أقلام فكرية

اسعد الامارة: ما لا يمكن قوله.. سَيُبكيّ!!

"ما لا يمكن قوله.. سَيُبكيّ!!" حكمة رائعة لشاعرة يونانية أسمها "سافو" لديها مدرسة في الشعر، عاشت في القرن السابع ق.م، فعلًا أي منا من لم يقول ما يريد فإنه سيرتد إلى داخله فتمزق النفس نفسها، هذه الكلمات التي تغص بها النفس وتتعلثم المشاعر وتختنق ولا يستطيع أعلانها أو قولها تتحول هذه الكتلة من الشحنات التي لم تجد لها منفذًا مقبول في القول والكلام من خلال اللغة ستطعن نفسها بنفسها، تبكي كما يبكي الاكتئابي !! لا ندري لماذا ؟ هل يلوم نفسه، هل هو الشعور العميق بالذنب لأنه أراد أن يعلن عن رغبته في الكلام وربما منعها الأخ الكبير، وعبر لسان فصيح بالقول معنى ومبنى!! هل يردد عدت يا يوم مولدي؟ هل يندب حظه لأنه ولد ولم يُسأل؟ هل هو القدر أم اللا أختيار، من لم يتكلم سينفجر، إذا حمل بين ثنايا نفسه وعيًا مفرطًا، إنها الأذهنة، ومع ذلك فإنه يعبر عنها أحيانًا في موضع آخر من مواضع الأذهنة بهذاءات الفصامي البليغة ذات المعاني العميقة، والاستعارات المهولة بالأفكار وبديلها، أو كنايتها التي هي تعبير لا يقصد منه المعنى الحقيقي، وإنما يقصد معنى به ملازم للمعنى الحقيقي، أنه يزيح ما لا يريد قوله، ويستخدم التكثيف لإفكار يقاوم بها ما يريد أن يبعد نفسه وعن عالمنا هذا، أنه يعيش عالمه الخاص ويتحدث بلغة خاصة مع من أختارهم على المستوى المتخيل، لا عالمنا الواقعي الذي نعيشه، أما في موضع آخر وهو العصابية، إذا أدرك أحساسه وعرفه، وطلب المعونة والمشورة بغية التخلص من وساوسه ومخاوفه وتوهمه للمرض، عاش بمعرفة مع صراع دائم لا منتهي، ولأيامٍ بها من المتعة في الحياة ولكن معاناته لم تنتهي، أنها اللاسوية مقابل السوية المبتسرة- الناقصة.. أعني الذهان والعصاب، والامر سيان في الإنحرافات بكل أنواعها.

نتفق مع طروحات التحليل النفسي بأن التثبيتات في مراحل الطفولة من الولادة حتى البلوغ تضع علامات وتثبيتات، أي علامات وقوف للنكوص، وهو كما تعلمنا وما زلنا نتعلم من التحليل النفسي أن هذه العلامات – التثبيتات تضعف القسم المتطور من الشخصية " كما يدونها لنا مصطفى زيور" بمعنى ترهق كيان الفرد في معايشته بمواجهة ضروب الحياة المتعددة ومواجهة أزماتها، وأولها الخلاص من سلطة الوالدين "لأنني أريد أقول ولا أستطيع فيقول سيجموند فرويد: الحق أن الفرد إبتداءً من سن البلوغ، يتعين عليه أن يكرس نفسه لعمل خطير هو تحرير نفسه من والديه، ويضيف" مصطفى صفوان" قوله: الأب هو النقطة التي من خلالها يحكم الشخص على نفسه: كي يُقيمّ الفرد نفسه يجب أن يبتعد عن نفسه حتى يتمكن من رؤية نفسه.. وإلا لن يستطيع قول ما بنفسه عن أقرب الناس لنفسه، هي الأم، أو الأب، أو الأخ الكبير أو من يشكل شخصيته، ويرى "جاك لاكان" في رؤيته بأن الذات هي عبارة السلبية الحركية اللاواعية التي تقاوم الأسر في داخل بنية الهوية على مستوى الأنا، فالذات اللاواعية المتكلمة بحسب طرح لاكان تتكلم من خلال الأنا، بينما تظل متميزة عنها، ولا تختزل بها، ونقول فإذا لم يحدث هذا فإن الذات ستتهشم، تنشطر، تتشظى، لإنها لم تجد الكلام الذي تعبر به عن نفسها وما بنفسها، وأول تلك الأعراض السيكوسوماتيك – النفسجسمية، من قرحة المعدة، إلى القولون العصبي إلى السكري، أو إلى ضغط الدم وغيرها من أضطرابات جلدية مثل الثعلبة أو البهاق وغيرها، وقول "مصطفى زيور" أن خلجات النفس التي لا تجد لها منصرفًا ملائمًا موفقًا، مصيرها إلى الانحباس في تغيرات عضوية قد تكون على درجة عظيمة من الخطورة، ولذلك فإن "لاكان" فتح فتحًا عظيمًا حينما وجد أن اللغة بإمكانها أن تكون منفذ التفريغ المناسب للإنسان لكي يتكلم بلغة ولسان، وبما أن اللغة نظام عقلي إنساني له مفرداته ونحوه وبلاغته وصرفه وبنيته، كما يقول " فرج أحمد فرج" ويؤكد أيضًا بأن دور العوامل الذاتية في الشخصية في تطويع اللغة – تحريفًا وتشويهًا، كما في الهفوات وزلات اللسان والقلم، لمقاصد الفرد. وأزاء ذلك ما لا يمكن قوله سيكبت "الكبت" حتمًا، ولكنه سيعود ولكن ليس كما كبت، الفكرة التي لم يستطيع صاحبها قولها، ستعود بأفعال وحركات وسلوك لا يدري صاحبه أن أصله يعود لمرحلة سابقة من عهد بعيد في الطفولة، عهد فجر حياة الفرد وسنينه الأولى، لم يستطع التعبير عن رغبته المستهجنة فكان الكبت هي الآلية المناسبة لإخفائها ومحوها من الوجود المعلن، لكنها ذهبت إلى غياهب اللاشعور – اللاوعي بطريقة لا أحد يعرف كنهها إلا من تخصص في التحليل النفسي وسبر أغوار النفس ومداخلها ومنحنياتها وتعرجاتها.

