أقلام فكرية

أسعد عبد الرزاق: رؤية تأسيسية لفلسفة العلوم الدينية

مدخل: يعد حقل فلسفة العلم ضمن مجال الفلسفة في الأبستمولوجيا، والذي يهتم بطبيعة العلوم وخصائصها النظرية عبر رؤية مكثفة من خارج العلم تتناول تاريخ العلم ومصادر معرفته وطبيعة نظرياته وخصائص اصطلاحاته وطبيعة البناءات المنهجية التي تحكمه..

والعلوم الانسانية لم تحظَ منذ البدء بفلسفة تبحث في بنيتها، بل تأثرت بفلسفة العلم في العلوم الطبيعية، اذ كانت فلسفة العلم تعنى بالعلوم الطبيعية، ومن ثم وبعد ظهور العلوم الانسانية، تأثرت الأخيرة بفلسفة العلم، وقد واجهت فلسفة العلوم الانسانية بعض الصعوبات، بسبب كونها تدرس ظواهر متفردة وخفية، بمعنى ان موضوعات العلوم الانسانية كعلم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا من الموضوعات غير المشاهدة بالحس، ولا تخضع إلى الإحاطة المختبرية، وانما موصوفة من خلال الملاحظة المجملة لسلوك الفرد والجماعة، مما يتعسر الوقوف على الظاهرة كما يقف العلم التجريبي على الظاهرة في المختبر، ومن ناحية أخرى تمتاز موضوعات العلوم الانسانية بالتعقيد، لكونها متداخلة، ومتغيرة، وفق الاطار الزمكاني، حتى علوم اللغة منها، عصية على مناهج العلم التجريبي، اذن ثمة تأثر وتفاعل بين العلوم الانسانية وفلسفة العلم من جهة، وثمة تعقيد وابهام في اصل تكون فلسفة العلوم الانسانية، لأننا تارة ندرس علم الطبيعة أو علم الانسان، او علم الفيزياء، او علم الاجتماع..، وتارة أخرى ندرس علم العلم، وهو مساحة للتفكير من خارج العلم، وفي مناهج العلم وظواهره ومشكلاته العامة، والأهم من ذلك التفكير في قيمته..

وقد تطورت فلسفة العلم من الوصف الى النقد من خلال تحول تعريفات فلسفة العلم وتطور مفهومها، فبعد أن كانت فلسفة العلم تنحو منحى وصفيا، فقد أصبحت تمارس النقد والتحليل، وهو ما يفضي إلى أن تكون مؤثرة في تطور العلوم وتصحيح بعض مساراتها.

وفي معرض تناول فلسفة العلوم الدينية، ينبغي ملاحظة المحاولات التي ركزت على بعض من تلك العلوم، كما في (فلسفة الفقه) و(فلسفة أصول الفقه)، وفلسفة الدين كمجال أوسع قد يتداخل بنسبة عالية مع ما تتم المحاولة اليه من اكتشاف ملامح لفلسفة العلوم الدينية، اذ تعد فلسفة الدين مجالا واسعا ومفتوحا على فروع الفلسفة (اللاهوت، الابستمولوجيا، الوجود، القيم والجمال)، في حين تكاد تقتصر فلسفة العلوم الدينية على (المجال المعرفي الابستيمي)، من دون التركيز على تناول المجال الوجودي الانطولوجي او القيمي الاكسيولوجي، ومن هنا تبرز الجدة في تناول فلسفة العلوم الدينية بنحو من الاستقلال عن الفروع الاخرى للفلسفة من جهة، والشمول لجل تخصصات العلوم الدينية من جهة أخرى.

لذا يمكن –بنحو أولي- تحديد أهداف عدة لفلسفة العلوم الدينية على وفق الفقرات:

1- تحديد طبيعة مصادر المعرفة في العلوم الدينية.

2- تحديد أسس بناء النظرية العلمية في حقل الاختصاص الديني.

3- تحديد طبيعة مناهج المعرفة والفهم في العلوم الدينية، وثمة خلاف حول هذا الهدف، وهل يعد علم المناهج علما مستقلا، أم ممكن أن ينضوي تحت فلسفة العلم..

4- محاولة تحليل اشكالية الذاتي والموضوعي في البحث المعرفي في العلوم الدينية.

5- تحديد الذاتي والعرضي في البحث المعرفي في العلوم الدينية.

6- تحديد أسس التعاطي مع المعارف الغيبية وتقنين توظيفها في المسارات البحثية بما يتناسب مع مقتضيات البحث العلمي.

