدة انواع من المنطق في السوق جميعها ترفض جزءاً من المنطق الكلاسيكي المشكوك فيه. أي واحد منها يجب ان نستعمل؟ ربما نستطيع استعمال جميعها، او على الاقل عدد منها. ربما نستطيع التفكير كلاسيكيا معظم الوقت، ولكن ليس كلاسيكيا عندما نشعر بالرغبة في عمل ما. هذا هو الخط الذي سلكه التعدديون المنطقيون. دعْ آلاف الزهور تتفتح، لا حاجة للاختيار من بينها.

لكن، موقف التعدديون المنطقيون هو موقف حساس. هم يريدون الجدال لرؤيتهم، لكن أي وسيلة يستعملون للقيام بهذا؟ الحجة هي، في النهاية، مجال المنطق، وما هو منطقي هو بالضبط ما هو قيد النقاش.

التعددية المنطقية والنسبية الاخلاقية

هذا الموقف ربما يبدو مألوفا. ذكرنا آنفا الإنكار المحتمل للحقائق الاخلاقية. ومع ان هناك عدة طرق لتطوير تلك الرؤية، لكن المسار الذي استعمله الكثيرون هو النسبية الاخلاقية، حيث وفقا لها تكون الادّعاءات الاخلاقية ليست صحيحة ابدا" من تلقاء ذاتها" – وانما انت يجب ان تحدد المعيار الفردي او الاخلاقي الذي بواسطته يمكن تقييم الادّعاء. انه ليس فقط "هذا او ذاك هو حقا صحيح او خطأ"، وانما "طبقا لهذه الثقافة او هذا الفرد، هذا او ذاك هو صحيح او خطأ". النسبية الاخلاقية تواجه عدة مشاكل، ولكن واحدة من أهمها هي انها تبدو تتجاهل ذاتها. انها تقول ان الادّعاءات الاخلاقية هي صحيحة فقط طبقا لثقافة معينة او فرد معين. لكن بيان النسبية الاخلاقية هو ذاته ادّعاء اخلاقي، وعالمي،ايضا. لذا هو صحيح فقط طبقا لبعض المعايير غير النسبية: ان النسبي الاخلاقي يريد من النسبية الاخلاقية ان تكون صحيحة بالمطلق، وليس فقط نسبية. هم يريدون وبإصرار القول ان "كل ادّعاء اخلاقي هو صحيح فقط طبقا لبعض المعايير النسبية، باستثناء هذا المعيار. لكن هذا نوع من الاحتيال.

ماذا يمكن ان نتعلم من قصة النسبية الأخلاقية هذه حول المنطق؟ نحن نرى موقف التعددية المنطقية مماثلا للنسبية الاخلاقية. التعددي المنطقي يعتقد ان موقفه صحيح وهو يريد اقناعنا بذات الشيء. لكن اذا اراد اقناعنا، هو سيحتاج الى تقديم حجة. وان تلك الحجة يجب ان تكون صحيحة. لكنه يقبل بالعديد من انواع المنطق، ويعتقد فقط ان الحجة صالحة قياسا للمنطق المُختار. لذا هو يحتاج القول: "كل حجة هي صالحة فقط طبقا لمنطق مختار، باستثناء حجة التعددية المنطقية". وهذا احتيال ايضا.

هذا التشابه ربما غير مدهش كثيرا. النسبية الاخلاقية توصف عادة كنوع من التعددية. النسبي الأخلاقي يريد ان يدع آلاف الزهور تتفتح. والتعددي المنطقي يوصف عادة كنوع من النسبي. هو يريد تقييم ما اذا كانت الحجة صالحة قياسا بمنطق أخلاقي معين. لذلك نحن نتوقع حججا ضد نظام منطقي معين لنجد ما يقابلها من الحجج ضد الآخر(والمسألة تُعمم لأشكال اخرى من النسبية/التعددية ايضا).

أين يقودنا هذا؟ اذا لم تكن التعددية المنطقية خيارا، عندئذ نحن يجب ان نختار واحدا من انواع المنطق، وندافع عنه باعتباره المنطق الصحيح. السؤال القادم: اذا كان هناك فقط منطق واحد صالح، فما هو؟ هذا السؤال ربما سيكون موضوعا ليوم آخر.

***

حاتم حميد محسن

...............

One logic or many? Philosophy Now, Feb/March 2023

 

في المثقف اليوم