حينما يتكلم الإنسان فإنه يتكلم بلغة، وأن اللغة عندما تتكون لدى الفرد، تكون وظيفتها هي تمثيل (أو بعبارة أحسن، حمل) الرغبة البشرية، والقول يعني هو حمل الرغبة في التعبير عن الشيء، والامتناع عن قوله فهو أما قمع في العلن وهو شعوري واعي، أو كبت بوساطة الحيل الدفاعية وتحويله إلى اللاشعور – اللاوعي وإلغاءه من حيز الواقع إلى مجاهل النفس.. حينما يمنع من القول فإنه حتمًا سيبكي آلمًا، لأنه إلغاء للرغبة، ويضيف " فيليب شملا" يلعب "رومان جاكوبسون" دورًا أساسيًا ضمن المؤلفين الذين يستشهد بهم لاكان، ولن نفهم بالضبط فيم " فيم يكون اللاشعور – اللاوعي مبنيًا مثل اللغة " حسب صيغة لاكان"، ما لم نتعود على النظرية القائلة بـ " مظهري اللغة " وهي النظرية التي طورها جاكبسون، أن نؤكد أو الآليات التي تعمل ضمن الأحلام، وفلتات اللسان والنكات، وضمن كل ما يشكل لوازم التحليل النفسي هي آليات اللغة نفسها، وهذا يفرض علينا أن ننظر عن كثب إلى النظرية اللسانية نفسها، ولدى جاكبسون محوران أساسيان للغة هما: المحور التأليفي والذي يضم انتاج اللغة ويقوم على مجموعة العلاقات التأليفية التي تعتقد بين لغوية تنتمي إلى مستوى واحد، تكون متقاربة ضمن ملفوظ معين، أو عبارة ما، أو مفردة . أما المحور الاستبدالي فيقول جاكبسون لا يتوقف الإبداع اللغوي عند الإنسان على العلاقات التأليفية فقط، إنما يستدعي أيضًا علاقات استبدالية تنتمي إلى مجموعة فرعية تتكون من وحدات لغوية قادرة على أن تضطلع بالوظيفة النحوية نفسها في ملفوظ ما، وبعبارة أخرى يمكن لكل وحدة لغوية من تلك المجموعة أن تحل محل الأخرى في جملة معينة .. وهكذا، إذًا يمكن للكلمات التي تقال أن تعبر عن شيء وربما يكون تحويرها للضرورة القصوى لكي تحقق راحة في النفس، لأن القول يحمل رغبة الإنسان في اطلاق ما بداخله، وإذا أحيل بينه وبين القول تَحدث بعد ذلك الهفوات أو زلات اللسان، أن منعت تمامًا يكون ما لا يمكن توقعه وهو البكاء وما نلاحظه في عدة مواضع من حياة الإنسان. إن الامتناع عن القول وحبس الفكرة من البوح بها هو في حد ذاته خلق لحالة من القلق والانفعال يؤدي إلى الهيجان الذي يظل محبوسًا مما يؤدي إلى اضطرابات نفسية ويقول " علي كمال" فإن الدرجات البسيطة من هذه الحالات تعد ضمن حدود الاضطرابات النفسية، بينما تعد الدرجات الشديدة منها اضطرابًا عقليًا، ويضيف "علي كمال" قد يصعب في الحالة الواحدة وضع حد فاصل وواضح بين ما هو نفسي وما هو عقلي من هذه الاضطرابات بالنظر للتشابه في تحسس المصاب العاطفي في كل منهما، ولامكانية تطور الانفعال النفسي إلى حالة عقلية وهو ما يتكرر في الحالات الحدية Border line، وهكذا يكون وجودنا عبر الكلمات وما نقوله بكل حرية، وقول كريستيان هوفمان في محاضرة له بتاريخ 13/ 4/ 2023 في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي بعنوان ما بعد الحضارة الأوديبية لمصطفى صفوان، يقول هوفمان: بالكلام نجد الحلول، الكلمة تبقى هي الوسيط بين البشر .

***

د. اسعد الامارة

 

في المثقف اليوم