7- محاولة اكتشاف وتحديد المرجعيات المعرفية والبرادايم المعرفي من خلال تحديد النماذج الارشادية في مختلف تخصصات المعرفة الدينية.

8- محاولة تحديد قيمة المعرفة التي ينتجها العقل الديني، ومدى ثباتها أو اطلاقها، وتحديد مديات التفاوت فيها.

وهذه الفقرات يمكن عدّها أهداف أولية لفلسفة العلوم الدينية، الى حين الاكتمال والنضج حتى تتم معالجة التداخل فيما بينها، أو الاضافة والحذف لبعض منها، لأن مجال الفلسفة أوسع من مجال العلم، ومديات البحث والتفكير في الفلسفة أبعد منها في العلوم، فغالبا ما يكون العلم محددا بأسيجة من النظريات والقواعد التي تشكل نسقا منسجما له اصطلاحاته وحدوده المنهجية، في حين تطرق الفلسفة جميع أبواب المعرفة فيما يخض العلم، فهي تثير التساؤلات وتقترح الإجابات حول كل علم من العلوم الطبيعة أو الإنسانية.

الخصوصية المعرفية للعلوم الدينية

ربما لا يحظى عدّ (العلوم الدينية من جملة العلوم الانسانية) بمقبولية لدى كثير من الدارسين والمتخصصين، إذ تمثل المعارف الدينية حقلا مفارقا في بعض جوانبه، لما يختص به من عناصر تتصل بالغيب، مما يشكل عائقا أمام التفكير المنهجي الذي يفترض التعاطي مع المعارف على أساس كونها معارف بشرية تتسم بطابع من النسبية والتحول وتخضع أيضا للنقد والتغيير..، لذا فإن تناول فلسفة العلوم الدينية يحيل بالضرورة الى تحديد الفاصل المنهجي بين المعارف الغيبية من جهة، وتجليات الفهم البشري من جهة أخرى، وهذا ما يؤول الى إعمال نظر دقيق في فرز ما هو مقدس عما هو أدنى منه، لتتم عملية التنظيم المنهجي بما لا يتداخل مع المعطى الغيبي يؤدي الى مفارقات معرفية غير منتجة.

ويمكن إجمال خصائص العلوم الدينية بالفقرات:

1- وجود معاني مقدسة ومفارقة، غير قابلة لأن تكون محلا للتفكير والتعقل، مثل البحث في حقيقة الذات الإلهية.

2- وجود نص ديني قطعي الصدور، غير قابل للبحث في صدق صدوره عن جهة غيبية عليا، والا سوف يكون البحث حينئذ في مجال فلسفة الدين.

3- وجود تفاوت في النماذج التي تفسر النص الديني، فمرتبة السنة المبينة أعلى من مرتبة فهم العلماء، ولكل منهما طريقة مختلفة في التعامل.

4- مديات التحول والتغير في المعارف الدينية طويلة الأمد، قد تحتاج الى قرن من الزمن لكي تبين وتنكشف.

5- التردد في طرح الرؤى بسبب ضغط العامل الإيماني على عامل التفكر والتأمل العقلي، مما يفضي إلى التأني في الفهم وطرح الأفكار.

6- ثنائية التنظير والتطبيق، العلم والعمل، في جل المعارف الدينية، مما يؤدي إلى تعدد مناهج الفهم بين ما هو نظري وما هو مرتبط بالواقع العملي.

7- ثنائية الموضوع في العلوم الدينية التي تدور حول محور المقدس من جهة، والانسان من جهة أخرى، مما يؤثر في صياغة التصورات التي تحاول أن تكون في حالة توازن بين مقتضيات وجود المقدس من جهة، ومقتضيات وجود الإنسان من جهة أخرى.

8- وجود علوم آلية تمثل وسائل وأدوات في العلوم الدينية كعلم المنطق والفلسفة والنحو والتاريخ وغيرها من الحقول المعرفية التي يمكن أن تؤدي وظيفة العلوم الخادمة.

من فلسفة الدين إلى فلسفة علوم الدين:

تتناول فلسفة الدين كل ما يرتبط بالدين من خلال رؤية من خارج الدين، تحاول أن تسلط النظر في مديات فهم الدين، من ناحية أصل ونشوء الدين، إلى قيمة عناصر التدين، والهدف من الدين، مما يشير إلى ارتباط خفي مع موضوعات علم الكلام الجديد، وبالتالي فإن فلسفة الدين أرحب وأوسع من أي علم ديني، ويكون البحث في فلسفة الدين ضمن مختلف فروع الفلسفة سواء الوجود أو المعرفة او الجمال والقيم، في حين تعنى فلسفة العلوم الدينية بالجانب المعرفي فقط.

وثمة تداخل بين علم المناهج (ميثودولوجيا) وفلسفة العلم، وفيه اتجاهان، يميل أحدهما إلى عدم التفريق بينهما فيما يميل الآخر إلى التفريق واعتبار أن المناهج علم مستقل تتناوله فلسفة العلم كما تتناول العلوم الأخرى، وهو ما نرجحه، لأن علم المناهج قد يجيب عن ماهية المنهج المتبع في أي حقل أو مجال، لكن فلسفة العلم قد تجيب عن قيمة ذلك المنهج الذي حدده مسبقا علم المناهج، لذا فإن رؤية فلسفة العلم لعلم المناهج توافق رؤيتها لبقية العلوم.

وفيما نعتقد أن فلسفة العلوم الدينية لم يتم الاشتغال عليها بنحو جاد، سوى ما يتعلق بفلسفة الفقه، أو فلسفة أصول الفقه، وأما السعي إلى اكتشاف أو تأسيس فلسفة العلوم الدينية بنحو عام سوف يؤدي وظيفتين في آن واحد:

الأولى: سوف تتشكل لدى من يتناول فلسفة العلوم الدينية رؤية جاهزة عن علم المناهج الدينية، إذ لا يمكن التفكير في فلسفة العلوم الدينية من دون تحديد عناصر العلوم الدينية من الناحية المنهجية وكيف يتكون المصطلح، وتحديد مديات النقد، وأصوله، والمتغيرات المنهجية والمفاهيمية التي تتضمنها العلوم الدينية.

الثانية: تتمثل في وظيفة فلسفة العلم في ذاتها، من خلال تقييم التصورات العلمية والمعرفية التي تم بناؤها، وممارسة النقد في بعض نواحيها، وإعادة انتاج المعارف في العلوم الدينية من خلال ما توفره فلسفة العلم من إضاءات حول المنتج البشري في المعارف والعلوم.

ان الفائدة التي يمكن أن تشكل محورا أساسا في فلسفة العلوم الدينية هي عملية ادراك الأنموذج العلمي (البرادايم)، وهي عملية لا يوفرها العلم، بل فلسفة العلم، ولا يمكن التجديد في أي علم ما لم يتم إدراك البرادايم الذي يحدد المعرفة ويوجهها من دون أن تتم ملاحظته في الغالب، فانسحاب قدسية الوحي على التفسيرات والتأويلات التي يقدمها البشر لمضامين الوحي هو نوع من سلطة الأنموذج العلمي، فما نطلع عليه من تأويل متداخل مع المضمون المتعالي، وفك التداخل لا يتم إلا من خلال إدراك أن المعرفة الوحيانية تمثل أنموذج يحكم الفهم.

على أنه تجدر الإشارة إلى أن حقل أصول الفقه يعد من أهم الحقول في العلوم الدينية التي من شأنها أن تعين على اكتشاف الخرائط المنهجية للعلوم الدينية، وربما يصح أن نطلق على أصول الفقه بـ(علم منهج العلوم الدينية)، لكونه يؤسس إلى قواعد قراءة النص الديني من جهة، وترتيب أولويات الأخذ بالأدلة النصية عبر منظومة (القطع والظن)، وهو بهذه الحال ممكن أن يكون مؤهلا للتفاعل مع القضايا العقدية أيضا، إذا ما تمت ملاحظة الجانب التنظيمي فيه، من ناحية الاختزال الاصطلاحي، والقواعد التي تنظم عملية فهم النصوص الدينية، لذا يمكن البدء فيه لتأسيس أرضية مناسبة للبحث في فلسفة العلوم الدينية، لأن من اجلى وظائف العلم الديني هو فهم معطيات الوحي، أذ يتعامل العقل العلمي الديني مع ثلاثية: (النص، الواقع، الانسان)، وهو ما يحيل إلى ضرورة منهجة التفكير في ذلك الحيز، ومن ثم تشتغل فلسفة العلم الديني على تقييم الممارسة برمتها، بعد إثارة التساؤلات واقتراح الإجابات.

هذه ورقة أولية عن محاولة جادة في مجال فلسفة العلم الديني عسى أن تنتهي إلى بحث أوسع بعون الله تعالى وتوفيقه.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

 

في المثقف اليوم